الأيديولوجيا الشمولية والعنف

إن اختلاف الأفكار والرؤى والاتجاهات وتنوعها في المجتمعات الحية القوية هو دليل فاعليتها وثرائها، وثمرة إعمال العقل، واستثماره للحرية البناءة.

أما المجتمعات الضعيفة فإن هذا الاختلاف والتنوع دليل على الفوضى، وتكريس لحالة الجدال التي لا تبني، والتي يسعى الفرقاء من خلالها لإثبات وجهة نظرهم حتى ولو كانت خاطئة، وأثبتت التجارب فسادها أو ضررها أو انعدام جدواها.

وقد تبتلى بعض المجتمعات بفكرة منظمة (أيديولوجيا) ترفض وجود أي فكرة سواها في ساحة الأفكار، وتحاول السيطرة على المجتمع بالحديد والنار.

وهذه هي الأيديولوجيات الشمولية التي لا ترى إلا نفسها، ولا يتسع صدرها لمنافس فما بالك بالعدو.

وأهم ما يميز تلك الأيديولوجيا هو إضفاء الإطلاقية على مذهب يقدِّم نفسه على أنه التعبير الذي لا يجادَل فيه عن «الحقيقة» التي ينبغي على كلِّ أحد أن يخضع لها.

إن هذا المذهب يتجمد في كتلة من المفاهيم والمبادئ والقواعد، فلا يعود في الإمكان بعدُ أن يبلَّغ عبر التبادل أو الحوار بما يؤدي إلى الانفتاح على الآخر، أو السعي للقاء معه على أرضية مشتركة.

فعندما يتحجر الفكر عند الفرد في أيديولوجيا ما فإنه لا يناضل من أجل إرساء مزيد من العدل ومزيد من الإنسانية، بل من أجل نُصرة فكرة ومبدأ وقاعدة، وذلك دون أية مراعاة للآخر؛ إذ يصبح الدفاع عن صحة الفكرة أهم من العلاقة بالآخر.

ويصير الإنسانُ صاحب الأيديولوجيا الشمولية غيرَ قادر على العلاقة مع الإنسان الآخر، وتتعذر إمكانيةُ قيام أي تواصل مع الآخر أو أي قدر من التفاهُم معه.

إن تلك الأيديولوجيا الشمولية -بتعصبها الفظّ- لا تقيم وزنًا للطِّيبة، لا بل أكثر من ذلك إنها تُزري بها.

لقد ضرَّجَتِ تلك الأيديولوجياتُ العالمَ بالدماء طوال القرن الماضي (الحرب العالمية الأولى [1914-1917م]، والحرب العالمية الثانية [1939-1945م]).

فعندما تتراجع إحدى الأيديولوجيات نكتشف مدى الويل والدمار الذي أنزلتْه بالبشر.

وإن الصراع بين الإنسان العاقل وبين تلك الأيديولوجيات غير متكافئ؛ فهي لا تتورع عن استخدام أحقر الوسائل وأبشعها وأخسها.

ولِكَيْ تَفرِضَ تلك الأيديولوجيات عقائدَها وتبسط سلطانها وتدافع عن نفوذها، لا تتردد في اللجوء إلى أسوأ وسائل العنف في حقِّ مَن يرفض تقديم الولاء لها، أو الانضواء تحت لوائها.

إن كلَّ انشقاق علني هو -في نظر هؤلاء الأيديولوجيين الشموليين- جريمةٌ ينبغي المعاقبة عليها على أنها جريمة.

فمن يجرؤ -في أي وقت- على التصدي للأفكار والمذاهب القائمة ويسعى إلى الانتصار لمقتضيات الضمير والعقل، يُخشى عليه أن تحطِّمه أدواتُ العنف التي تختص بوظيفة إعادة توطيد السكوت والنظام.

ولا يعدم الأمر أناسًا يبلغ بهم الجبنُ أو الضعفُ أو الخوَر أن يتنصلوا من عقلهم، ويذعنوا للتجنيد لحساب تلك الأيديولوجيات الشمولية، فتراهم يصيرون حراس سُنَّتها المسلحين، وكهنة معبدها المنظّرين.

