الأندلس.. وَلاءٌ ووَفاءٌ

 

مُصاحَبةُ ومعرفةُ تاريخِنا الإسلامي بعُمومه، والأندلسي منه بالذات، تُرينا عجائبَ الصِّيَغ والصِّبَغ والصُّوَر الكريمة، لخُصوصيته ومجْرَيات أحداثه، أمرٌ تهتز له أريحيةُ أهلِ الفِطَر الخَيِّرة، حتى تَدَعَهم في موجةٍ مِنَ الإعجاب عاليةِ التأثير، ضاعت مَعالِمُها لتبقى بين الجهل والتشويه، أَحْدَثَ ذلك ظلماً اقترفَتْهُ أيادي أعدائه مُرِّرت لأبنائه، بذلك تَبْقَى متململةً، تَوَدّ الانطلاقَ بفَراهتها، وإن كانت مُدْماةً أحياناً، لكن –بشيء من التأني– لا يَفُوتُ إدراكُ حيويتِها وإبائها وثقتها بالنفس، إلى جانب ما حَفَّها، مِنْ حُسْنِ البَلاء، في جهادها والولاءِ التام لمنهجها والوفاء لكافة التزاماتها، في كل الظروف، مهما بَلَغَتْ، وكانت نتائجُها ومآلاتُها وأثقالُها ثمرةً لقيَمِ تربيتِها الربانية الكريمة، كُلُّ ذلك جَرَى رغم ظروفها المحفوفة بأشد الصعوبات، تَرَتَّبَتْ عليها الهمومُ المُثْقِلات وإن لم تَجُدْ عليها أحياناً بالانفراج، لكن مآثرَها بقيت دَالَّةَ المَقام مُدِلَّة المعنى مدللةَ القَبول والبأس المشهود المرفود، بحاجة إلى خَدَماتِ البحث المَكِيث  والجُهْد الأمين والتحقيق الرصين، اجتهادي منذ سنين، أنادي في البوادي والنوادي، أحدوها بحقائق الوقائع، لإظهار ما خَفِيَ وجُهِلَ وشُوِّه، تاريخنا المَلِيء بالروائع.

إن إدراك التاريخ الأندلسي يقود إلى اصطحاب التاريخِ الأبيِّ النَديّ الغَنيِّ بالمَفاخِر الباهراتِ والإقبالِ على فحواه ومنطلقاته وتطبيقاته، تأخذه قبل أن يَسمع شرحاً نظرياً مسلياً متروياً جلياً أميناً رصيناً، إنه نعم الشرح، كان ذلك سلوكَ المسلمين وبه انتشر الإسلام، جعل الأقوامَ تدخل دينَ الله تعالى، راغبةً مستبشرة مقبلة عليه بفرحٍ مكنوز، يفور ولا يغور.

تقديمُه اليومَ بثوبه الحقيقي أمانةٌ مهمة، تجعل مَنْ زَهَدَ فيه من أهله، يُكْبِرُه ويُقْبِلُ عليه، يَبْنِي فَهْمَه ويستمع إلى صوته المثير لمحبته المُؤثِّر في فكرته القائم بفرحته، مثلما جَرَى لأحدِ مَنْ أخبرني مِنْ المحبين لهذا التاريخ اليوم، بَعْدَ إهمالٍ سابقٍ له وعَدَمِ اكتراثٍ لشأنه ومجانبةٍ لأمره، حتى استمع إلى تسجيل لمحاضرة في التاريخ الأندلسي قُدِّم له على غير موعد أو ترتيب، هاله ما سَمِعَ، مُعْجَباً بما فيه، أسرع لمتابعة الموضوعات التاريخية باحثاً عن المزيد من معرفة موضوعاته ومعلوماته الرائقة، بَقِيَ ماضياً على ذلك منذ عشرين عاماً، أشاع ذلك في معارفه يبثه فيهم، بارك الله تعالى فيه داعياً أمثالَه متابَعةَ هذا السبيل.

لذلك كان انتشارُ الإسلام واتساعُ خيمته، صُلْحاً في أكثره (ليس عَنْوَةً)، إلا ما كان تُجاه السلطات لمُغالبته وانتزاعِ سلطان الطغاة ورفع أيديهم من تلك المقاليد، وتحرير الشعوب من ربقته الخانقة الجاثمة فوق الصدور، هنا لا بد –بعد هذا الشرح– من الإتيان بالأمثلة المُوثَّقة، مما يَجْرِي التعاملُ به على الدوام، دَيْدَن البحث المعتاد، يُوضِّح ذلك ويؤيده ويُمَثِّلُهُ ما جَرَى أيامَ فتوحات العراق في معركة القادسية، مع الإمبراطورية الساسانية (الفارسية).

