الإرشاد النفسي.. الميثاق الأخلاقي والقواعد الحاكمة

العمل في مهن تقديم التدريب والتوجيه والمساعدة والإرشاد والعلاج للأفراد والمجموعات، ليس عبثاً أو متاحاً لكل من يرغب؛ لأن تقديم المساعدة إن لم تقدم من متخصص مرخص، فقد تُحدث ضرراً يفوق حجم المشكلة ذاتها، والأمر أشبه بمن يقدم مساعدات الإسعاف الطبي في حال الطوارئ والحوادث، إن لم يكن متخصصاً فقد يؤذي؛ لذا حرصت الدول والمؤسسات والجمعيات المهنية المتخصصة أن تجعل للعاملين بمجالات تقديم المساعدة والعلاج والتنمية مهناً متخصصة تحتاج إلى ترخيص واعتماد وإشراف للقيام بها؛ فهي ليست متاحة لكل من أخذ دورة أو مجموعة من الدورات أو حصل على دبلومة مهنية أو أكاديمية، بل تتطلب العديد من الشروط والإجراءات اللازمة للقيام بها.

للعمل بمجال الإرشاد والعلاج النفسي، تشترط غالبية الدول والجمعيات المتخصصة شخصاً حاصلاً أولاً على شهادة جامعية متخصصة كشرط أساسي، ثم شهادات عليا تخصصية تشمل الدبلوم، والماجستير -وتشترط بعض الدول الدكتوراه الأكاديمية في المجال المخصص- والتدريب والإشراف لساعات في جهات معتمدة تحت مشرفين معتمدين لساعات تصل إلى 3000 ساعة، أو أعوام بين عامين من التدريب إلى 5 أعوام بعد الحصول على المؤهلات العلمية، ثم الخضوع لاختبار ومقابلة للحصول على ترخيص مزاولة مهنة، وبعد الحصول على الترخيص يشترط الاستمرار في التعلم والتطوير، والالتزام بالمواثيق الأخلاقية المحددة للعمل، وتجديد تلك الرخص كل أعوام محددة.

فالأمر ليس عبثاً أو متروكاً لكل من يجيد الإلقاء ويمتلك مهارات الإقناع، بل يتحتم معه الاعتماد التخصصي العلمي والتدريب الإشرافي للقبول، وإلا فالمساءلة القانونية؛ فعلم الإرشاد والتدريب قائم على تقديم المساعدة المبنية على نظريات ونماذج مثبتة علمياً، وليس اجتهادات شخصية، أو آراء نظرية، أو دينية بحتة، والعديد من الدول والهيئات تطبق تلك المعايير بصرامة كافية لضمان تقديم خدمات إنسانية راقية للأفراد. 

ويُقْسم الأفراد المعتمدون والمرخصون للعمل في مهن المساعدة والإرشاد الإنساني على الالتزام بالقواعد والمواثيق الأخلاقية التي تضعها مؤسساتهم المرجعية، وتعتبر هذه المواثيق الأخلاقية  بمثابة قواعد يتفق عليها أهل المهنة في تقديم مهنتهم للغير؛ بحيث يمكنهم الرجوع إليها عندما يستشعرون أن هناك خطراً في داخل المهنة، أو عندما يتساءل من هم خارج المهنة عن طبيعة العمل في تلك المهنة؛ فهي بمثابة صمام الأمان الداخلي والخارجي، ويمثل الميثاق الأخلاقي مجموعة المعايير القائمة على مجموعة القيم المتفق عليها، وتمثل ما نتوقعه من تصرفات مهنية من جانب المختص في الإرشاد في علاقته بزملائه في المهنة، وبمن يقدم لهم الخدمة الإرشادية، وكذلك بالمجتمع بوجه عام، ويكتسب هذا الدستور الأخلاقي  قوته واحترامه من قوة الالتزام الأدبي والإجماع الصادق على أهمية تنظيم هذه المهنة من جانب العاملين فيها.

قواعد عامة

 وهناك مجموعة من القواعد العامة التي اتفقت عليها غالبية المواثيق الأخلاقية للعاملين بمهن الإرشاد والتدريب، هي:

الأولى: الإحسان وعدم الإيذاء: وتتمثل في بذل مقدمي الخدمات الجهد في تقديم المساعدة وإفادة الأفراد، والحرص على عدم إلحاق أي ضرر بهم، والسعي إلى حماية مصالح وحقوق الأفراد.

الثانية: الإخلاص والمسؤولية: وتتمثل في بناء علاقة مبنية على الثقة مع الفرد، وإدراك المسؤوليات العلمية والمهنية تجاه المجتمع من حولهم، والعمل على إعلاء معايير السلوك المهني، وتوضيح أدوارهم المهنية والالتزامات المفروضة عليهم، وتحمل مسؤولية نتائج سلوكياتهم وتصرفاتهم، والتحكم في تضارب المصالح الشخصية التي قد تؤدي إلى الاستغلال أو الضرر بشكل عام.

الثالثة: النزاهة: وتتمثل في إلزام مقدمي الخدمات تعزيز مفهوم الدقة والأمانة والصدق في أداء المهنة والعلم والتدريس، والابتعاد عن السرقة أو الغش أو الاحتيال أو التحريف المتعمد للحقائق، وبذل الجهد في الحفاظ على وعودهم، وتجنب الالتزامات المبهمة أو غير الواضحة.

