نحو تأسيس جامعة للاجتهاد الحضاري

كان للتقدم الغربي في العصر الحديث دور مهم في النظر إلى ما آلت إليه الذات المسلمة من قصور وجمود وتقليد، وغياب عن أداء واجبها الحضاري، وكانت هذه الصدمة سبباً رئيساً للذات المسلمة بالبحث في عوامل الانبعاث مرة أخرى.

ونتناول هنا أحد عوامل الانبعاث الحضاري، المتمثل في استعادة وهج الاجتهاد ووظيفته في الأمة.

انتقل التعليم الحديث –الأوروبي بالأحرى- إلى العالم الإسلامي بهدف تطوير الجيوش آنذاك في كل من مصر وتركيا وإيران، ومد الدولة باحتياجاتها من الإداريين في النظام البيروقراطي الجديد الذي تم استيراده أيضاً، وفي الوقت ذاته، بقي التعليم الإسلامي على حاله دون تطوير ذاتي، مما أفقده القدرة على الاستجابة لحاجات العصر، وكانت هذه الإشكالية الأولى التي وقع فيها هذا النوع من التعليم؛ وهي إقصاء يد الاجتهاد والتطوير من داخله، وصرف المسؤولون نظرهم عنه باعتبار عدم جدارته في الحياة الجديدة. 

أما الإشكالية الثانية؛ فهي وصف التعليم الإسلامي القائم بـ«الديني»، وسحب مفهوم «الدين» بمعناه الكنسي المعروف على هذا المفهوم الجديد الذي لم يُعرف به طيلة عشرة قرون هي عُمر الحضارة الإسلامية، وأصبح التعليم في عالمنا الإسلامي واقعاً تحت ازدواجية جبرية معرفية مصنوعة بين تعليم أصيل (بكل سلبياته وآفاته التي ارتبطت بمرحلة الضعف الإسلامي العام) أُطلق عليه «التعليم الديني»، وتعليم آخر مستورد (بكل روافده الوضعية والتغريبية المهددة لهوية الأمة ومرجعيتها) أُطلق عليه «التعليم الحديث» أو «التعليم المدني».

تراجع الاجتهاد

من الآثار الواقعة التي نتجت عن توقف التعليم الإسلامي عند مراحل ضعف الحضارة الإسلامية هو تراجع حركة الاجتهاد الإسلامي على كافة الأصعدة، والاجتهاد الذي نعنيه هنا بمعناه الواسع الذي يشمل الفقه كما يشمل الاجتماع والتربية والاقتصاد والسياسة وكل حركة الإنسان المسلم ونشاطاته، ويدفع المسلمون حتى الآن – بسبب هذا التراجع- ثمناً باهظاً من خصوصياتهم الحضارية ومرجعيتهم وأصولهم الفكرية ومصادر حركتهم ونشاطهم العمراني.

ضمر التعليم الإسلامي الحديث والمعاصر على تخريج أجيال قادرة على الاجتهاد الفكري بشموله الذي ذكرناه (الفقه والاجتماع والاقتصاد والثقافة والسياسة..) ولم يؤثر في العقل الجمعي للأمة، وكان رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، ومحمود شلتوت، وعبدالحليم محمود طفرات فردية في عُمر وعصر هذا التعليم، والواقع المشاهد أن ضمور هذا التعليم جعل جل وظيفته في الأمة هو نقل تراثها بغثّه وسمينة إلى الأجيال التالية، ومن ثم انتشر الاقتصاد الربوي وتقبلته عموم الأمة والسياسة الربوية والاجتماع الربوي والثقافة الربوية والفكر الربوي، ولم يستطع التعليم الإسلامي أن يقدم بديلاً معرفياً في هذه المجالات المعتبرة للحياة المعاشة.

ويمكن تقسيم محاولات تطوير التعليم الإسلامي إلى نوعين:

محاولات فكرية؛ كالتي قدمها محمد عبده في الأزهر الشريف، ومحاولات تنفيذية من جانب الدولة القُطرية التي أممت التعليم الإسلامي ليصبح خاضعاً للدولة في كل مواقفها ورؤيتها وسياستها الوضعية والتابعة للغرب، تمثل ذلك في قانون «إصلاح» الأزهر الذي أصدره جمال عبدالناصر عام 1961م(1)، والذي حوَّل الأزهر إلى مجرد شبيه للتعليم الحديث في الجامعات الحديثة.

جامعة للاجتهاد الإسلامي

إن تطوير التعليم الإسلامي فيما يفيد العالم الإسلامي بات أمراً صعباً إلى حد الاستحالة في بلداننا العربية التي بات يهمين عليها نظام سياسي تابع بكل صور التبعية للغرب وأمريكا، والمقترح الذي نقدمه هنا هو الدعوة إلى تأسيس جامعة للاجتهاد الإسلامي، تكون مستقلة في مبناها الفكري والإداري والمالي عند الدولة القُطرية المعاصرة، ويمكن أن نحدد إطاراً فكرياً للجامعة المقترحة كما يلي:

1- المنطلقات: تجديد وظيفة الاجتهاد؛ ينبغي أن تنطلق الجامعة من تجديد لمفهوم الاجتهاد ذاته، ليشمل الاجتهاد التقليدي (في الفقه وأصوله والأدوات المرتبطة بهما)، ويضم كذلك مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة (السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، التربية، الثقافة..) بما يحقق الاستجابة الحضارية لاحتياجات الأمة.

