الكرامات والطاقة النفسية

تمثل الخوارق للإنسان عالماً آخر بعيداً عن المادية القاتلة التي يحياها كل يوم، ولذلك تظل الروايات التي تحتوي على خوارق من أكثر الروايات مبيعاً في العالم، مثل روايات “هاري بوتر”، ورواية “سيد الخواتم”، وكذلك تصبح الأفلام والمسلسلات التي تتناول مثل هذه الخوارق من أوسع المسلسلات والأفلام انتشاراً، وكما ذكر بعض علماء النفس، فهذه الأعمال الفنية التي تحتوي خوارق تمثل أملاً للإنسان الذي يعاني ثقل الحياة المادية كل يوم؛ وبالتالي تمثل شحنة نفسية إيجابية لكي يستمر مقارعاً الحياة المادية الجافة اليومية.

تغير الموقف العلمي من الخوارق على مدى سنوات عديدة، من الرفض التام بناء على التصور المادي البحت للعالم، إلى قبول خجل لبعض الظواهر التي لا تقبل تفسيراً علمياً مادياً، ونحن الآن في مرحلة أن كثيراً من الظواهر التي كان ينفيها العلم المادي أصبح يتقبلها ويدرسها، محاولاً التعرف عليها وفهمها، وأصبحت فروع من العلوم تتناول هذه الظواهر مثل ما يسمى “الباراسيكولوجي”، الذي أصبح محل اهتمام عالمي منذ فترة، بل وخصصت جهات حكومية في أمريكا وروسيا وبريطانيا دعماً مالياً لدراسة هذه الظواهر منذ فترة بعيدة، وتشمل ظواهر مثل التخاطر والمعروف بـ”التلباثي”، وكذلك تحريك الأشياء عن بُعد، وقراءة الخواطر التي تمر في أذهان آخرين، وكذلك الرؤى والنبوءات المستقبلية التي يدعيها البعض.

المعجزة والكرامة

موقف الإسلام منذ الوحي الأول، وهو في ذلك يماثل كافة الديانات السماوية، يقبل هذه الظواهر الخارقة، ويضع لها أصولاً وضوابط. 

فيفرق أهل العلم بين المعجزة والكرامة، فيطلقون المعجزة على خوارق الأنبياء، والكرامة على خوارق الأولياء، ولكنَّ هذين المصطلحين ليسا موجودين في الكتاب والسُّنة، وإنما اصطلح عليهما العلماء فيما بعد، وإن كانا في مدلولهما يرجعان إلى ما تقرر في النصوص من القرآن والسُّنة.

وعرف العلماء المعجزة بأنها خارقة للنبي لإثبات نبوته، أما الكرامة فهي خارقة للمؤمن دالة على صلاحه وقربه من الله تعالى.

وفي الوقت نفسه، لم ينفِ علماء المسلمين أن الخوارق تحدث لغير المؤمنين، بل وتحدث للأشرار أيضاً، وذكروا شروطاً كثيرة في التفريق بين كرامات الأولياء وخوارق المبطلين، وقد كتب في ذلك علماء كبار كشيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك الشوكاني، وغيرهما.

وكتب أهل العلم كذلك كتباً في كرامات الأولياء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، التي ثبتت بالأسانيد الصحيحة، وما زال الناس يرون كرامات لعديد من الصالحين من باب إجابة الله لدعائهم فوراً، وبقاء أجسام بعضهم سليمة في قبورهم مع مرور سنوات عديدة عليها، وكذلك رؤى البعض التي تأتي كفلق الصبح.. وغيرها من تلك الأمور.

كرامات الصحابة

والروايات عن الرعيل الأول من الصحابة والتابعين كثيرة، منها ما رواه البخاري، وأحمد -واللفظ له- عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، “أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، وَعَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ كَانَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ حِنْدِسٍ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ أَضَاءَتْ عَصَا أَحَدِهِمَا فَكَانَا يَمْشِيَانِ بِضَوْئِهَا، فَلَمَّا تَفَرَّقَا أَضَاءَتْ عَصَا هَذَا وَعَصَا هَذَا”.

