رمضان.. والزمن الجميل

يأتي رمضان بأيامه ولياليه التي تحمل معها نفحاته فتملأ النفس رضا وسعادة وسروراً، حيث يتجمل القلب فيها بالنية الخالصة لله؛ فيَسلم، ويتطهر بالتوبة والاستغفار؛ فينقى، ويتحلى بالعزيمة الصادقة؛ فيقوَى، فإذا به قادر على إعطاء ضيفه (رمضان) حقه من الرعاية والتكريم، وصدق التوجه والتسليم.  

وساعات رمضان نهاره وليله كلها بركة، تحل علينا من أول ليلة فيه حين نبدأها بصلاة التراويح التي بشر النبي “صلى الله عليه وسلم” مَن يصليها فقال: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه مسلم)، ثم نُتبِع ذلك بعقد نية صيام أيامه، والتعبد لله تعالى بتناول طعام السحور الذي دعا إليه النبي “صلى الله عليه وسلم” وقال: «هلمُّوا إلى الغداءِ المبارَكِ» (صحيح النسائي)، و«تَسَحَّرُوا فإنَّ في السَّحُورِ بَرَكَةً» (رواه البخاري).

ويبزغ فجر أول يوم من رمضان فنقدم بين أيدينا توبة نصوحاً نفرغ القلب معها مما فيه من مفسدات، ونعزم على حسن العمل وإتقانه، فنصوم الصوم الحقيقي الذي نمسك فيه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات، وتتأدب فيه النفس فلا تتطاول على محارم الله، ولا تتعالى على عباده، وإذا ما نازعتها الأهواء والمغريات، أو جهل عليها أحد أو آذاها فإنها تعتصم بالله، وتعلنها بكل ثقة ويقين وإخلاص.. إني صائم.. إني صائم، ومن أجل ذلك يكون خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، كما جاء عن رسول الله “صلى الله عليه وسلم”.

وتبدأ أيامك يا رمضان، وتجري ساعاتها وكأنها في سباق، ونحن نجري معها ونستبق الخيرات، ونتدارك ما فات، فيستمر الصائم بتقديم توبته، وإصلاح نيته، وتعدد أعماله الصالحات، فينوي الحفاظ على فرائض الله، والانتهاء عن نواهيه، وطاعة الله بصيام النهار، ومناجاته في قيام الليل، وحسن الخلق والتأدب بآداب الصوم، وتحقيق الأخوة في الله بالحب فيه والاجتماع على محبته وما يرضيه، يجدد الصائم فيه أواصر القرب والتراحم مع أسرته، فيبر والديه، ويحسن عشرة زوجه، ويرعى ولده، ويصل رحمه، ويتفقد جاره، فزمن رمضان يحلو بذلك، ويتجمل بتفطير الصائمين، والاجتماع الأسري والعائلي بحب على مائدة الإفطار والسحور، والتعاون على طاعة الله من صيام وذكر وقيام.

وتتجلى الرحمة في أحلى صورها في أيام رمضان، فينفق المسلم من ماله ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، لا ينسى إخوانه من المساكين والفقراء في كل مكان، فينفق من عطاء الله الذي أعطاه، ويؤتي زكاته طيبة بها نفسه، ويقدم صدقته دون منّ أو أذى طويلة بها يده، بل ويشركهم في دعائه كما أشركهم في لقمته، فدعواته مستجابة في شهر الإجابة، يرجو ما عند الله من نعيم لا ينفد وعطاء لا ينقطع.

وبهذا تكون شجرة التوحيد قد أثمرت في قلبه وجوارحه، فيجني الثمرة كأحلى ما تكون في الدنيا والآخرة، وقد جاء رسولَ اللهِ “صلى الله عليه وسلم” رجلٌ مِنْ قُضاعةَ، فقال له: يا رسولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إن شهدتُ أنْ لا إله إلا اللهُ وأنك رسولُ اللهِ، وصَلَّيْتُ الصلواتِ الخمسَ، وصُمْتُ الشهرَ، وقُمْتُ رمضانَ، وآتيتُ الزكاةَ، فقال النبيُّ “صلى الله عليه وسلم”: «مَنْ مات على هذا كان مِنَ الصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ» (صحيح ابن خزيمة).

رمضان والجمال

وفي شهر رمضان تجتمع القيم الإيمانية والأخلاقية والأسرية والاجتماعية الجميلة، فتزدان بها أيامه ولياليه، فتمتلئ المساجد بالمصلين، وتتردد آيات الله في صلاة التراويح في أحسن صور تلاوتها من الأئمة المتقنين فتزيد القلب خشوعاً، والنفس خضوعاً، وتستجلب الدموع من خشية الله، فتلين الجوارح لذكره، وقد كان النبي “صلى الله عليه وسلم” يثني على أصحاب الصوت الجميل في تلاوة القرآن، ويقول: «زيِّنُوا القرآنَ بأصواتِكم؛ فإِنَّ الصوتَ الحسنَ يَزيدُ القرآنَ حُسْناً» (الألباني، صحيح الجامع)، وقال: «إنَّ مِن أحسَنِ النَّاسِ صوتاً بالقُرآنِ؛ الَّذي إذا سَمعتُموه يَقرأُ حسِبتُموه يخشَى اللهَ» (الألباني، صحيح الترغيب) وهذا هو الصوت الجميل حقاً.

