الأدب.. بين المتعة الفنية والقيمة الجمالية

“يهتم الإنسان بما يرتقي بذوقه، ويسمو بخلقه، يزاوج كثيراً بين المتعة الفنية والقيمة الجمالية”.. تلك مقدمة لا بد منها بين يدي الحديث عن الجمال ودوره في الإبداع.

يرى الكثيرون أن الفن بعيد عن أي علاقة فكرية أو أيديولوجية وإنما غايته الفن فقط؛ رجاء أن يتخلص الأدب من النفعية التي تثقل الفن؛ فمهمة الأدب نحت الجمال، ورسم الصور والأخيلة الباهرة، من أجل بعث المتعة والسرور في النفس؛ فليست مهمة الأدب أن يخدم الأخلاق، ولا أن يسخر لقيم الخير أو المجتمع، إنه هدف في حد ذاته، ولا يبحث له بالتالي عن أي هدف خلقي أو غير خلقي(1).

 

 

ليس هناك فن يسبح في الأوهام فالإنسان يتغيا الجمال لنفعه 

مذهب يقوم على إطراح القيمة جانباً، يجعل من الأديب معياراً لما يصدر عنه، لا تحكمه غير نفسه وكثيراً ما تهيم به وتضل في متاهة لا نهاية لها.
يقوم على تصور وعقيدة إباحية، تهدف إلى نشر التحلل والتخلص من الأخلاق والقيم، يغلفونه بإطار من الاحتكام إلى أصول الإبداع، والتخلص من الوعظية، والمباشرة في العمل الأدبي.
“أدونيس”.. ومهلكة التحلل
يقول “أدونيس”:
سجيل..
أين وضعت صراخ الماضي؟
أفي خواب يسوسها الغيب؟ أتحت مطرقة قاض سماوي لا يعرف أحد أين ولد ومتى؟
ولنا أن نتساءل عن المعيار الذي يحتكم إليه “أدونيس”، ماذا يريد أن يقدم؟ هل ثمة فن نستشف ظلاله من وراء تلك الأسطر؟ بل أي بحر غرق فيه ويدعونا أن نتبعه؛ مهلكة التحلل من الإيمان والخلو من غائية الوجود!
وها هو يقول ساخراً من القدر:
فلك من دم الهبوط، يد الغيب ممدودة.
لا أظن يد الغيب إلا دماً.
نظن “أدونيس” لا يلتزم عقيدة ولا تهمه غير نسقية القصيدة، وما أراه إلا داعياً للتحلل والانسلاخ، وما تلك غير عقيدة التزمها ومذهب يدعو إليه.
انظر إليه يقول:
ما أمرَّ الحقيقةَ: تأتي النبوات في زهرةٍ.
وتُبلَّغ في حربةٍ.
الحضارة عجفاء، والأرض جبانة(2).

 

الذائقة الأدبية لا تبعد بصاحبها عن القيم الرفيعة في الأدب متشحة بظلال الفن 

 

قد يحمد لهذه النظرية وهي إذ تعنى بالفن وتلح على الجمالية فيه، تخلصه من الوعظية والمباشرة، وتقاوم الأدب المسيس والمقولب في أطر مذهبية اهتمت بالمضمون ولم تراع الشكل الفني، لكن أبرز سلبيات تلك النظرية أنها جعلت الأدب خاوي الوفاض من المضمون؛ تُرى.. لأي غاية ننشد الشعر ونتابع السرد؟
واهمٌ من يقول: للمتعة الفنية فقط.
إن الإنسان يتغيا الجمال لنفعه، ولمطارحته الحياة بما تشتمل عليه، ليس هناك فن يسبح في الأوهام إلا في عقول الخرافة والخبل.
الرافعي.. وجمالية القيم
وفي مقابل كتابات “أدونيس”، نطالع للرافعي بعض أقواله في “وحي القلم” التي تجمع بين الجمال والقيمة، ومنها:
1- إننا لن ندرك روعة الجمال في الطبيعة إلا إذا كانت النفس قريبة من طفولتها ومرح الطفولة ولعبها وهذيانها.
2- فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق فلا تعدنه من فرط الجمال، بل من قلة الحياء.
3- إذا استقبلت العالم بالنفس الواسعة رأيت حقائق السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغر وتضيق، وأدركت أن دنياك إن ضاقت فأنت الضيق لا هي.
4- إن يوماً باقياً من العمر هو للمؤمن عمر ما ينبغي أن يستهان به.
5- وما أول الدعارة إلا أن تمد المرأة طرفها من غير حياء، كما يمد اللص يده من غير أمانة.
حين نطالع تلك الشذرات من نثر الرافعي نجد مضموناً أخلاقياً مع لمحة جمالية تغلف الأقوال، والذي أوقع القراء في ذلك إنما هو التزاحم الفلسفي والتوجه الأيديولوجي لكل من الفريقين.

