العنصر الإيماني في روايات الواقعية التاريخية

لا شك أنني وجدت في الرواية التاريخية فضاء يختلف عن واقع الفضاء العربي الإسلامي المهزوم، ففضاء التاريخ يحوي انتصارات وبطولات وفيه أيضاً معادلات للواقع البائس الذي تعيشه الأمة من هزائم وانكسارات وخيانات، ولعل هذا كان من وراء تخصيصي لدراسة طويلة قبل ربع قرن أو يزيد، وطُبعت عدة طبعات؛ تتناول الرواية التاريخية تناولاً تطبيقياً.

قسمت في هذه الدراسة الرواية التاريخية إلى ثلاثة أقسام: رواية التعليم كما قدمها جرجي زيدان ومن سبقوه وبعض من لحقوه، ورواية النضج التي صاغها روائيون يملكون تقاليد الفن الروائي وأسسه المتطورة، كما نراها عند كثيرين من أمثال علي أحمد باكثير، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد عبدالحليم عبدالله، وعبدالحميد جودة السحار.. وغيرهم، ثم رواية الاستدعاء التي تستدعي التاريخ إلى الواقع المعاصر ليكون في خلفية الأحداث الراهنة، وقدمت نماذج لنجيب محفوظ، ونجيب الكيلاني، ومحمد جبريل.

في قراءتي لنجيب الكيلاني (1931 – 1995م)، الذي تناولت رواياته من قبل في عديد من الدراسات الطويلة والقصيرة، أبرزها «الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني»، رأيت أن الرواية التاريخية لديه تحتاج إلى جهد دراسي يضاف إلى ما سبق أن تناولته من قبل.

فالرواية التاريخية لدى الكيلاني تمثل إنجازاً فنياً جميلاً يفرضه واقع الأمة في جهادها ضد أعدائها الأقوياء؛ متمثلين في الغزاة الأجانب الذين يهدفون إلى طمس الهوية الإسلامية وتحقيرها وازدرائها، ونهب ثرواتها وخيراتها، وفتحها سوقاً يصدرون إليها منتجاتهم وبضائعهم، ويمتد هذا الإنجاز إلى مواجهة الحكام المستبدين الذين يحرمون شعوبهم الحرية والكرامة ويتضامنون مع الأعداء الخارجيين بصورة مباشرة، أو يتيحون لهم بقصورهم وفشلهم فرصة تحقيق أطماعهم وأهدافهم الشريرة.

ثم تحرز الرواية التاريخية لدى الكيلاني هدفاً حاسماً ضد بعض النخب أو الأشخاص الذين يفضلون الخيانة وطعن الوطن في ظهره إرضاء للأعداء وخصوم الإسلام والمستبدين الطغاة، وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان، وقد بدا وجودهم كثيفاً في العصر الحديث، وهو ما دفع نجيب الكيلاني لاستخدام التاريخ والدخول من خلاله إلى قضايا مهمة وخطيرة تمس واقع الأمة وتؤثر فيه.

تركيز على جلاء المسيرة

ومن ثم فقد ركز نجيب الكيلاني على جلاء مسيرة الدعوة الإسلامية وما واجهته من صعاب وعقبات، وأبرز دور اليهود في التآمر على الإسلام والمسلمين، وخيانتهم للعهود ونقضهم للمواثيق، ولم ينسَ أن يقدم نماذج يهودية حكّمت فطرتها وعقلها فانحازت إلى الإسلام ونعمت بالعيش في رحابه، ونماذج أخرى لم تكن مخلصة، وآثرت الهوى، فعاشت في حمأة النفاق، تُظهر الإسلام وتبطن الكفر، وهي من أشد النماذج خطورة، على نفسها وعلى غيرها، وقد خصص الكيلاني روايات كاملة لمعالجة السلوك اليهودي وتجلياته البشعة، مثل: «على أبواب خيبر»، «حارة اليهود»، «أرض الأنبياء»، «عمر يظهر في القدس».