كانت هذه المحاورة بين رُسْتُم قائدِ الفرس ورئيس وفد المسلمين رِبْعِيّ بن عامر، الذي قال لرُسْتُم حين سأله عَمَّا جاء بهم، قال: «الله ابْتَعَثنا لنُخْرِجَ مَنْ شاءَ مِنْ عِبادة العِباد إلى عبادة الله، ومِنْ ضِيق الدنيا إلى سَعَتها، ومِنْ جَوْر الأديان إلى عَدْل الإسلام، فأرسَلَنا بدينه إلى خَلْقِه لنَدْعُوَهم إليه، فمَنْ قَبِلَ ذلك قَبِلْنا منه ورَجَعْنا عنه، ومَنْ أَبَى قاتلناه أبداً حتى نُفْضِي إلى مَوْعُودِ الله، قالوا وما مَوْعُودُ الله؟ قال: الجَنّةُ لِمَنْ مات على قتال مَنْ أَبَى، والظّفَرُ لِمَنْ بَقِي».

ذلك هو السَّمْتُ العام، كما في الأندلس، منه أنه حين كان الفتحُ مستمراً بعد معركته الكبرى، عند مدينة شَذُونة Medina Sidonia بقيادة طارق بن زياد، وما أنزل الله فيها نصرَه المُؤزَّر على أهل دعوته، استمر مَدُّه الكريم لِمَا بَعْدَهُ حتى وصلوا، بقيادة عبدالعزيز بن موسى بن نُصَيْر مدينةَ أُرْيُولَة Orihuela قاعدة كُورَة (محافظة) تُدْمِيرTudmir وجَرَى حصارُها، خرج منها رجل مُلَثَّم قاصداً معسكرَ المسلمين، راجياً اللقاءَ بقائده، تَمَّ له ذلك، قائلاً له: ليس في هذه المدينة غيرُ النساء، فهل تحاربون النساء؟ قال القائد: لا، عَرَضَ الرجلُ تسليمَ المدينة صُلْحاً دون قتال، مقابلَ الأمانِ لأهلها، تَمَّ ذلك لهم في الحال وهو المُفَضّل، عِلْماً أن الفتحَ صُلْحاً ليس فيه غنائم، إنهم يعرفون ذلك عن المسلمين بسبب ما سبقهم من أخبار نوعيتهم البارَّة الكريمة، ورؤيتهم لذلك عِياناً في كُلِّ أحوالهم، غدا ولاؤهم تاماً لشريعتهم، ووفاؤهم لتعاليمها خُلُقاً، مهما كانت الظروف، حتى لو فَوّتَ لهم منافع وجَلَبَ عليهم مَتاعِب.

الأمرُ عقيدةٌ ربانية تنبثق منها شريعةٌ كريمة، الأمرُ إلهي يقوم على الإيمان القلبي المتمكن من كيان صاحبه، غدا ذاتياً لا إرادياً يقود بطبيعته لرَسْمِها في الحياة سلوكاً.

هكذا كان الفتحُ فتحَ عقيدةٍ تتفتح القلوبُ للإيمان بها، ليس القتالُ مِنْ أهدافها بحال بل لإزالة الأوضاع الظالمة، عندها يختار الناسُ ما يريدون أحراراً برغباتهم لا يُحْمَلون على شيء، يهدف الفتحُ تحريرَهم من العبودية لغير الله، حيث تكمن عبوديةُ البشر للبشر وغيره، يريد منهجُ الله تعالى تحريرَهم منها، يعبدون الله تعالى، وَحْدَها تُقيمُ في الحياة الإنسانية الحريةَ الحقة، أمرٌ معروف في الحياة الإسلامية الكريمة، يغدو تحقيقُها هَدَفَه الأوحدَ بالفتوحات الإسلامية المُحَرِّرة التحريرية.

لا بد من وقفةٍ، ذلك أن الرجلَ أفشى سِرّاً يجعل الأمرَ أحلى فرصة لأي أحد:

1- أن المدينة فيها النساءُ وَحْدَهُن؛ الأنسُ والفرحُ والمتعةُ قريبٌ متاحٌ دون تكليف.

2- ليس في المدينة رجالٌ؛ أَخْذُها سهلٌ والغنيمة بين أيديهم، لكن معاذ الله أن يفكر فيه أَحَدُهم دون استثناء.   