 

الأدب بما يشتمل عليه من فضائل سامية يعبر عما يرجوه المريدون من أتباعهم

إن متذوق الأدب سينصرف عن تلك العبثية التي تصده عن جمالية القيمة الفنية؛ فالذائقة الأدبية لا يمكن أن تبعد بصاحبها عن القيم الرفيعة في الأدب متشحة بظلال الفن وآدابه، تنجو به من الوعظية والمباشرة؛ ليكتنفه العمل الأدبي بما يمتلكه من جمال فني آسر.
ديوان الإنسانية
الأدب فن الإنسان الأول، صاحبه في مسيرته؛ بما اشتمل عليه من تعبير وما لازمه من إيقاع، يناغم به ويحكي عن عالمه، إنه التعبير الصادق عن النفس والعالم المحيط مع لمحة جمالية تغلف هذا التعبير، ولقد تعرض الأدب في مسيرته إلى محنة تسلط أصحاب التصنع والتكلف على الأدب الذين يتخذونه حرفة وصناعة، ويتنافسون في تنميقه وتحبيره؛ ليثبتوا براعتهم وتفوقهم، وليصلوا به إلى أغراض شخصية محضة(3).
ولأنه فن الإنسانية، فقد جعلت منه كل أمة ديوانها يحاكي وقائعها، ويسجل محامدها، ويبرز محامدها وما امتازت به عن سواها، إنه يعبر بما يشتمل عليه من فضائل سامية وقيم خلقية (مثل: الصدق والأمانة والوفاء والإخلاص والشجاعة والإكرام والوفاء بالعهد) عما يرجوه المريدون من أتباعهم؛ بأن يتحلوا بهذه الأخلاق الحميدة.

 

هل مهمة الأدب تقتصر على نحت الجمال ورسم الأخيلة لبعث المتعة في النفس؟ 

 

ولا تنتشر هذه الفضائل بعد الوحي الإلهي إلا بالبيان النبوي وما نطق به المتفردون من روائع البيان في لغة آسرة (اقرأ في سيرة ابن هشام حديث حليمة ابنة أبي ذؤيب السعدية من رضاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واقرأ فيها قصص الاضطهاد والتعذيب في كتب الحديث والشمائل، وفي كتب التاريخ والسير أحاديث الوصف والحلية تجد من القدرة الفائقة على الوصف والتعبير والبيان الساحر لدقائق الحياة وخوالج النفس، وترى من اللغة النقية الصافية، واللفظ الحفيف والتعبير الدقيق الرقيق، ما يطربك ويملؤك سروراً ولذة وثقة وإيماناً بعبقرية هذه اللغة(4).
الأدب.. والفطرة البشرية
ولا يعني هذا أن نهمل قيمة أدب التسلية والترفيه، وأدب الغزل والمدح، والأدب الذي ظهر لتحقيق أغراض شخصية وجماعية؛ فلكل قيمته ومكانه الفسيح في قلوبنا، بل نتمتع به ونتذوقه، ونراه حاجة من حاجات الحياة ومطلباً من مطالب الفطرة البشرية السليمة المرحة، ولكنه محاولة لإعطاء الأدب الهادف المقيد حقه وإحلاله المحل اللائق والاهتمام به(5).
يقول قيس بن الملوح متغزلاً:
وَلي كَبِدٌ مَقروحَةٌ مَن يَبيعُني               بِها كَبِداً لَيسَت بِذاتِ قُروحِ
أَبيعُ وَيَأبى الناسُ لا يَشتَرونَها              وَمَن يَشتَري ذا عِلَّةٍ بِصَحيحِ
أَئنُّ مِنَ الشَوقِ الَّذي في جَوانِبي           أَنينَ غَصيصٍ بِالشَرابِ جَريحِ
وانظر ميمية شوقي:
ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ            أَحَلَّ سَفكَ دَمي فـي الأَشهُـرِ الحُـرُمِ
رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَداً            يا ساكِنَ القـاعِ أَدرِك ساكِـنَ الأَجَـمِ
لَمّا رَنا حَدَّثَتني النَفسُ قائِلَةً                 يا وَيحَ جَنبِـكَ بِالسَهـمِ المُصيـبِ رُمـي
وإذا جاء الرثاء، يقول البارودي:
لا لوعتي تدعُ الفؤادَ، ولا يدي             تقوَى على ردِّ الحبيبِ الغادي
يا دَهْرُ، فِيمَ فَجَعْتَنِي بِحَلِيْلَةٍ؟               كانَتْ خَلاصَة عُدَّتِي وَعَتَادِي
إِنْ كُنْتَ لَمْ تَرْحَمْ ضَنَايَ لِبُعْدِها           أفلا رحِمتَ منَ الأسى أولادي؟
ود. محمد رجب البيومي في رثاء زوجته:
إني لأحذر حين أدخل منزلي             هلعاً وما يغني لدي حذارُ
من ذا أواجه إذ أواجه غرفتي؟           لا أنت أنت ولا الديار ديار

 

__________
الهوامش
(1) د. وليد قصاب: في الأدب الإسلامي، دار القلم، دبي، ط1، 1419هـ، ص87.
(2) على أحمد سعيد “أدونيس”: تنبه أيها الأعمى، دار الساقي، بيروت، ط2، 205م، قصيدة سجيل ص12.
(3) أبو الحسن علي الحسني الندوي، نظرات في الأدب، منشورات رابطة الأدب الإسلامي(2)، دار البشير الأردن، 1990م، ص 21.
(4) السابق: ص27، 28.
(5) أبو الحسن على الحسني الندوي، نظرات في الأدب، ص90.

Exit mobile version