الشيخ الغزالي.. وتحويل الليمون المر إلى شراب حلو! (1 – 2)

يرى الشيخ محمد الغزالي (1917 – 1996م) أن قِصَر باع المسلمين في علوم الحياة أبشع جريمة يمكن أن ترتكب ضد الإسلام، وهذا القصور إن أمسوا به في هذه الدنيا متخلفين؛ فهم عند الله ورسوله أشد تخلفاً، وأسوأ عقبى! إن أنفسنا وبلادنا وحياتنا وآخرتنا في ظمأ هائل إلى مزيد من المعرفة والضياء.. ومن ثم، فإن الشيخ محمد الغزالي -يرحمه الله- يهيب بالعلماء المنصفين أن يجيلوا أبصارهم فيما بلغته الآداب والفلسفات من نتائج، وأن يضموا إلى هذه المعرفة دراسة الإسلام نفسه، وهم بأيسر مقارنة منتهون إلى ضرورة نفع العالم بهداياته، ومنع العوائق التي تصد الناس عنه.

منهج الدراسات المقارنة بين المعتقدات والنظم والقيم المغايرة والإسلام ومعطياته وقيمه يقود الناس إلى الصراط المستقيم، ويفتح الأبواب الموصدة، والقلوب المغلقة، ويوصل الإسلام أو كلمة الحق إلى أصحاب العقول السليمة والأفئدة الحية والفطرة الطبيعية. 

كأن الشيخ يعيب ضمناً أولئك العلماء أو الدعاة الذي يغلقون على أنفسهم باب الوعي والمعرفة والثقافة؛ ويكتفون بالمقررات المفروضة واللغة الموروثة، ويتجاهلون الواقع وما يجري فيه، ويحدث على أرضه من أفكار ومستجدات.

ولعل سر تفوق الغزالي على كثير من نظرائه خطواته الطليقة نحو المعرفة الإنسانية المعاصرة، فيفيد منها، ويتعرف على أبعادها، ويواجه ما يستجد من تصورات وآراء تبدو براقة ومدهشة، ولكنها من الداخل خاوية وفارغة، ويتصدى لها بالمنطق ويتسلح لمواجهتها بالثقافة، فيجهز على الأفكار الزائفة بالدليل والبرهان، ويفتح أمام الباحثين عن الحقيقة والأمل أبواباً واسعة.

حصاد الاشتباك

لقد كان حصاد اشتباك الغزالي مع الثقافة العامة والأجنبية مجموعة نفيسة من الكتب، أظهر من خلالها مبادئ الإسلام الراقية وقيمه العظيمة، وأبان عن فساد كثير من النظريات والأفكار التي تتصادم مع الوحي وتعاليم الدين الحنيف، والفطرة الإنسانية السليمة.

خذ مثلاً هذه الكتب: “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، “الإسلام والمناهج الاشتراكية”، “حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة”، “الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين”، “خلق المسلم”، “من هنا نعلم”، “ظلام من الغرب”، “الإسلام والطاقات المعطلة”، “الإسلام والاستبداد السياسي”.

إنها نماذج لاشتباك الشيخ مع ما يجري خارج القضايا التقليدية المألوفة مع أهمية هذه القضايا وضرورتها في التأسيس الفكري والعقلي والثقافي، ولكنها لا تتضح ولا تتبلور إلا في ضوء الواقع وأحداثه وما يطرح فيه من آراء وتصورات ونظريات، ولا تتجلى إلا من خلال فهم مقاصد التشريعات والقواعد؛ فالاقتصاد والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية وقوانين الأمم المتحدة ومواثيقها وثقافة الغرب والاستبداد السياسي، وغير ذلك من أفكار وتصورات تواجه الفكرة الإسلامية، تحتاج إلى وعي فكري ومحصول ثقافي وذكاء علمي لإبراز ما يتضمنه الإسلام من محتوى يتجاوز ما يعرض على المسلمين من بدائل قاصرة، وتصورات غير ناضجة.

ونستطيع أن نجد صدى ذلك كله في خطبه المنبرية التي كان يلقيها في مسجد عمرو بن العاص بالقاهرة، الذي حوله من مكان شبه مهجور مليء بالنفايات بسبب الإهمال، وعدوان الجيران عليه، إلى ملتقى حيّ يغص بآلاف من المصلين كل أسبوع جاؤوا من أنحاء القاهرة المختلفة ليستمعوا إلى خطبته المتميزة.

لحسن الحظ أن هذه الخطب جمعت في عدة أجزاء ضخمة، ونشرتها “دار الاعتصام” في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وفيها تجد روح الثقافة العالية والوعي بما يجري ويدور على ساحة الفكر العالمي، وما يطرح في مواجهة الإسلام من أفكار ورؤى وتصورات في شتى المجالات، فيعالجها الغزالي بروح إيمانية متوثبة للنهضة والتقدم، تحمل روح العلم والقراءة الواعية، والمهمة الرسالية التي تتجاوز الوظيفة الرسمية، أو الرغبة النرجسية التي تعتمد على عناصر لا تخدم الدين ولا الدعوة ويذهب أثرها عقب الانتهاء منها مباشرة!

