آسام.. قصة شعب يفقد الوطن بين عشية وضحاها

لم تزل كشمير تفور وتثور، ولم يزل شبح البطالة والفاقة يخيم فوق الملايين، ويخنق مستقبلهم، ولم يزل العنف والاعتداءات العنصرية تتصاعد وتتزايد، والشباب يتيهون في الأرض بحثاً عن الفرص التي تبهج زهرة حياتهم.

لكن، لم تقضّ كل هذه الأوضاع الحرجة مضاجع الحكومة الهندية، ولم تحرك ساكنها، حتى عادت مجدداً بإثارة قضية أخرى حساسة؛ هي قضية «أن آر سي»؛ وهي تسجيل المواطنين الذين سكنوا في ولاية آسام، هادفة بهذه الحركة المروعة إلى إبادة المسلمين، ونفيهم، وزجهم في معتقلات قسرية أشبه بزنازين «هتلر» البربرية، وقد تزامنت هذه القضية المأساوية مع قضية كشمير؛ من قمع وبطش واعتقال وتنكيل.

تقع ولاية آسام في أقصى شمال شرق الهند، تحدها شمالاً دولة بوتان، وغرباً بنجلاديش، وتجاورها كل من ولايات بنغال الغربية، وميزورام، وتربارا، وناجلاند.

وفي الوقت الذي يقف فيه حزب بهاراتيا جاناتا متأهباً لكل الألاعيب السياسية لتغطية الثغرات التي لاحقته في الأشهر الماضية، نجد صمتاً مريباً من قِبَل الأحزاب المعارضة، حيث نسيت أولوياتها وانشغلت بالمشادات الكلامية الفارغة، والأحزاب اليسارية، بدورها، ذابت ثورتها؛ فانسحبت من الميدان لتقتنع بالتصريحات الصحفية والشعارات الجوفاء، بل اضطرت قيادات الأحزاب المسلمة العلمانية إلى الصمت المطبق، وتهمشت عفوياً من متن السياسة الهندية. 

يسود المشهد السياسي الهندي الخوف والهلع، ولا نجد أحداً يفتح باب النقاش حول هذه القضايا التي تضع حياة الملايين في مهب الريح العاتية. 

إذن، ما قصة «أن آر سي» التي أصبحت كابوساً على أولئك الملايين الغرباء في وطنهم؟

هي عبارة عن سجل يشمل أسماء المواطنين الذين يمكنهم إثبات قدومهم إلى ولاية آسام الهندية قبل 24 مارس 1971م، وهو اليوم الذي سبق إعلان دولة بنجلاديش استقلالها عن باكستان، والذين لم يشملهم السجل عليهم أن يُظهروا أو يثبتوا هويتهم الهندية، أو يدخلوا في المعسكرات بعيداً عن أطفالهم وذويهم حتى يحسم أمرهم، وقد تعامل حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم مع هذه القضية بانتقام، ولم يتخذ قراراً منصفاً في المئات الذين عاشوا وخدموا الهند سنين طويلة، فمنهم من خدم في الجيش الهندي، ومنهم من تولى مناصب حكومية مرموقة.

وجاءت حملة توثيق الجنسية تحقيقاً لطموحات المنظمات الهندوسية المتطرفة للسيطرة على مناطق المسلمين، وشيطنتهم وابتزازهم، وما يزيد من شراسة هذه الحملة هو تحميل المتهمين باللجوء غير الشرعي مسؤولية إثبات هويتهم وأصولهم الهندية من خلال اثني عشر طريقاً، بدلاً من تحميل المسؤولية للذين ألقوا التهم عليهم، فإن استطاعوا ببعض الطرق إثبات هويتهم لم يغنِ ذلك عنهم شيئاً، بل يبقون في مرتبة اللاجئ غير الشرعي، أو الناخب المشبوه، ولو بحثنا عن أصل هذه الأزمة وجذورها، فسنجدها راسخة في أجندة بهاراتيا جاناتا الذي قلب الحقائق رأساً على عقب، وفرض معايير جائرة لتسهّل له طرق الإبادة الجماعية الصامتة.

أحقاً هؤلاء (المسلمون) كانوا فوضويين حتى تطردهم الحكومة من أراضيهم، أم كانوا جواسيس بنجلاديش حتى يحاصَروا بجيوش لا ترحم؟ فتاريخ هؤلاء الألوف المؤلفة يعود إلى ما قبل استقلال بنجلاديش عن باكستان، حيث التزموا بأرضهم، ولم يقتنعوا بالذهاب إلى بنجلاديش وطنهم الجديد، بل عاشوا في أراضيهم وأراضي أجدادهم.

