فنون التمثيل عند العرب

لعل فن العربية الأول -وهو الشعر- طغى على ما سواه من فنون؛ خصوصاً تلك الفنون التي لم تحظ باهتمام واضح ربما لاعتبارات دينية ومنها فن التمثيل، وقد جاءتني فكرة الكتابة في مثل هذا الموضوع أثناء شرحي لطلابي في الجامعة بعض فصول الأدب المقارن، وكان مما ناقشته معهم مدى معرفة العرب لفن المسرح، وتعددت الآراء في هذا الشأن ومال أكثرها إلى أن العرب لم يعرفوا فن المسرح؛ لأن المسرح الإغريقي كان يعتمد أساساً على فكرة الصراع بين الآلهة، أو بين الآلهة والبشر، وغير ذلك من وثنيات يرفضها الإسلام.

لا ندّعي أن العرب عرفوا تلك الفنون التمثيلية بالكيفية التي كانت قد تبلورت لدى الإغريق، فهم ليسوا مطالبين بهذا، كما أن أي أمة ليست مطالبة أن تكون معاييرها ومقاييسها في الآداب والفنون مرتبطة بأمة أخرى، فالشعر والنثر والموسيقى والفنون البصرية تكاد تكون قد ملأت حياة العرب، ومثلت أبرز ما خلفوه من تراث فني.

ولا يعني هذا أن التمثيل بتنويعاته المختلفة لم يكن له وجود في حياتهم، بل كان موجوداً وتجلى في أكثر من شكل، غير أنه لم يلق الاهتمام والتطوير الذي حظيت به باقي الفنون.

ولعل أبرز الفنون التي تندرج تحت التمثيل ووجدنا لها إشارات متناثرة في بطون كتب الأدب والتاريخ تتمثل في: فن التقليد، والتمثيل الهزلي، والتمثيل التعليمي، وخيال الظل.

فن التقليد:

أهم ما يطالعنا في هذا النمط التمثيلي ما أورده الجاحظ في البيان والتبيين، ومن ذلك قوله: «إنا نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم، لا يغادر من ذلك شيئاً، وكذلك تكون حكايته للخراساني والأهوازي والزنجي والسندي والأجناس وغير ذلك، نعم حتى تجده كأنه أطبع منهم، فإذا ما حكى كلام الفأفاء فكأنما قد جمعت كل طرفة في كل فأفاء في الأرض في لسان واحد، وتجده يحكي الأعمى بصور ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه، لا تكاد تجد من ألف أعمى واحداً يجمع ذلك كله، فكأنه قد جمع جميع طرف حركات العميان في أعمى واحد.

ولقد كان أبو دبوبة الزنجي، مولى آل زياد، يقف بباب الكرخ، بحضرة المكارين، فينهق، فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير، ولا متعب بهير إلا نهق، وقبل ذلك تسمع نهيق الحمار على الحقيقة، فلا تنبعث لذلك، ولا يتحرك منها متحرك حتى كان أبو دبوبة يحركه، وقد كان جمع جميع الصور التي تجمع نهيق الحمار فجعلها في نهيق واحد، وكذلك كان في نباح الكلاب». (البيان والتبيين: 1/77).

يحدثنا الجاحظ هنا عن أشخاص كانوا يحاكون -أي يقلدون- النماذج البشرية المتعددة في طريقة كلامها وحركاتها التي من المفترض أن يمثلوها بإتقان وإضحاك في الوقت نفسه، وتجاوز الأمر تقليد البشر إلى تقليد أصوات الحيوانات.

ويعلق د. شوقي ضيف على نص الجاحظ فيقول: «كان للعامة ملاهيهم وفي مقدمتها الفرجة على القرّادين والحوّائين، وكانوا يتجمعون حول قصّاص يطرفونهم بحكايات خيالية، كما كانوا يتجمعون حول طائفة من الحكّائين الذين كانوا يحكون في دقة لهجات سكان بغداد ونازليها من الأعراب والنبط والخراسانيين والزنوج والفرس والهنود والروم». (تاريخ الأدب العربي: 3/ 55).

فالحكاؤون كان لهم جمهورهم من العوام الذي يتحلق حولهم أو يتابع فنونهم ويستمتع بها.

التمثيل الهزلي:

أورد الشابُشْتِي في كتابه «الديارات» خبراً جرى بين إبراهيم بن إسحاق، والخليفة العباسي المتوكل، ومضمونه أن المتوكل كان في مجلسه، وكان بين يديه ما يمكن أن نسميه فرقة من الممثلين والمهرجين الذين يتنكرون في أزياء وأقنعة متعددة، وهو سعيد بوجودهم لمشاهدة العروض التي يقدمونها، ويبدو أن الأمر حدث فيه تجاوز نتيجة تكالب الممثلين على الأموال التي كانت تلقى لهم.