وتصل الأخوة الإيمانية أعلى معدلاتها في شهر رمضان، حيث يتحد المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في عبادات هذا الشهر المبارك، يمسكون عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويتآلفون في اجتماعهم على صلاة التراويح كلٌّ في مسجده فيكون روّاد كل مسجد كالبنيان المرصوص، ويحدث فيهم الاجتماع على الصلوات اليومية التي يزداد حرصهم على أدائها مع الجماعة، وكذلك في صلاة التراويح والتهجد في العشر الأواخر، وقيام ليلة القدر، لا يغمض لهم جفن إذ يتلذذون بطاعة الله الذي ارتضوه إلهاً، وقد قال النبي “صلى الله عليه وسلم”: «ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَن رَضِيَ باللَّهِ رَباً، وبالإسْلامِ دِيناً، وبِمُحَمَّدٍ رَسولاً» (رواه مسلم).

ويصل التحاب والتعارف والتآلف بينهم درجة كبيرة حين يحيون معاً سُنة الاعتكاف، فيجتمعون على هدف واحد، ويتصبرون معاً على طاعة الله، ولسان حال كل منهم يقول: «وعجلت إليك رب لترضى»، فيحصل التعاون على البر والتقوى، ويتقوّى الفرد بجموع إخوانه وهم على نفس الطريق، وتتلاشى «الأنا» في هذا الجمع الطيب، ليحل مكانه «الجسد الواحد»، فيحصل في سُنة الاعتكاف من القيم الرائعة ما لا يتحصل في وقت آخر، فضلاً من الله ومنَّة، كما قال سبحانه: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ {7} فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {8}) (الحجرات).

قيم جميلة

من القيم الجميلة التي يحييها الصيام في نفس الصائم، ويدرب نفسه عليها الصبر الجميل، قال تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً {5}) (المعارج)؛ أيْ: صبراً لا جزع فيه (تفسير الطبري)، ورمضان شهر الصبر كما سماه النبي “صلى الله عليه وسلم” حين قال: «صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ رَمَضَانَ..» (صحيح النسائي).

فصيام رمضان يحتاج منا الصبر الجميل الذي لا يجزع فيه الصائم من لسعة الجوع أو جفاف العطش، وقيام رمضان يحتاج منا إلى صبر جميل نتحمل معه مشقة القيام ومجافاة النوم، وكذلك فإن مخالطة الناس تتطلب أيضاً صبراً جميلاً في دفع إساءتهم بالتي هي أحسن، وتحمل الأذى منهم ورده بالعفو والصفح الجميل، وقد قال النبي “صلى الله عليه وسلم”: «وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» (رواه البخاري).

ومن هذه القيم أيضاً تدريب الصائم على حسن إدارة وقته الغالي الذي هو حياته وعمره، وتقسيمه بين الحقوق والواجبات دون تفريط أو إفراط، حتى يخرج من رمضان وقد اعتاد اغتنام أنفاسه والحفاظ عليها أن تخرج في غير ما يرضي الله عز وجل، ويبدأ الصائم إدارة وقته قبل دخول رمضان حيث يضع لنفسه خطة محكمة لا تتفلت من خلالها الساعات الشريفة في الزمن الشريف، يتخلى فيها عن بعض العادات التي تشغله، والمباحات التي تلهيه، يصوم بعض الأيام في شعبان استعداداً لصوم رمضان، ويحضر دروس العلم في فقه وأحكام الصيام ليعبد الله على بيّنة وعلم، كما يزيد من ورده المحدد لتلاوة القرآن، ويعود لسانه على ذكر الله.

فاستبقوا الخيرات

إن صيام أيام رمضان المتتابعة لا يعني أبداً ترك أو إهمال العمل الذي يتقوت منه الصائم الذي ينفق منه على بيته وأولاده، وإن هذا العمل المشروع عبادة إذا خلصت فيه النية وحسنت، لكن ذلك لا يعني أن يستغرق هذا العمل عُمْر وساعات اليوم والليلة كلها، بل على الصائم أن يوازن بين عمله هذا وعبادته لا سيما في رمضان، وعليه أن يتقي الله ما استطاع، وأن يستثمر وقته فلا يفتر لسانه وقلبه عن ذكر الله، يذكره وهو في عمله، وفي سيارته، يذكره وهو يسير في الشارع، يغتنم كل لحظة في عمره الرمضاني حتى يكون ذلك له عادة وعبادة سهلة ميسرة بعد انقضاء رمضان.

ألا فليعطِ كل منا قلبه ما يحييه، وليحافظ على جسده مما يؤذيه، وليعمل بجوارحه ما يقربه إلى الله ويدنيه، خالصاً لوجه الله، وليؤت رمضان حقه، فكأني به يدعونا أن هلموا يا عباد الله إلى ربكم ورب رمضان، «فاستبقوا الخيرات» فأنا الزمن الجميل وقد لا ألتقي معكم بعد عامكم هذا.

 

_____________________________________

(*) ليسانس شريعة –  ماجستير الدعوة جامعة المدينة العالمية.

Exit mobile version