إذن، ماذا تهدف الحكومة الهندية من وراء هذا الأمر؟

إنه استفزاز مشاعر المسلمين وابتزازهم فحسب؛ حيث نرى قرى الهندوس في مأمن من هذه الضجة، رغم أن هذه القضية تشملهم أيضاً، لكن بوصلة الحكومة تغيرت نحوهم، بل حاولت تجنيسهم، فما هذه التفرقة في قضية وطنية عامة؟! فالهندوس في أمن وسلام، لا يعكر صفوهم تهديدات حكومية، ولا تزعجهم تلك الخطابات الحنجورية في الوطنية.

وعلى سبيل المثال؛ عندما تتعرض تلك المناطق المسلمة لكوارث طبيعية كالفيضانات والانهيارات الأرضية، مكبدة خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، لا تجد اهتماماً من قِبَل الحكومة للإغاثة، ورفع الضرر.

الإسلام في آسام

ربما يجهل الكثيرون أن الإسلام هو الديانة الثانية بعد الهندوسية من حيث العدد في ولاية آسام؛ بل الأكثر نمواً في تلك المنطقة، حيث يشكل المسلمون فيها نسبة 34%، في المرتبة الثانية بعد كشمير في عدد السكان المسلمين، بل لهم وجود قوي في بعض المحافظات، مثل: باربيتا، ودارانغ، وهايلكاندي؛ وهو ما جعلها تحت تهديدات بهاراتيا جاناتا، ليشعل فيها صراعات عنصرية دموية، كما حدث في مجزرة «نييلي» عام 1984م، التي قتل فيها أكثر من 30 ألفاً من المسلمين، ومما يجعل وضعها صعباً هو اجتماع الفرق والملل المختلفة ضد المسلمين، من البوذيين والهندوس والقبائل، الذين اتفقوا على هذه الصفقة الجائرة للنيل من المسلمين، ونهب أراضيهم الزراعية. 

ورغم كل هذه التهم التي وجّهت نحو مسلمي آسام، وهذه الحملة التشكيكية المتعصبة؛ فإن المسلمين التزموا الهدوء في هذا الجو الملبد، وسعوا إلى إثبات هويتهم العريقة أمام المحاكم الخاصة التي فتحت من أجل هذه القضية، والأمر الذي قلب السحر على الساحر -حسب ما نقلته بعض المصادر- أن السجل الأخير يشكل خطراً كبيراً على الهندوس أكثر من المسلمين، حيث تضمن السجل معظم المسلمين بشكل قانوني، بينما أخرج السجل ذاته آلافاً من الهندوس الذين توغلوا داخل الهند مستغلين بلبلة المنطقة في فترة الحروب بين باكستان وبنجلاديش؛ ما شكَّل صدمة لطموحات بهاراتيا جاناتا، حيث أخطأ في خطته المرسومة لبث الرعب في قلوب المسلمين.

ولو عدنا بلفتة سريعة إلى فترة السبعينيات التي تحكي عمق بشاعة هذه الأزمة التي ترسم لنا الصورة الواقعية لخلفيتها الغامضة، يتضح لنا أن حزب بهاراتيا جاناتا لم يكن في فترة من التاريخ من حماة وطنية الهند، ولا من مرابطيها الأوفياء؛ حيث إن حزب «آسام غانا فرشت» الذي يتبنى أفكاراً متطرفة كان في مقدمة الفوضويين في عهد «أنديرا غاندي»، حتى أشعل أتباعه فتنة كبيرة وقتها؛ ثم انقلب هذا الحزب وتدثر في أحضان حزب بهاراتيا جاناتا، وفي ظلال هذه الأحداث والحقائق التاريخية، نجد أن هذه الأزمة وليدة فكرة متعصبة جاءت لتعمق خندق الخلاف وتصطاد في الماء العكر.

يتضح لكل من يتتبع أحداث الهند الأخيرة، أن الحكومة الهندية تستهدف المسلمين تضييقاً وتطويقاً، وتمارس سياسة العنف وبث الذعر، ولا تدخر جهداً منذ وصولها للسلطة في سبيل استهداف المسلمين والتقليل من شأنهم ومكانتهم عالمياً، وقد نجحت في تعتيم هذه العمليات القذرة التي ترفض الحقوق الإنسانية تحت ستار الوطنية ومحاربة الفوضويين، بل استطاعت تهميش الأحزاب المعارضة حتى لا تتدخل في هذه القضايا المتأججة، والأمر الذي جعل بهاراتيا جاناتا يتحرك كما يريد، ويفعل ما يشاء بأريحية؛ هو الاستسلام والصمت المطبق من قبل القيادات والأحزاب المعارضة، ولا غرو إذا قلنا: إن «الوطنية» هي السلاح الأخطر الذي اخترعه صناع الهند الحديثة، وبها يقتلون الشعب، وبها يحيونه.

Exit mobile version