سرَّاق الأوطان يسرقون الألحان!

“هافا ناجيلا”.. من الحجاز إلى تل أبيب.

“هافا ناجيلا” أشهر أهازيج اليهود الشعبية أصبحت الآن الأغنية الوطنية الأشهر للكيان الصهيوني المحتل وتعني بالعربية “هيا بنا نفرح”!

وكانت ولادتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية وإعلان “وعد بلفور” المشؤوم، وقد كتب كلماتها إبراهام إيديلسون، وهي كلمات سطحية وبسيطة جداً، وأما اللحن فهو سر ذيوعها وشيوعها وبريقها، وله سر مغمور وقصة عميقة الجذور.

لقد بلغ افتنان “تنوع” وافتتان “تعلق” اليهود بها أن تنوعوا في أدائها بين العمل الفردي والجماعي، والعزف بها على شتى الآلات والإيقاعات والسرعات! وهي تردد وتنشد في شتى المناسبات اليهودية وخاصة في أفراحهم كذا -وللأسف- في انتصاراتهم!

وجولة سريعة وخاطفة في فضاء الإنترنت المقروء والمسموع والمرئي تنبئك بحقيقة الخبر.

ومن يستمع لسحر هذا اللحن الأخّاذ يخالجه شعور عميق أنه قريب من ثقافته وهويته وتاريخه؛ لأن له ملامح شرقية عربية بل إسلامية!

القصة تبدأ من المدينة المنورة، على من نوَّرها وطهَّرها أزكى الصلوات والتسليمات، اشتهرت الحجاز عموماً والمدينة المنورة خصوصاً من الناحية الأدبية والفنية بالغناء، حتى إن مذهب الترخص في الغناء يؤخذ عن فقهاء المدينة الأوائل، وهو أمر مغروس في الجبلة والفطرة الحجازية، ولك أن تستشعر أصل ذلك في كشف النبي صلى الله عليه وسلم له حين قال في الحديث المروي في الصحيحين: “فإن الأنصار يعجبهم اللهو”؛ أي الغناء.

كما اشتهر عن شريف المدينة وأحد سادات التابعين فيها عبدالله بن جعفر الطيار أنه قال: “إن لي عند السماع هزة لو سئلت عندها لأعطيت، ولو قاتلت معها لأبليت”.

ومن مشاهير القيان المغنيات في المدينة حبّابة وريّا وسلّامة الملقبة بسلّامة القس، ولقبت بذلك نسبة لأحد قراء مكة ممن شغف بها وكان يلقب بالقس لعبادته، فغلب عليها لقبه حتى قال الشاعر يرثي حال هذا العابد العاشق:

لقد فَتنتْ رياّ وسلامةُ القَسـَّا        فلم يتركا للقس عقلاً ولا نفسا

فتاتان أما منهما فشبيهة الـ       هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا

تُكِنّان أبشاراً رقاقاً وأوجهاً         عتاقاً وأطرافاً مخضبة مـُلسا

وقد استقصى د. شوقي ضيف يرحمه الله الأخبار في ذلك في كتابه “الشعر والغناء في المدينة ومكة”، وقبله أبو الفرج الأصفهاني في “الأغاني”، والثعالبي في “يتيمة الدهر”، فقد ترجما لكثير من أهل الفن والغناء في المدينة خاصة في العهدين الأموي والعباسي.

وحتى لا يتشعب بنا الحديث في أوديته أعود لجادة الطريق فأقول: إن من أشهر مقامات الفن الشرقي مقام الحجاز، وهو مقام جميل ومؤثر يسحر الألباب ويأسر الأفئدة، ولا عجب أن يرتبط أداء الأذان -تاريخياً- بهذا المقام، بل أصبح هذا المقام هو المعبر فنياً عن التاريخ والحضارة الإسلامية، فيستخدم في كل دراما إسلامية، ولما كان اليهود من سكان المدينة فهم يتأثرون بمن فيها وما فيها، والفن يسيل في أهل المكان كسيولة اللغة والعادات والأعراف، فمن هنا بدأ الاتصال بين هذا المقام الأصيل والعرق اليهودي الدخيل!

مع هجرة اليهود، أو بعبارة أدق مع إجلائهم عن جزيرة العرب، يبدو أن هذا المقام الفني انتقل معهم، فهو من بقايا الثقافة العربية والإسلامية التي رافقتهم في هجراتهم المتعاقبة عبر القرون حتى وصل إلى مناطق تواجد اليهود في شرق القارة الأوروبية وتحديداً في أوكرانيا، ولما بدأت هجرة اليهود من بلدانهم التي كتب عليهم الشتات فيها إلى فلسطين المحتلة في أوائل القرن الماضي انتقل معهم هذا الوجه العربي النبيل الأصيل؛ أعني مقام الحجاز، ونسجوا عليه القصائد والأهازيج الشعبية، حتى استقر بهم قرار الفن وقانون الوتر على هذه الأغنية الشهيرة “هافا ناجيلا”، وحيث إن مقام الحجاز لم يكن يوماً ما محلاً لذائقة الأدب الموسيقى الأوروبي القديم والحديث عامة والأدب اليهودي خاصة، فهو مقام شرقي عربي إسلامي بامتياز خالص جعلنا ذلك نتأمل ونتساءل: كيف يمكن لهذا اللحن الشرقي الجميل والعربي الأصيل أن ينسب لليهود؟! لكن يأتي الجواب سريعاً، فلا عجب أن من انتحل الأرض وسرق الأوطان أن يسرق الألحان، أن يسرق منا مقام الحجاز ترنيمة الأذان الخالدة! وهذا الانتحال التاريخي والسطو الخفي لهذا المقام بالذات يخفي رمزية مؤلمة ومؤسفة لمن يتأملها.

إن من نكد الزمان أن نرى اليهود يسرقون أوطاننا ثم يرقصون على إيقاع ألحاننا!

 

__________________________________________

(*) أستاذ مشارك في التفسير وعلوم القرآن – كلية الشريعة جامعة الكويت.

Exit mobile version