في صناعة الباحث المسلم

 

  

من الصناعات الثقيلة في حركة البناء الفكري والنهضوي للأمة, ما يتعلق بصناعة الباحث المسلم في المنظور الحضاري, لاسيما ذلك الباحث الذي تنشغل بحوثه ببناء الإنسان, ودراسة الظاهرة الإنسانية والاجتماعية, نحاول في هذه المقالة الإشارة إلى بعض التوجيهات التي نراها ضرورية في ذلك الإعداد, وهي تتعلق بشخصية الباحث ومهاراته وتكون الخبرة الذاتية له في مجال البحث سواء ما نراها في جانب التخلية أو جانب التحلية وهي منهجية التوحيد الخالدة.

 

(1)

من المعاصي الفكرية..أن نكتب أكثر مما نقرأ

والمعنى: أننا نلهث وراء الكتابة ونتسابق إليها في مساحات الكتابة المتاحة حتى البحوث والرسائل العلمية دون أن يكون لدينا رصيد كاف من القراءة ..القراءة الحقة والحقيقية في الكتب والمصادر المعتبرة للقضايا التي نكتب فيها ..وهنا يقع الإثم..حيث تضيع فريضة (اقرأ ) وتضيع حكمتها..في الكتابة بما لا نعلم فيه بالقدر الكاف لإهمال أو عدم تأهل كاف ..أو لاستسهال المكتوب أو للاستهانة بالقارئ..أو عدم الاعتبار بمسؤولية الكلمة..فنكتب ما لا نعرف حقيقته ولا كنهه..ولا أبعاده المعرفية ..ولا تأثيراته في المرسل إليه..ولا من أين جاء ما نكتب..ولا نسأل أنفسنا عن المقاصد التي يحققها..وهل يتفق مع مقاصدنا الحضارية والاجتماعية أم لا.؟؟  وكما أن السمع والبصر والفؤاد مسؤول عنه الإنسان أمام الله.. فكذلك الكلمة مسؤولية أكبر وأعظم شأنا لأنه يمتد آثارها إلى الآخرين ..سلبًا أو إيجابا..هبوطًا..أو ارتفاعًا..انحدارًا أو ارتقاء..جمودًا أو تغييرًا..

     إن فعل البحث العلمي فعل تواصلي من ناحية, كما أنه فعل إبداعي من ناحية أخرى, ولا يمكن التواصل أو الإبداع, دون سابقة قراءة: راشدة وموجهة نحوهما, فالفعل الإنساني بطبيعته لا يبدأ من عدم, كما أنه كذلك لا يرفد في عدم, وإنما حلقات يسلم بعضها البعض: بالقراءة والوعي والنقد والتطوير.

 

 (2)

القراءة.. والقراءة المرجعية

   مما يفوت على الباحث الانتباه إليه هو إهمال القراءة المرجعية وإغفالها, ونقصد بـ “القراءة” المرجعية الكتابات الرائدة التي أنارت طريق البحث في الموضوع المذكور حتى لو كان الكاتب والكتاب لا ينتميان إلى تخصص الباحث  بالمعنى العلمي الضيق ..فهذه الكتابات الرائدة/المرجعية مثلت نبراسًا منهجيًا للموضوع بصورة كلية أو بصورة متخصصة في علم ما يمكن أن تنسحب على أكثر من علم نظرًا لمنهجيتها الأصيلة التي كتبت به, وهي –أيضًا- الكتابات الأولى التي أنشأت فكرة الاهتمام بالموضوع البحثي , وجاءت بصورة حرة إبداعية من الإحساس بأهمية الموضوع, وضرورة طرحه في المشهد الفكري, ولفت الانتباه إليه وإلى جدارته بالدراسة.

     على سبيل المثال فالباحث في المنظور الحضاري في مجال القيم (أيا كان الفرع العلمي الذي ينتمي إليه) لا يمكنه أن يتجاوز الدراسات الرائدة التالية وهو موضوع ينتمي إلى أكثر من فرع علمي, وارى أنه لا يمكن للباحث الخوض في تحريره وكتابته إلا إذا درس معرفيًا أربعة مراجع عربية أصيلة في هذا الشأن, هذه الكتابات هي:عبدالله دراز: دستور الأخلاق في القرآن 1950.حامد ربيع: “نظرية القيم السياسية 1973-1974م”[2]على خليل أبو العينين: “القيم الإسلامية والتربية 1988م”[3].سيف الدين عبد الفتاح: “مدخل القيم 1998م”[4].