ومنه ما رواه الذهبي، والبيهقي، وابن كثير رحمهم الله عن الصحابي الجليل عكاشة بن محصن في غزوة “بدر”: “كَانَ عكاشة بن محصن مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ، هَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْراً وَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ بَلَاءً حَسَناً، وانكسر سيفه، فأعطاه رسول الله يومئذ عرجوناً، فعاد في يده سيفاً أمضى من الحديد، شديد الْمَتْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ السَّيْفُ يُسَمَّى الْعَوْنَ”. (البداية والنهاية، 6/ 338).

وروى البخاري أيضاً من طريق عبدالملك بن عمير عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: “شَكَا أَهْلُ الكُوفَةِ سَعْداً إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّاراً، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاَةَ العِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً أَوْ رِجَالاً إِلَى الكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الكُوفَةِ وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِداً إِلَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفاً، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِداً لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْداً كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي القَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِباً، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ -يعني هذا الرجل- يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ المَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ”. 

روى البخاري عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ، وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ، إِذْ جَالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتِ الفَرَسُ، فَسَكَتَ وَسَكَتَتِ الفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الفَرَسُ فَانْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيباً مِنْهَا، فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ، فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى مَا يَرَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ”، قَالَ: فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْهَا قَرِيباً، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ المَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لاَ أَرَاهَا، قَالَ: “وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟”، قَالَ: لاَ، قَالَ: “تِلْكَ المَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، لاَ تَتَوَارَى مِنْهُمْ”.

وروى البخاري حديث خبيب بن عدي رضي الله عنه، لما أسره المشركون، وكَانَ خُبَيْبٌ قد قَتَلَ الحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ عِنْدَهُمْ أَسِيراً، فقال عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ: قالت بِنْتَ الحَارِثِ: “وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيراً قَطُّ خَيْراً مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْماً يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ”، وَكَانَتْ تَقُولُ: “إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْباً”.

أثر الكرامة

وهذه فقط أمثلة، ولو توسعنا فيها لاحتاجت إلى مجلدات، ولكن يبقى السؤال المهم الذي أشرنا إليه في بداية المقال وهو: لماذا الكرامة؟

الإجابة عند أهل العلم من القدماء أنها مكرمة إلهية للعبد الصالح، وهذا صحيح، ولكن السؤال: ما أثرها؟

والإجابة أن أثرها على صاحب الكرامة شديد، فهو يشعر بتأييد الله له؛ ولذا كان الأولياء يخفون كراماتهم حتى لا تصبح محل شهرة، ولا تؤثر على عبوديتهم بين يدي الله عز وجل، ولكن أبى الله عز وجل إلا أن يظهر هذه الكرامات بين الفينة والأخرى؛ لتكون لنا أيضاً زاداً نفسياً من الأمل والإيمان أنه لا شيء يستحيل مع قدرة الله، وأن الحياة المادية الجافة التي نحياها التي تقوم على الأسباب والنتائج ما هي إلا كما قال الله عز وجل: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم: 7).

فالكرامات مؤشرات لقدرة الله تعالى، ومؤشرات لطبيعة اليوم الآخر المختلفة أيضاً عن عالمنا هذا، ومؤشرات أن العلم الذي نعرفه ضئيل جداً مقارنة بعلم الله، وأن ما نعرفه هو ظاهر العلوم وليس بواطنها.

ما زال المكروب والمظلوم عندما يقرأ إجابة الله الصالحين ينتظر أن يجيبه الله ولا يضربه اليأس، وما زالت الأمة الإسلامية مع ما يمر بها من تحديات وكروب تقرأ كرامات الله للمؤمنين ونصرهم في مواضع يستحيل النصر فيها بمقاييس البشر؛ فتستبشر نفوسهم، وتنتظر فرج الله ونصره الضعفاء والمكروبين والمظلومين.

فالكرامات في الحقيقة زادٌ نفسيٌّ لصاحبها ولمن يراها أو يسمع بها، وهي زاد إيماني يذكّرنا بأن الأمل دائماً موجود بوجود الله عز وجل.

 

_____________________

(*) مدير مركز شؤون العالم الإسلامي – الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا.

Exit mobile version