ثم كانت وقائع التاريخ الحديث ملحّة على نجيب الكيلاني، فتناول الحملة الفرنسية على مصر أواخر القرن الثامن عشر، وحملة “فريزر” التي تلقى فيها هزيمة ساحقة في رشيد، وثورة عام 1919م التي واجه فيها الشعب المصري ضراوة الاحتلال الإنجليزي، وفي سياق هذه الروايات نعثر على نماذج أجنبية -أرمن ويهود وإنجليز وغيرهم- يعيشون بين المصريين ويعملون ويغتنون، وينعمون بالأمن والمودة، ولكنهم في الغالب يعضون اليد التي أحسنت إليهم، ويظهرون تعصبهم لمعتقداتهم وعنصريتهم، وينزلق أغلبهم إلى قاع الخيانة والعار. 

في مختلف الروايات التاريخية التي كتبها الكيلاني يظهر العنصر الإيماني قوياً وساطعاً في مواجهة خصوم الإسلام والمتآمرين عليه، والغزاة الذين يستبيحون بلاد المسلمين، ويوظف الكيلاني هذا العنصر توظيفاً فنياً جيداً دون افتعال أو تكلف، ويفيد من الآيات القرآنية الكريمة والحديث النبوي الشريف، والأقوال المأثورة والشعر؛ إفادة ممتدة في رواياته جميعاً، حيث تأتي الإفادة داعمة ومساندة للسرد، بل تتحول إلى حالة عضوية لا تستشعر بعدها عن السياق أو إقحامها فيه.

العنصر الإيماني في الجهاد والفتح والمقاومة لدى الكيلاني يمنح رواياته التصور الإسلامي عند مواجهة أعداء الدين والأوطان، والتصور الإسلامي هو الرؤية الإسلامية للكون والحياة، ويختلف عن التاريخ الإسلامي وأحداثه، التي يعتقد بعض الناس أنها المقصود بالأدب الإسلامي، فالتاريخ أحداث ووقائع قد تكون قائمة على التصور الإسلامي أو بعيدة عنه، أما التصور الإسلامي فهو الرؤية والفكرة التي ينظر بها الشخص إلى ما حوله، وإلى الماضي وتفسيره له.

والعنصر الإيماني هو الذي يعضد العنصر الخلقي في الأدب والفن، ويجعله ضرورياً لكل أدب رفيع، عكس ما يقوله الذين يلقون بالعنصر الخلقي وراء ظهورهم، لقد أكدّ “أوسكار وايلد” الرسالة الخلقية للفن بالمعنى الواسع، وتعنى هذه الرسالة لديه: مساعدتنا على فهم الحياة، وقد آمن بهذه الرسالة “أفلاطون”، و”أرسطو” من قبل، ثم “مونتاني”، و”موليير” من الفرنسيين، و”بن جونسون”، و”دكتور جونسون” من الإنجليز. (انظر: محمود حامد شوكت، مقومات القصة العربية الحديثة في مصر، دار الفكر العربي، القاهرة، 1974م ص 14).

دموع الأمير

تجدر الإشارة إلى أن نجيب الكيلاني أفاد من التاريخ الإسلامي في كتابة القصة القصيرة بشروطها الفنية، فأصدر مجموعة تحمل اسم «دموع الأمير»، ضمنها عدداً من القصص التاريخية؛ تغطي مساحة مكانية عريضة وفترة زمنية واسعة؛ فأحداثها تغطي الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر، وتبدأ من عصر النبوة مروراً بالصراع مع الصليبيين والتتار حتى العصر الحديث وانهيار دولة الخلافة العثمانية ومقاومة الاستعمار الفرنسي في الجزائر.

تضم المجموعة اثنتي عشرة قصة، هي: “دموع الأمير”، “القلب الكبير”، “الإمام الأعظم”، “أبو معزي”، “صانع الرجال”، “العرش المحطم”، “ابن سبيل”، “أبو خيثمة”، “سلطان العلماء”، “واحسيناه”، “على أبواب دمشق”، “رجل في المنفى”.

