رسائل العنكبوت

يجب أن تُسخَّر شبكات التواصل الحديثة في مصلحة البشر وحسن تواصلهم ودعم القيم الأخلاقية 

بعض الرسائل العنكبوتية قد تشارك في إثارة الشكوك بدين الله وزرع بذور الريبة في القلوب ضعيفة الإيمان 

من الناس من يظن أنه يفسر آيات القرآن الكريم بنشر كل ما يصل إليه دون التأكد من صحته

إنها رسائل تحيط بنا من كل جانب، وتحاصرنا من كل اتجاه، لا تعرف وقتاً محدداً، ولا تقتصر على زمن معين، إذ يصلنا منها كل يوم ما لم نحِط به عداً، ولا نستطيع له حصراً، رسائل من كل لون وشكل، ومن كل ملة وجنس، بعضها مسالم، وأكثرها يحمل بين سطورها سُمَّ العنكبوت الأسود، لا تكاد تفيق منها إلا على دعاء يُدعَى به على قارئها إن لم يقم بنشرها؛ فيدعَى عليه بالعمى أو الشلل أو غير ذلك مما يحلو لصاحبها أن يهديه من دعواته العنكبوتية!
فهي رسائل متداخلة كخيوط العنكبوت، تنتشر في كل صوب، وتحيط بنا إحاطة العنكبوت بفريسته، وهذا ليس من نسج الخيال، بل هي حقيقة نعيشها ويعاني الكثير منا بسببها حين تؤدي الغرض معكوساً، وتجعل الفهم منكوساً، أو تفسد أكثر مما تصلح، وقد تضيع الوقت، وتشوِّه الفهم، وتروِّج للجهل.. فهل عرفتها؟!