بذلك تَمَّ توقيعُ معاهدةٍ، تُعْتَبَر إحدَى الوثائق الأندلسية القليلة المتوافرة، هذا نصُها: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ مِنْ عبدالعزيز بن موسى بن نُصَيْر لِتُدْمِير بن غَنْدَريس، إذ نَزَلَ على الصُّلْح إنَّ له عَهْدَ الله وميثاقَه، وما بَعَثَ به أنبياءَه ورُسُلَه، وإن له ذِمّةَ الله عَزَّ وجَلَّ وذِمّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ألَّا يُقَدّم له وألَّا يؤخَّر لأحدٍ مِنْ أَصحابه بسوءٍ، وألا يُسْبَوْا ولا يُفرَّق بينهم وبين نسائهم وأولادِهم ولا يُقْتَلُون ولا تُحْرَق كنائسُهم ولا يُكْرَهُون على دِينهم، وأنَّ صُلْحَهم على سَبْعِ مدائن: أُرْيُولَة ومُولَة ولُورْقَة وبَلَنْتَلة ولَقَنْت وإية وإلْش، وأنه لا يَدَعُ حِفْظَ العَهْد ولا يَحِلّ ما انعقد ويُصَحّح الذي فَرَضْناه عليه وألزمناه أمرَه ولا يكتمنا خبراً عَلِمَه، وأنَّ عليه وعلى أَصحابه غُرْم الجِزْيَة، مِنْ ذلك على كل حُرٍّ: دينارٌ وأربعة أَمْداد مِنْ قَمْحٍ وأربعة أَمْداد مِنْ شعيرٍ وأربعة أَقْساطِ خَلٍ وقِسْطا عَسَلٍ وقِسْط زَيْتٍ، وعلى كُلِّ عبدٍ نِصْفُ ذلك، شَهِدَ على ذلك: عثمان بن عبيدة القُرَشِي، وحبيب بن أبي عُبَيْدة القُرَشِي، وسَعْدان بن عبدالله الرّبَعِي، وسُلَيْمان بن قيس التُّجِيبي، ويَحْيَى بن يَعْمُر السَّهْمِي، وبِشْر بن قيس اللَّخْمِي، ويَعِيش بن عبدالله الأَزْدِي، وأَبو عاصم الهُذَلِي، وكُتِبَ في رجب سنةَ أربعٍ وتسعين”.

هنا لفتةٌ بارعة فارعة لا يمكن تَجاوُزُها، تلك هي أنَّ المسلمين بعد توقيع المعاهدة كشف لهم الرجلُ مُعَرِّفاً بنفسه، أنه حاكمُ الكُورة، واكتشفوا أن بالمدينة قلةً مِنَ الرجال، فكان ذلك خديعة منه ونَدِموا على ما كان: “فنَدِموا على الذي أَعْطَوْه من الأمان، واسْتَرْجَحُوه فيما احتال به، ومَضَوْا على الوفاء به، وكان الوفاءُ عادتَهم”. 

كل ذلك وأمثالُه كان مألوفاً معروفاً في الحياة الإسلامية وحضارتها الإنسانية، ولم يحدث أَنْ نَقَضَ المسلمون عهداً واحداً، بينما الآخرون لم يفوا بعهد واحد! هذا النوع من التعامل متواتر يعرفه حتى الأعداء المحاربون، يبدو أنه حَدَثَ مِثْلُ ذلك أيامَ المُرابِطين مع جيشٍ لهم أَرْسَلوه لاستعادة مدينة طُلَيْطُلَةَ Toledo.

لعل من المناسب إيرادَ حَدَثٍ جميل مشابه للمثال السابق، يكتسي بعين هذه الجَماليات التي لا تتوافر إلا في هذه المباني المتفردة، حيث تتميز بها حقيقةُ الحضارة الإسلامية الإنسانية الحقة، ذلك أنه بعد نصر الله تعالى لجيش المسلمين في الأندلس، من أهله والجيوش الموحدية بقيادة الخليفة يعقوب المنصور المُوحِّدي في معركة الأّرَك Alarcos شمال قرطبة Cordoba في مواجهة جيوش إسبانيا النصرانية المتحالفة ومَنْ التحق بهم بقيادة “ألفونسو الثامن” Alfonso VIII، الذي نجا بنفسه إلى مدينة طليطلة، دارت عليهم الدائرة في يوم واحد، لَحِقَه الخليفة المنصور الموحدي وحاصر المدينة، فخرجتْ النساءَ يبكين ويتوسلن؛ فعفا عنهم وأكرمهم! “ثم لقيه يعقوب وهزمه وساق خلفه إلى طُلَيْطُلةَ وحاصره ورمى عليها بالمجانيق، ولم يَبْقَ إلا فتحُها، فخرجت إليه والدةُ الأّذْفونش وبناتُه ونساؤه وبَكَيْن بين يديه، وسألنَه إبقاءَ البلد عليهن، فرَقَّ لهن ومَنَّ عليهن بها، ووهب لهن من الأموال والجواهر ما جَلَّ، ورَدَّهن مُكَرَّمَاتٍ، وعفا بعد القدرة، وعاد إلى قرطبة، فأقام شهراً يُقَسّم الغنائمَ، وجاءته رسلُ الفنش بطلب الصلح، فصالحه، وأَمّنَ الناسَ مدتَه”! أرأيتم الفارقَ الكبير؟ فأين الثَّرَى من الثُّريا؟ بل وأكثر مِنْ ذلك ولا مجال للمقارنة ولا تكون أبداً.

Exit mobile version