الرابعة: العدالة: وتتمثل في إدراك مقدم الخدمة ومقدم الخدمة النفسي أن العدالة والإنصاف تؤهلان جميع الأشخاص للاستفادة من الخدمات المقدمة، بجودة متساوية من ناحية الإجراءات والعمليات.

الخامسة: احترام حقوق الناس وكرامتهم: وتتمثل في احترام كرامة وحقوق وخصوصيات جميع الناس واحترام قراراتهم المصيرية، واحترام الاختلافات الثقافية الفردية، مثل: العمر والنوع والهوية الجنسية والعرقية والثقافة والأصل القومي والدين والعجز واللغة والوضع الاجتماعي والاقتصادي.. وغيرها، وأخذ هذه العوامل في عين الاعتبار عند العمل مع أي فرد من هذه الجماعات، كما يجب على مقدم الخدمة القضاء على أي تحيز.

معايير أخلاقية

كما حددت مواثيق العمل المعايير الأخلاقية المتعلقة بكفاءة مقدم الخدمة فيما يتعلق بحدود عمله، أو بقضايا التعامل مع متلقي الخدمة، ومنها:

– من حيث حدود العمل: يؤدي مقدم الخدمة عمله في حدود تخصصه فقط، معتمداً في ذلك على دراسته وتدريبه وخبراته المهنية واستشاراته، ويتعهد عند تقديم خدمات في المجال البحثي أو التطبيقي أن يكون لديه تدريب كافٍ أو تعليم أو خبرة مهنية سابقة متعلقة بمجال خدمات، كما أن عليه أن يأخذ خطوات لكي يقدم عمله بكفاءة عالية، وإذا رأى مقدم الخدمة أن مشكلاته الشخصية بدأت تمنعه من أداء عمله بكفاءة؛ فعليه أن يتخذ الإجراءات اللازمة للحد من ذلك.

– من حيث التمييز العنصري: على مقدم الخدمة أن يكون متحرراً من كل أنواع التمييز العنصري، سواء المتعلقة بالسن أو النوع أو الدين أو العرق أو اللون أو الثقافة أو أي شكل من أشكال التمييز العنصري. 

– من حيث التحرش الجنسي: على مقدم الخدمة أن يبتعد عن كل أشكال التحرش الجنسي؛ سواء اللفظية أو الفعلية، أثناء العمل، وعليه أن يبتعد عن كل السلوكيات التي تهين الأشخاص الموجودين معه في العمل؛ سواء المتعلقة بالعمر أو النوع أو العرق أو الثقافة أو الدين أو اللغة أو المكانة الاجتماعية والاقتصادية.

– ومن حيث تجنب الأذى: على مقدم الخدمة أن يأخذ خطوات مسؤولة لتجنب إيذاء الأفراد والطلاب، والمشرفين والباحثين وكل من له علاقه معهم في العمل.

– من حيث العلاقات المتعددة وتضارب المصالح (العلاقات المتعددة تعني إما أن يكون مقدم الخدمة على علاقة مهنية مع شخص وفي الوقت نفسه تربطهما علاقة اجتماعية وثيقة): في حالة تضارب مصالح مقدم الخدمة -الشخصية أو العلمية أو القانونية أو المادية- مع عمله عليه أن يتوقف عن عمله إذا رأى أن هذه المصالح تخرجه عن الموضوعية، أو عن أداء عمله بكفاءة وفعالية.

– من حيث الموافقة المسبقة: على مقدم الخدمة النفسي الحصول على موافقة الفرد على كافة الإجراءات الإرشادية، إلا إذا كان قد كُلف من قبل القانون.

– العلاقة الحميمة مع أقارب الفرد: على مقدم الخدمة ألا يدخل في علاقة حميمة مع الأفراد الذين يعرفون الفرد أو أقاربه أو الأوصياء عليه، وعليه ألا يقبل تقديم الخدمة مع  شخص كانت له علاقة معه في وقت سابق.

– من حيث السرية: المسؤولية الأساسية لمقدم الخدمات هي حماية ما يصرح به الفرد كجزء أساسي للعلاقة الإرشادية؛ فالسرية مفهوم أخلاقي، وفي معظم الولايات في أمريكا لا يجوز قانوناً للمرشدين أن يصرحوا بأي معلومات عن الفرد، إلا إذا كانت هناك ضرورة قانونية لإنهاء السرية؛ مثل حالات الإساءة إلى الطفل، والإساءة إلى الكبار في السن، والإساءة إلى أفراد بحاجة إلى رعاية، ووجود خطر يهدد الفرد نفسه أو آخرين، وعندما يشعر مقدم الخدمة أن الفرد بحاجة ماسة إلى إدخاله المستشفى.

وفي النهاية، فإن العديد من الدول لديها قوانين تخص مهن الإرشاد منذ مطلع القرن العشرين، وكثير من الدول العربية أيضاً لديها قوانين لتنظيم عمل المرشدين، ويحتفظ العديد من الدول بميثاق أخلاقي شبه متفق عليه عالمياً.

كل ذلك من أجل ضمان خدمة مهنية تسهم في تحسين حياة الأفراد، وتزيد من جودة حياتهم، وتخفف من معاناتهم، لا أن تزيد من تعاستهم، ومن الفجوة في الأسرة والمجتمعات.

 

________________________________________________

(*) دكتوراه في علم النفس – معالج نفسي معتمد في العلاج المعرفي والعلاج بالواقع.

Exit mobile version