إنها رسائل الشبكة العنكبوتية التي لم تترك بيتاً إلا ودخلت إليه، أو خرجت منه، ومن المفترض أنها ما وُجدت هي ووسائلها من الهاتف المحمول (الموبايل) وإخوته (الحاسوب الصغير منه والكبير، والآيباد، وما شابه ذلك) من الأجهزة الحديثة التي هدى الله تعالى العقل البشري لإيجادها، وسخر له الفضاء الواسع بما فيه ليستفيد بها، حتى إنها لتصل إلى الآفاق البعيدة في لمح البصر عبر شبكات الإنترنت العجيب الذي جعل الله به الدنيا كغرفة واحدة صغيرة!
إن هداية الله تعالى الإنسان لكل ما هو جديد ونافع من شبكات التواصل الحديثة إنما هي لتصب وتُسخَّر في مصلحة البشر وحسن تواصلهم وتقوية الروابط الإنسانية فيما بينهم، ودعم القيم الأخلاقية لتسود في أوساطهم، وقد سخرها الله للإنسان بعد أن هداه إليها ليتنعم بها كسائر النعم، ثم إنه سيُسأل عنها: هل استخدمها فيما يرضي ربه؟ وهل أدى حقها لينعم بالأجر والزيادة، ويكون له الصدارة والريادة؟
رسائل العنكبوت.. و»واتساب»:
ومن أسرع هذه الوسائل التي تصلنا على هواتفنا صباح مساء رسائل «واتساب»، وهي خدمة رائعة لأصحاب الهواتف المحمولة، إذ يتواصلون مع الأهل والأصدقاء في شتى بقاع العالم من خلاله، عبر الرسالة المكتوبة، أو الصوتية والمرئية، وبلمسة خفيفة على شاشة الهاتف تطير الرسالة في سرعة عجيبة لتحط رحالها عند من أرسِلت إليه! ومما لا شك فيه أنها وسيلة لبث الأفكار مهما كان نوعها، ونشر الأخبار صادقة كانت أو كاذبة.
ومن هنا كانت خطورتها علينا وعلى مجتمعاتنا بعد أن صارت جيوبنا وجيوب أولادنا صغاراً وكباراً تهتز بها؛ فصار حتماً علينا مراعاة مضمونها وتصحيح محتواها من الناحية الشرعية، ونبذ ما لا يوافق الشرع منها، ومعرفة الضوابط والشروط التي يجب أن تراعَى عند كتابتها وإرسالها، فهي لم تعد رسالة عادية بل صارت عالمية.
رسائل العنكبوت.. والدعوة إلى الله:
إن من مزايا الرسائل العنكبوتية بأنواعها استخدامها في الدعوة إلى الله تعالى، ونشر رسالة الإسلام الصحيحة دون غلو أو تفريط، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، بأسلوب دعوي راق، دون الوقوع في الغلظة والفظاظة، وهذا يتطلب من المُرسِل علماً صحيحاً وبصيرة وهدى، ورفقاً ولِيناً، وفقهاً وورعاً، حتى لا ينشر البدعة بدلاً من السُّنة، وحتى لا يروج للأحاديث المكذوبة والأفكار المتطرفة المنحرفة دون قصد منه، فلا تكفي منه النية الحسنة فقط في إرسالها؛ لأن الكلمة أمانة والدعوة أمانة، والإنسان مسؤول عن الإحسان في ذلك كله، لذا فإن عليه إذا نشر حديثاً أن يتأكد أولاً من صحته حتى لا يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل في الوعيد المذكور في قوله: «لا تكذبوا عليَّ، فإنه من كذب عليَّ يلج النار» (رواه البخاري ومسلم)، وإذا أراد تفسير آية أو إيراد فتوى أو نقل رأي فلينقل عن علماء ثقات ربانيين؛ حتى يصيب في نقله، مع توثيق ذلك بأمانة وورع، كي لا يكون سارقاً حين ينسب لنفسه ما لم يقل.
رسائل العنكبوت.. والتشكيك في الدين:
أما عن إثارة الشكوك في دين الله، وزرع بذور الشك في القلوب المؤمنة الضعيفة، فإن الرسائل العنكبوتية تشارك فيها ولا تخلو منها، ومن الأمثلة على ذلك ظهور بعض من يتزيون بزي العلماء أو يعتلون كراسي أهل العلم، ثم تجدهم يخالفون النصوص الشرعية من القرآن والسُّنة النبوية، ويخرقون إجماع علماء الأمة، مما يوهم المتلقي منهم أنهم أتوا بجديد من العلم غير مسبوق، وهم في الحقيقة لا يرجعون إلى ضوابط الاجتهاد، ولا إلى أدنى قواعد وأصول استنباط الأحكام الشرعية.
ومن الأمثلة على ذلك ظهور من يوجب صيام رمضان على المرأة الحائض مفسراً الآيات باجتهاده، وهو ليس من أهل الاجتهاد، وكمن يحاول عبثاً إقناع الناس أن الحجاب ليس بفريضة على المسلمة، ومن يلحق قوامة الرجال بالنساء فيجعلهن قوامات، ويلغي قوامة الرجال مع أنها ثابتة بنص القرآن الكريم.. وغير ذلك الكثير.
وإن نشر مثل هذه الأفكار والآراء غير المنضبطة بقواعد شرعية صحيحة تشير الشكوك وتنشر البلبلة في عقول الكثيرين لا سيما الجيل الجديد الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بشبكات التواصل، بل ولم يتلق التعليم الديني الكافي للتصدي لتلك الشبهات.
احذر مثل هذه الرسائل:
إنها رسائل ظاهرها فيه الدعوة إلى الله، لكنها يختلط بها الكذب والتقول في الدين بغير علم، عمداً من أعداء الإسلام، وجهلاً من أبنائه، كما أنها تضيع الوقت الذي هو الحياة، ومن أمثلة ذلك ما ينتشر ويرسل للناس بأدعية مختلفة وينسب لها فضل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، مثل ذكر دعاء يقال إذا دعوته تمضي ثلاث سنوات لا تستطيع الملائكة من كتابة حسناتك! وهذا الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا منه فقال: «من تقوّل عليَّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده في النار» (رواه البخاري).
ومن الناس من يظن أنه يفسر آيات القرآن الكريم وينشر ما يصل إليه أو ما يراه على شاشة الإنترنت من المعاني غير الصحيحة، دون التأكد من ذلك، فتصلك رسائل تحار معها، فمن آت بطائر صغير يمسكه ويقول: إنه الطير الأبابيل! وغيره يرسل صورة شجرة يقول: إنها شجرة الزقوم المذكورة في القرآن! وهذا يأتيك بصورة الشمس والقمر معاً ليفسر بها قوله تعالى: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ {9}) (القيامة)! ورابع يأتي بنبات يشبه القطن ويحاول إقناعك أنه «العهن المنفوش» المذكور في القرآن! كل ذلك بغير دليل شرعي يثبت صحته، ولو افترضنا صحة هذه المواد فلا أظن أن في نشرها فائدة ترتجى، فكيف إذا كانت لا أساس لها من الصحة؟!
ومن المؤسف المؤلم أن كثيراً ممن ينشر ذلك يظن أنه يدعو إلى الله عز وجل، وهو في الحقيقة يشوّه دينه ويغضب الله ورسوله، مع ما فيه من الكذب والتعدي على القرآن الكريم والسُّنة المطهرة، فهل يعذر هذا المسلم بجهله؟!
رسائل العنكبوت.. وتضييع الحسنات:
ومن العجيب أن مرسِل هذه الرسائل لو كان ينفق على كل حرف منها درهماً أو ديناراً من ماله الخاص لضنَّ بإرسالها إلى الناس ولو كانوا أحبابه، لكنه مع ذلك لا يضنّ بحسناته أن تذهب سُدىً وتُمنَح لهذا وذاك؛ بسبب غيبة كتبها في أحدهم، أو نميمة أوقعت بين بعضهم، أو مزاح كاذب أضحك به أصدقاءه، أو بسبب حديث مكذوب نشره، أو إشاعة روَّج لها في رسائله.
لذا، فإن العاقل يحفظ حسناته، ويحذر من أن تقع فريسة للشبكة العنكبوتية فتلتهمها حين تخطّ أنامله حروف كلمة سيئة يرسلها، أو رسالة خاطئة ينشرها، أو بدعة يظهرها، أو صوراً أو مقاطع فيديو لا ترضي الله تعالى، ومن أجل النجاة في الدنيا والآخرة وجب أن يحفظ جوارحه، وقد ذكر ابن كثير قول قتادة: ابن آدم، والله إن عليك لشهوداً غير متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، والظلمة عنده ضوء والسر عنده علانية.

_______________________________________________

(*) ليسانس شريعة – ماجستير الدعوة 
جامعة المدينة العالمية

 

Exit mobile version