فهذه الأيديولوجيات الشمولية تستخدم العنفَ، وبطبيعة الحال تبرر العنفَ الذي يخدمها، ويعمل على توطيد أركانها، ويؤكد أصحاب تلك الأيديولوجيات -باسم الواقعية السياسية- أن العنف وحده فعّال في التاريخ.

إننا نعلم اليوم أن «واقعية» كهذه ترتضي العنفَ ضد الآخر وتستسيغه وتبرره، وتجعل من الفعالية المعيارَ المطلق للعمل السياسي، إنما هي مجرمة بالفعل، تستحق الردع.

إن الشرْعَنَة الأيديولوجية للعنف إنما هي طريقة للتستر تهدف إلى إنكار لا إنسانيته؛ فالأيديولوجيا تجيز للفرد ارتكاب الشرِّ بِنيَّة فعل الخير؛ فالقتل الأيديولوجي لا يُعَد شرًّا، بل وسيلةٌ للنضال ضد الشر، فهو خيرٌ إذن.

إن شَرْعَنَة العنف تعني إباحته وتبرئته في آنٍ معًا.

يُستخدَم العنفُ ويبرَّر عبر التأكيد على ضرورته، لكن استخدام العنف وشرعنته -في الواقع- هما اللذان يجعلانه ضروريًّا.

تدَّعي تلك الأيديولوجيات أن العنف هو الحل، بينما هو المشكلة الحقيقية في الواقع، وبقدر ما يكون اللجوءُ إلى العنف أكثر اتساعًا واستخدامًا يكون البحث عن الحلِّ الحقيقي مستحيلاً.

ويبدو أن الرغبة في العنف الكامنة في الإنسان هي التي تختلق أيديولوجيات العنف، وليس العكس. إلا أن وظيفة تلك الأيديولوجيات هي -بالتحديد- إتاحة الفرصة للإنسان العنيف لتبرير عنفه ولشرعنته، وبهذا تنشأ جدليةٌ بين العنف والأيديولوجيا؛ إذْ تستند الواحدة على الأخرى، وتدعم إحداهما الأخرى وتقويها وتعززها؛ فالعنفُ يولِّد تلك الأيديولوجيات، وتغذي تلك الأيديولوجيات العنفَ.

ويحتاج العنف إلى الاحتماء بالحجج العقلانية التي تَحكُمُ له، وتُسكِتُ اعتراض الضمير أو امتعاضه أو حيرته.

ولا يكفي تفكيك بنية تلك الأيديولوجيا لإزالة العنف، بل ينبغي -في الوقت نفسه- استنفاد العنف بترويض الرغبة والطاقة اللتين تحركانه.

وتنطبق هذه الرؤية على الشيوعية التي قتلت المخالفين لها حتى وإن كانوا أصحاب الأمس ورفاق الحركة والثورة.

وتتجسد هذه الرؤية كذلك بكل تجلياتها في الصهيونية التي هي خلية سرطانية تنخر في جسد الأمة الإسلامية، بل والعالم أجمع، فهي ترى أن بقاءها لابد أن يغذيه الدم، فمنذ أن وُجد هذا الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وهي تمارس العنف بطريقة ممنهجة ومطّردة، ويتجسد إرهاب الدولة فيها وفي أفعالها تجاه الفلسطينيين.

ومن العجيب أن نرى هذا العنف في الليبرالية الغربية التي تدعي الحرية، واحترام ورعاية حقوق الإنسان، وتعلن دائمًا أنها تعمل على نشر الديموقراطية في أرجاء المعمورة.

هذه الليبرالية قتلت ملايين البشر في فيتنام وأفغانستان والعراق والجزائر، وتساند الديكتاتوريات التي تقمع شعوبها، وتذيقها كؤوس الهوان ألوانًا.

هذه الليبرالية التي ترعى الرأسمالية التي لا تتورع عن إذكاء الصراعات وإنشاب الحروب لتحريك اقتصادها، وجني الأرباح الطائلة من بيع أسلحة الدمار والإهلاك، ولا يهمها القتلى والجرحى طالما خزائنها ملأى.

وانتسبت إلى الإسلام أفكار غالية وجّهت سلاحها إلى صدور إخوانها من المسلمين، وسلم منها الأعداء، واصطلى بنارها أقرب الناس إليها، فلا هي للإسلام نصروا، ولا للعدو كسروا.

Exit mobile version