ويقدم الكيلاني للمجموعة مستعيداً ما كتبه في مكان آخر حول القصص التاريخي الإسلامي، ويشير إلى أن هذه المجموعة تكاد تكون الأولى من نوعها في قصصنا الحديث، وأظن أن علي أحمد باكثير قد سبق إلى كتابة هذا النوع، وأكثر منه في صياغة مسرحيات من فصل واحد، نَشر كثيراً منها في الأربعينيات والخمسينيات، وقد أعيد نشر معظمها في العقدين الأخيرين بمجلة “الأدب الإسلامي” الفصلية.

ويشير الكيلاني إلى أنه حاول جاهداً أن يحافظ على مفهوم القصة القصيرة الحديثة، إلى جانب تضمينها أحداثاً تاريخية مهمة، ويذكر أنه سبق أن قرر أن “الواقع التاريخي” لا يقل روعة أو أهمية عن الواقع الحاضر، فكلاهما مادة للقصاص يستطيع أن يضمنها ما يراه. (انظر: نجيب الكيلاني، دموع الأمير، مؤسسة الرسالة، ط3، بيروت ،1405 هـ = 1985م).

وفي تصوري أن هذه القصص يمكن أن تكون مشروعات لروايات طويلة مثل “نور الله”، و”حارة اليهود”، و”أرض الأنبياء” وغيرها، وعلى سبيل المثال؛ فقصة “دموع الأمير” التي تحمل اسم المجموعة تتناول نظام الولاة في عهد بني أمية من خلال هشام بن إسماعيل المخزومي، والي المدينة، الذي كان أداة في أيديهم لإرهاب مناوئيهم وقمع مخالفيهم واستخدام أساليب القوة والترهيب والترويع ضدهم بكل فظاظة ووحشية.

توسيع الفكرة

صحيح أن الكيلاني طبق قواعد القصة القصيرة في التقاط اللحظات المناسبة للقصة القصيرة، ولكن الفكرة نفسها يمكن أن تتسع وتصل إلى موضوع روائي ناجح.

وينطبق الأمر ذاته على بقية القصص التي تضمها المجموعة؛ مثلاً فكرة الظلم والعدل والرحمة في قصة «القلب الكبير» التي تروي طرفاً من حياة الزاهد عبدالله بن المبارك، يمكن أن تتحول إلى عمل روائي ضخم خاصة أن حياة ابن المبارك حافلة بالقصص والمواقف التي تصنع عملاً روائياً مهماً.. وهكذا بقية القصص.

ويبدو أن الثروة التي كانت في حوزة الكيلاني من موضوعات تاريخية كانت كبيرة، إلى جانب موضوعات أخرى كثيرة لم يستطع أن يتناولها في حياته التي لم تتجاوز الستين إلا قليلاً.

ومهما يكن من أمر؛ فإن خبرة الكيلاني الفنيّة استطاعت أن تقدم لنا سياقاً جميلاً للرواية التاريخية الواقعية؛ نراه في توظيف العناصر الروائية المختلفة من فكرة وزمان ومكان وبناء وشخصيات ووسائط؛ لتقديم سرد متميز يضيء الفكرة ويقدمها في إطار شائق وجذاب.

إن الوقوف عند النماذج الجيدة في أدبنا الحديث، وتناولها بالدرس والبحث والتحليل أضحى أمراً ضرورياً، ليتعرف القارئ إليها، بعد أن سادت العملة الرديئة حياتنا الأدبية والثقافية، وأصبح القصور الفني والجهل بأوليات الكتابة لا يثير امتعاضاً لدى من يتصدرون المشهد الأدبي والثقافي، بل يجد ألواناً من التشجيع تصنعها الدعاية الفجّة، والآلة الإعلامية الطائشة التي يحركها من لا يعنيهم أمر الأدب أو الثقافة، أو الفكر الناضج والمنطق العلمي.

 

______________________

(*) أستاذ الأدب والنقد.

Exit mobile version