 

(3)

التعامل مع المفاهيم والمصطلحات

   المفاهيم والمصطلحات جزء متين من البحث العلمي, وعضو رئيس في جسد البحث لا يمكن تجاهله أو إغفاله, وكذلك لا يمكن التعامل معه دون وعي حضاري يكون الباحث معه ذو رؤية فاحصة لما ينقل ولما يحلل في هذا الجانب, فالمفاهيم ليست مجرد تعريفات محايدة, وإنما هي مضامين تعبر عن حالات حضارية واضحة المعالم, فالألفاظ التي تحمل المفاهيم معبأة بحمولة حضارية صعب تجاهلها أو غض الطرف عنها للباحث, ويمكن للفظة الواحدة/المفهوم الواحد أن يحمل حمولتين حضاريتين في آن واحد ..تبعًا لمصدره المرجعي والمعرفي.

      فالعقلانية على سبيل المثال في النموذج التوحيدي ليست هي العقلانية المادية في النموذج الغربي التي تقوم على نبذ الدين وإزاحته، وإنما هي عقلانية إيمانية تهدف إلى تحرير العقل الإنساني من أغلال التقليد والجمود. والنموذج التوحيدي يستند في جوهره على مبدئية التحرر العقلي والوجداني للإنسان من أغلال التقليد الأعمى، والسير بلا بصيرة على خطى الأولين، ونبذ الأوهام والخرافات والظن، والحث على النظر، والتأمُّل، والتفقُّه، والتدبُّر، والسير في الأرض، واكتشاف أسرارها ومحتوياتها الفريدة.

                                    

(4)

 الوعي بالذات والآخر

      إن الباحث المسلم عليه أن يقيم وعيه البحثي بجناحين الأول: هو الإنتاج الفكري الغربي المعاصر وهو من الضروري بمكان أن يكون الوعي به واستيعابه خطوة مهمة لبناء رؤية معرفية مستقلة, والجناح الثاني هو الإنتاج الفكري الذي نظرت له حركة الإصلاح المعرفي في الأمة خلال القرن الماضي على وجه التحديد, بهذين الجانحين يمكن للباحث أن يطرح رؤيته المعرفية في ضوء ما يمكن تسميته بعلوم الأمة..أما الاقتصار على الجناح الأول في التكوين فينتج عنه علوم الأمة الغربية أو بالأحرى الإنسان الغربي, ولا يفيد الأمة في تقدم أو نهضة, وواقع الأمة يشير إلى ذلك..كما أن الاقتصار على الجناح الثاني يجعل الباحث منعزلًا وكذلك ما يحمل عن الواقع المعيش وهو ضد سنن الفطرة وسنن الإسلام.

(5)

الأمانة العلمية ليست توثيق الاقتباسات

  لا يمكن المرادفة بين الأمانة العلمية وإجراء توثيق الاقتباسات – الذي هو من البداهة بمكان-, لأن القول بهذه المرادفة يعني أننا لا نتعامل مع باحث علمي, وإنما نتعامل مع شيء آخر – ,وفقا لهذا المنظور البحثي المتخلف- لا نحتاج إلى أساتذة أو مشرفين في الجامعة, ولكن نحتاج إلى أجهزة كشف الكذب وسياجات أمنية وشرطية وقضائية بدلًا من الساحة الجامعية.

  أما الأمانة العلمية -بحسب الفكر البحثي الأكاديمي- فتعني عدة أمور نوجزها في العناصر التالية:

  1. كفاءة الباحث لموضوع بحثه.
  2. امتلاك الباحث الأدوات اللازمة لإنجاز بحثه.
  3. السعي لاستكمال ما ينقص من مهارات الباحث لانجاز بحثه.
  4. القناعة العلمية بقيمة الفكرة المطروحة للبحث.
  5. بذل الجهد الكافي لما يتطلبه إنجاز البحث.

[1] أستاذ أصول التربية المساعد – جامعة دمياط- مصر

[2] حامد ربيع: نظرية القيم السياسية, نص المحاضرات التي ألقيت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسة على طلبة قسم البكالوريوس والماجستير خلال العام الجامعي 1973 – 1974م.

[3] علي خليل أبو العينين: القيم الإسلامية والتربية، المدينة المنورة، مكتبة إبراهيم الحلبي، 1988م.

[4] سيف الدين عبد الفتاح: مدخل القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، القاهرة, المعهد العالمي للفكر الإسلامي, 1999م.

Exit mobile version