إن هذه الخطب في مجملها دروس تربوية في كيفية تزكية النفس وتحريرها من الشهوات والرغبات الآثمة، وتوجيهها نحو البناء الذاتي، والعمل الإيجابي المثمر، ومواجهة العقبات والصعوبات، والصبر بمعناه المقاوم في المحن والشدائد، وتحويل المحن إلى منح تزيد صاحبها إيماناً بربه واقتراباً منه وطاعة له، وهو ما يصنع في النهاية مجتمعاً طيباً متماسكاً مجاهداً في سبيل الحياة المطمئنة الآمنة.

وقفة مع “جدد حياتك”

هناك جوانب مهملة أو تكاد من جانب علماء الإسلام ودعاته، وخاصة ما يتعلق بالجانب الإنساني الشخصي أو الذاتي، المرتبط بالناحية النفسية والسلوكية والعاطفية، ويكاد بعضهم يتحرج من الاقتراب منه، مع أن أصحاب الثقافات الأخرى يلحون عليه ويبذلون جهودهم البشرية أملاً في الوصول إلى جلاء له، ومحاولات لتنميته ومعالجة سلبياته، فيأتي الشيخ الغزالي محققاً سبق الريادة، ويسعى بوعيه وفكره وذكائه لطرح ما يملكه الإسلام من تصورات مشابهة أو تراث أفضل، وحلول أجمل، وبمنهج المقارنة الذي دعا إليه، نفهم أن الإسلام لديه ما يفخر به، وما يعرض هنا وهناك.

سنتوقف عند مثال واحد من أمثلة عديدة قدمها الشيخ الغزالي في كتابه “جدد حياتك” (ط1، دار الدعوة، القاهرة، 1410هـ/1989م)، وفي هذا الكتاب مجال حي لكيفية بناء المسلم ذاتياً وشخصياً ونفسياً وعملياً، وهو كتاب نسج على منواله بعدئذ عدد من الدعاة والكتّاب كتباً مشابهة لقيت رواجاً كبيراً لدى القراء؛ مما يدل على ضرورة التوجه إلى مجالات جديدة في الدعوة والفكر الإسلامي.

وفي هذا الكتاب -كما يقول الشيخ الغزالي عن سبب تأليفه- مقارنة بين تعاليم الإسلام كما وصلت إلينا، وأصدق ما وصلت إليه حضارة الغرب في أدب النفس والسلوك، في محاولة للكشف عن روعة التقارب وصدق التطابق. 

لقد قرأ الشيخ الغزالي كتاب «دع القلق وابدأ الحياة» لـ”ديل كارنيجي”، وبعدها ألف كتابه “جدد حياتك”، واعتمد في تأليفه على نصوص وأحكام الإسلام ويقابل بها كتابات وتجارب وشواهد “كارنيجي”، تأكيداً لقيمة الإسلام ومنهجه في التعامل مع النفس البشرية؛ فمن القلق إلى الثبات إلى العمل إلى مشكلات الفراغ إلى محاسبة النفس وغيرها، حيث تتنوع موضوعات هذا الكتاب تنوعاً ممتعاً، وتجد فيها الحياة اليومية والثبات والأناة والهموم والمتاعب ومعاناة القلق والعلم والعمل ومواجهة الفراغ والتوافه، والإيمان بالقضاء والقدر وصنع الحياة من الأفكار الخاصة، وعدم انتظار الشكر من الآخرين، وقيمة المال إزاء ما يملكه الإنسان من أشياء لا تقدر بثمن، والأثرة والإيثار، ونقاء السر والعلانية، والإيمان والإلحاد، وروحانية الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيمة الإنسان حين يوجه إليه الانتقاد، ومحاسبة النفس.

هذه القضايا وغيرها يعالجها الشيخ الغزالي من خلال فكرة التحول والثبات، بمعنى عدم الاستسلام للظروف السلبية والتحول عنها إلى الظروف الإيجابية، أو تحويل الليمون الحامض المر إلى شراب حلو المذاق.

فالصبر –كما عرفه علماؤنا- “حبس النفس على ما تكره”، وهذا تفسير حسن إذا عنينا به مواجهة الشدائد البغيضة بثبات لا نكوص معه، وعقل لا يفقد توازنه واعتداله.

غير أن حبس النفس على ما تكره إذا عنينا به دوام الشعور بمرارة الواقع، وطول الإحساس بما فيه من سوء وأذى، قد ينتهي بالإنسان إلى حال منكرة من الكآبة والتبلد، وربما انهزم الصبر أمام المقارنات التي تعقدها النفس بين ما نابها، وما كانت تحب وتشتهي، كما قال الشاعر:

أقول لنفسي في الخلاء ألومها:                    لك الويل، ما هذا التجلد والصبر؟

وهذه نهاية الإحساس المحض بالألم، والخبط في ظلماته دون التماس نور يهدي في دياجيه، أو عزاء ينقذ من مآسيه!

