خلق الوفاء

الوفاء من الأخلاق الأصيلة والسجايا النبيلة والأطباع الفضيلة، وهو من شيم النفوس الشريفة والأرواح المنيفة، يعظم صاحبه في العيون وتصدق فيه الظنون.

وإن ظفرت بصاحب وفيّ فاستمسك به ما حييت، فإن الصاحب الوفي نادر في الناس كندرة الماس، وقد قيل: أعجز الناس من فرط في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم، وقد قيل: المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه.

قال أيوب السختياني: إذا بلغني موت أخ لي فكأنما سقط عضو مني.

وقال المأمون: الإخوان ثلاث طبقات؛ طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه، وطبقة كالدواء لا يحتاج إليه إلا أحياناً، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه أبداً.

وقال أحدهم: الصاحب الوفي رقعة في قميص الرجل، فلينظر أحدكم بم يرقع قميصه.

قال الشاعر وصدق فيما قال:

إن أخاك الصدق من لن يدعك     ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب زمان صدعك        شتت شمل نفسه ليجمعك

وقال الشاعر:

اشدد يديك بمن وجدت وفاءه      إن الوفاء من الرجال عزيز

وقال الآخر:

سقى الله أطلال الوفاء بكفه       فقد درست أعلامه ومنازله

وقال غيره:

لعمرك ما مال الفتى بذخيرة      ولكن إخوان الثقات الذخائر

وقال الآخر:

أخاك أخاك إن من لا أخاً له          كساع إلى الهيجا بغير سلاح

وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه      وهل ينهض البازي بغير جناح؟!

وقال آخر ينعى أخاه:

أخ طالما سرني ذكره              فأصبحت أشجى لدى ذكره

وقد كنت أغدو إلى قصره         فأصبحت أغدو إلى قبره

وكنت أراني غنيّاً به              عن الناس لو مُدّ في عمره

إذا جئته طالباً حاجة              فأمري يجوز على أمره

الوفاء دليل حياة الروح وسموها ورقيها والمرء بغير الوفاء هو جسد بغير روح، الوفاء خلق الأنبياء، وقد زكَّى الله أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وامتدح وفاءه البالغ حين قال عنه: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى {37}) (النجم)، وجاءت بالتشديد لتنبئ عن المبالغة والتكرار والتأكيد على سجية الوفاء فيه، وجاء بعده سيد الأنبياء وإمام الأوفياء نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتوج بتاج الوفاء الأكمل الوفاء لربه ولدينه ولكتابه ولأمته ولزوجاته ولأصحابه وحتى لبعض متعلقاته ومركوباته من الإبل والخيل، والسيرة النبوية تفيض فيضاً من أمثلة الوفاء النبوي الذي لا مثيل له ولا عديل له.

قال الفصحاء البلغاء في الثناء على سجية الوفاء: كم أعلى الوفاء رتبة من اعتقله بيديه، وأغلى قيمة من جعله نصب عينيه، واستنطق الأفواه لفاعله بالثناء عليه، واستنطق الأيدي المقبوضة عنه بالإحسان إليه.

وقيل: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل، ودوام عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وكثرة بكائه على ما مضى من زمانه.

اللهم زيّنا بزينة الإخاء، وجمّلنا بخلق الوفاء، وارزقنا مرافقة سيد الأنبياء وإمام الأوفياء صلى الله عليه وآله وسلم، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {10}) (الحشر: 10).

 

_________________________________

(*) أستاذ التفسير في كلية الشريعة جامعة الكويت.

Exit mobile version