فالاجتهاد بمعناه القديم (استخراج الحكم الفقهي للمكلف) لم يعد يفي باحتياجات المكلف في ضوء حالة الأمة المعاصرة، سواء الداخلية بما تعانيه من حالة سحق لقيمها وثقافتها، أو التحديات الخارجية المتمثلة في النهضة العلمية والتكنولوجية التي يشهدها العصر الحديث منذ أكثر من قرنين من الزمان، دون إسهام يذكر  من العالم الإسلامي، ومن ثم أصبح من الضروري الانطلاق من تجديد مفهوم الاجتهاد بحيث يتلاءم من الحاجات الحضارية للأمة.

2- الفكرة والرسالة: تتحدد رسالة الجامعة المقترحة في استعادة حركة الاجتهاد في الأمة، بما يجعل العقل المسلم قادراً على تجاوز أزمته الراهنة من ناحية، واستئناف حركته ونشاطه الحضاري من ناحية ثانية، وتأدية وظيفته في البلاغ والشهود والعمران من ناحية ثالثة.

3- أهداف الجامعة: يمكن أن نشير في هذا الصدد إلى كليات رئيسة لهذه الأهداف، وهي: 

 أ- بناء أطر فكرية للاجتهاد الجماعي، فالاجتهاد الفردي يصعب عليه مواجهة مشكلات الأمة الراهنة، وهو ما اتفق عليه عدد كبير من رواد الإصلاح والتجديد المعاصرين(2).

ب- تربية الكوادر البشرية من الباحثين والمفكرين القادرين على ممارسة هذا الاجتهاد.

جـ- تأسيس مراكز فكرية اجتهادية متخصصة داخل الجامعة (سياسية، تربوية، اجتماعية، اقتصاد، فقهية وأصولية، علوم قرآن، التراث، السُّنة، الثقافة..)، تعمل على توفير تأصيلات فكرية لنشاطات المسلم الحضارية، وتتنوع بحسب تنوع الاحتياجات والتحديات.

4- مستهدف الجامعة: هو الدراسات العليا وما بعدها؛ أي ما بعد مرحلة الليسانس والبكالوريوس من كافة التخصصات والمجالات العلمية والاجتماعية والإنسانية.

5- العلوم والمناهج والمقررات: يمكن تقسيم هذه المقررات إلى نوعين:

الأول: مقررات إسلامية وحضارية عامة، وتشمل:

أ‌- المقررات التمهيدية والمشتركة بين سائر الأقسام والتخصصات، وتضم: نظرية المعرفة الإسلامية، مناهج البحث العلمي، منهجية الحوار والتفاعل المعرفي من منظور حضاري إسلامي، فقه الاجتهاد والتجديد في التاريخ الإسلامي، العالم الإسلامي المعاصر في النظام الدولي الجديد.

ب‌- مقرر العلاقة بين الدين والحضارة، ويشمل برنامج الدراسات المنهجية القرآنية (علوم القرآن)، ويضم مجموعة من المقررات المتصلة به: برنامج الفقه وأصوله، برنامج مقاصد الشريعة(3)

الثاني: متطلبات معاصرة ومتخصصة، وتشمل:

أ‌- متطلبات متخصصة في كل تخصص من الأقسام المقترحة (سياسية أو تربوية أو فقهية أو قرآنية)، يقوم مضمونها المعرفي على:

– الرصد المعرفي والتحليل للعطاء التراثي الإسلامي في هذا المجال العلمي المتخصص، بهدف الوقوف على ما ينفع وما يمكن توظيفه في الحالة الحضارية المعاصرة لهذا التخصص الاجتهادي.

– الرصد المعرفي والتحليل للعطاء في التراث الإنساني، بهدف الوقوف على استيعاب الحكمة فيه.

– الرصد والتحليل المعرفي للعطاء الحديث والمعاصر الذي أسهمت به حركة الإصلاح المعرفي، والبناء عليه في تطوير الاجتهاد في هذا الفرع التخصصي.

ب‌- متطلبات فنية لكل التخصصات: وتتضمن بعض العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة التي تفيد مناهجها في التعرف على خصائص الإنسان؛ مثل علم النفس، علم الاجتماع.

ومما يذكر، فإن هناك رصيداً معرفياً كبيراً لتأسيس مثل هذا النوع من الجامعات التي تجعل الاجتهاد الحضاري محورها ومركزها في الدرس والبحث المعرفي، كما أن هناك بعض التجارب التي سبقت تقترب من هذا المفهوم مثل الجامعة الإسلامية في ماليزيا، إلا أن غياب القصد في التوجه نحو تأسيس جامعة للاجتهاد يحصل خريجوها على هذه الدرجة العلمية الجديدة بلفظ «مجتهد»، وتكون مراكزها قادرة على تحقيق هذا العمل الحضاري، وتتواصل مع مؤسسات الأمة في كل بقاع الأرض.

 

__________

الهوامش

(1) من أهم بنود هذا القانون هو تحويل الأزهر من مؤسسة مستقلة مالياً وإدارياً إلى مؤسسة تابعة لوزارة الأوقاف، كما أصبح تعيين شيخ الأزهر من قبل رئيس الجمهورية بعد أن كان يتم اختياره من بين علماء الأزهر بصورة مستقلة، وتمت إعادة تشكيل المجلس الأعلى للأزهر وضم إليه ثلاثة خبراء في التعليم الجامعي تعينهم الحكومة.

(2) من أهم رواد هذه الدعوة نحو الاجتهاد الجماعي: أبو الحسن الندوي، مصطفى الزرقا، يوسف الكتاني، عماد الدين خليل، وغيرهم.

(3) استفدنا في هذه المقررات العامة في هذا النوع من: طه جابر العلواني: التعليم الديني بين التجديد والتجميد، القاهرة، دار السلام، 2009.

Exit mobile version