وأول ما يطلبه الإسلام منك أن تتهم مشاعرك حيال ما ينزل بك، فمن يدري؟ رب ضارة نافعة، صحت الأجسام بالعلل، رب محنة في طيها منحة، من يدري؟ ربما كانت هذه المتاعب التي تعانيها باباً إلى خير مجهول، ولئن أحسنا التصرف فيها لنحن حريون بالنفاذ منها إلى مستقبل أطيب، (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {216}) (البقرة).

إن أكثرنا يتبرم بالظروف التي تحيط به، وقد يضاعف ما فيها من نقص وحرمان ونكد، مع أن المتاعب والآلام هي التربة التي تنبت فيها بذور الرجولة، وما تفتقت مواهب العظماء إلا وسط ركام من المشقات والجهود.

وفي هذا يقول “ديل كارنيجي”: “كلما ازددت إيغالاً في دراسة الأعمال العظيمة التي أنجزها بعض النوابغ؛ ازددت إيماناً بأن هذه الأعمال ما تمت إلا بدوافع من الشعور بالنقص، هذا الشعور هو الذي حفزهم إلى القيام بها واجتناء ثمراتها.. نعم، فمن المحتمل أن الشاعر “ملتون” لم يكن يقرض شعره الرائع لو لم يكن أعمى، وأن “بيتهوفن” لم يكن ليؤلف موسيقاه الرفيعة لو لم يكن أصم..”.

إن هؤلاء المصابين لم يطوفوا حول مصائبهم معولين، بل قبلوا الأمر الواقع وتركوا مواهبهم تحول المحنة إلى منحة، وتلك هي دعائم العظمة، أو تحويل الليمونة الحامضة المرة إلى شراب حلو سائغ كما يقول “كارنيجي”، أو كما نقل عن “إيمرسون” في كتابه “القدرة على الإنجاز”، حيث تساءل: “من أين أتتنا الفكرة القائلة بأن الحياة الرغدة المستقرة الهادئة الخالية من الصعاب والعقبات تخلق سعداء الرجال أو عظماءهم؟ إن الأمر على العكس، فالذين اعتادوا الرثاء لأنفسهم سيواصلون الرثاء لأنفسهم ولو ناموا على الحرير وتقلبوا في الدمقس! والتاريخ يشهد بأن العظمة والسعادة أسلمتا قيادهما لرجال من مختلفي البيئات، بيئات فيها الطيب، وفيها الخبيث، وفيها التي لا تميز بين طيب وخبيث”، وفي هذه البيئات نبت رجال حملوا المسؤوليات على أكتافهم، ولم يطرحوها وراء ظهورهم.

إن عشاق السخط ومدمني الشكوى أفشل الناس في إدخال معنى السعادة إلى حياتهم؛ إذا لم تجئ وفق ما يشتهون، أما أصحاب اليقين وأولو العزم فهم يلقون الحياة بما فيها من رحابة قبل أن تلقاهم بما فيها من عنت.

يقول ابن تيمية مستهيناً بتنكيل خصومه: “سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة”، إنها عند الرجل الكبير قد تحولت إلى نعم يستقبلها بابتسام لا باكتئاب.

روى “ديل كارنيجي” عن سيدة نُقلت مع زوجها الضابط إلى صحراء موحشة، فضاقت ذرعاً بمعيشتها، وهمّت بترك رجلها وحده والعودة إلى أهلها، قالت هذه السيدة: ولكنَّ خطاباً ورد إليَّ من أبي تضمن سطرين اثنين سأذكرهما ما حييت لأنهما غيرا مجرى حياتي، وهذان هما: “من خلف قضبان السجن تطلع إلى الأفق اثنان من المسجونين، فاتجه أحدهما ببصره إلى وحل الطريق، أما الآخر فتطلع إلى نجوم السماء”.

قالت السيدة: وقد تلوت هذه الكلمات وأعدت تلاوتها مراراً، فخجلت من نفسي وعولت أن أتطلع إلى نجوم السماء.

عندما فقد عبدالله بن عباس، رضي الله عنهما، عينيه، وعرف أنه سيقضي ما بقي من عمره مكفوف البصر، محبوساً وراء الظلمات عن رؤية الحياة والأحياء، لم ينطوِ على نفسه ليندب حظه العاثر، بل قبل القسمة المفروضة، ثم أخذ يضيف إليها ما يهوّن المصاب، ويبعث على الرضا فقال:

إن يأخذ الله من عيني نورهما                           ففي لساني وسمعي منهما نور

قلبي ذكي، وعقلي غير ذي دخل                    وفي فمي صارم كالسيف مأثور

قارن هذا بما قاله صالح بن عبدالقدوس حين عَمِيَ:

على الدنيا السلام، فما لشيخ                          ضرير العين في الدنيا نصيب!

يموت المرء وهو يعد حياً                             ويخلف ظنه الأمل الكذوب

إن ابن عباس تقبل الأمر (فقدان البصر) بصبر إيجابي فيه أمل وطموح، ولكن ابن عبدالقدوس مع ألمنا لمصابه وفؤاده الجريح، لم ينهض مثلما فعل ابن عباس وأمثاله، ولم يحول الليمونة الحامضة المرة إلى شراب سائغ. (راجع: جدد حياتك، ص 153 – 157).

Exit mobile version