والنص كما أورده الشابشتي: «ودخل إسحق في يوم نوروز إلى المتوكل، والسماجة بين يديه، وعلى المتوكل ثوب وشي مثقل، وقد كثر أصحاب السماجة حتى قربوا منه للقط الدراهم التي تنثر عليهم، وجذبوا ذيله! فلما رأى إسحق ذلك، ولى مغضباً، وهو يقول: أف وتف! فما تغني حراستنا المملكة مع هذا التضييع! ورآه المتوكل وقد ولى، فقال: ويلكم! ردوا أبا الحسين، فقد خرج مغضباً! فخرج الحجاب والخدم خلفه، فدخل وهو يُسْمِعُ وصيفاً وزرافةَ كلَّ مكروه، حتى وصل إلى المتوكل، فقال: ما أغضبك؟ ولم خرجت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، عساك تتوهم أن هذا الملك ليس له من الأعداء مثل ما له من الأولياء! تجلس في مجلس يبتذلك فيه مثل هؤلاء الكلاب تجذبوا ذيلك، وكل واحد منهم متنكر بصورة منكرة، فما يؤمن أن يكون فيهم عدو قد احتسب نفسه ديانةً وله نية فاسدة وطوية ردية، فيثب بك! فمتى كان يستقال هذا، ولو أخليت الأرض منهم؟ فقال: يا أبا الحسين، لا تغضب! فوالله لا تراني على مثلها أبداً، وبُني للمتوكل بعد ذلك مجلس مشرف، ينظر منه إلى السماجة».

و»السماجة» هذه أطلقت على هؤلاء القوم من الممثلين، وقد علق على هذه الكلمة كوركيس عواد، محقق كتاب «الديارات» للشابشتي، بقوله: كانت السماجة تشبه ما يعرف اليوم بـ»التمثيل الهزلي». (الديارات للشابشتي: 38-39).

ولم تخل السماجة من المحاكاة أو التقليد كذلك، غير أنها تميزت بثراء أكبر من ناحية الملابس وتنوعها والأقنعة وربما استخدموا مساحيق ملونة إمعاناً في التنكر والإضحاك.

والملاحظ أن مثل هذه الحكايات ارتبطت غالباً بالمناسبات العامة كاحتفالات الربيع وغيرها من احتفالات اهتم بها حكام ذلك الزمان أو حرص عليها العامة للفرح والمتعة والترفيه.

التمثيل التعليمي: 

أكثر من خبر وجدناه في كتب الأدب والتاريخ عن مثل هذا النوع من التمثيل، وكان يستهدف تعليم الناس أو الصبيان شيئاً من أمور دينهم أو تذكيرهم بمناقب الصحابة الكرام، من ذلك ما ورد في العقد الفريد لابن عبد ربه: «كان في زمن المهدي رجل صوفي، وكان عاقلاً عاملاً ورعاً، فتحمّق ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وكان يركب قصبة في كل جمعة يومين؛ الإثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة، فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلّاً وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون، أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم.

قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأُخذ غلام فأُجلس بين يديه؛ فيقول: جزاك الله خيراً أبا بكر عن الرعية، فقد عدلت وقمت بالقسط، وخلفت محمداً عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حلّ وتنازع، وفرغت منه إلى أوثق عروة وأحسن الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حلّ وتنازع، وفرغت منه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة؛ اذهبوا به إلى أعلى عليين.

ثم ينادي: هاتوا عمر، فأجلس بين يديه غلام، فقال: جزاك الله خيراً أبا حفص عن الإسلام، قد فتحت الفتوح، ووسعت الفيء، وسلكت سبيل الصالحين، وعدلت في الرعية؛ اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر». (العقد الفريد لابن عبد ربه: 7/169).

وباقي الخبر يعرض لباقي الخلفاء الراشدين؛ موضحاً مناقبهم، ثم يعرج على حكام الدولة الأموية والعباسية، فيركز على معايب أكثرهم.

خيال الظل:

هذا الفن التمثيلي هو أكمل أشكال الفنون التمثيلية لدى العرب، وهو كما في معجم اللغة العربية المعاصرة: «نوع من التمثيل يكون بإلقاء خيال من خلف ستار، أو صندوق الفرجة وهي آلة ذات نظارة تكبر بها صور الأشياء وتعكسها على شاشة». (معجم اللغة العربية المعاصرة – د. أحمد مختار عمر – عالم الكتب – 2008م- 1/715).

وعده الأستاذ عبدالسلام هارون الأصل الأول للسينما المعاصرة، إذ تتحرك الأشخاص والأشكال خلف ستر، وقد سلط عليها الضوء فتبدو صورها متحركة من خلف الستر. (كناشة النوادر -عبد السلام محمد هارون – مكتبة الخانجي – 1985م -ص: 9).

ومجالات خيال الظل وإن غلب عليها الترفيه إلا أنه في أحيان كان يستخدم في تهذيب الأخلاق، وممن اشتهر بهذا الفن بدمشق علي بي حبيب، وكان يورد على ألسن تلك الخيالات مواعظ أخلاقية «بعبارات ملؤها انتقاد، تفعل في قلب أشد الناس بلادة، وكان يصور في كلامه العادات السيئة المتفشية في عصره، ويظهرها في قالب ينفر الناس منها، ويصور ظلم الحكام وأصحاب النفوذ وأغلاطهم في صور نقد لطيف، وكان يحترمه علية القوم. (انظر: خطط الشام – محمد بن عبدالرزاق – مكتبة النوري – دمشق – 1983م – 6/279).

ومن أشهر الممثلين الذين ذاع صيتهم ابن دانيال، وكان قد ترك مهنة الطب وعمل بهذا الفن، وبرع فيه، وألف أكثر من حكاية تم تمثيلها من خلال تلك العرائس.

مجمل هذه الفنون –إذن- لبت احتياج الناس من الترفيه والترويح، والتأديب والتعليم، شأنها شأن الفنون والإبداعات الأخرى من شعر ونثر.

 

_________________________________

(*) أستاذ النقد الأدبي بجامعة المدينة العالمية – ماليزيا.

Exit mobile version