مؤتمر جدة الشعبي.. البيعة الثانية لأسرة الصباح من الشعب الكويتي

 

 كان الثاني من أغسطس 1990م يوماً غير عادي بالنسبة للكويتيين بشكل خاص، والعالم بشكل عام؛ فقد قام النظام العراقي البائد بغزو دولة الكويت ضارباً عرض الحائط بكل ما هو إنساني، وبكل المواثيق الدولية والأخوة العربية، ورد الجميل لدولة وقفت مع العراق 8 سنوات، تحملت خلالها الكثير من المصائب بسبب موقفها المبدئي بمساندة العراق في حربه ضد إيران؛ وهو ما نتج عنه العديد من التفجيرات الإرهابية في الكويت، التي وصلت إلى محاولة الاغتيال الآثمة لسمو أمير البلاد في ذلك الوقت الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، يرحمه الله، التي أنجاه الله منها.

من المضحك والمبكي في الوقت ذاته، أن النظام العراقي البائد برر غزوه بوجود ثورة شعبية في الكويت، حيث أصدر مجلس قيادة الثورة العراقي (النظام الحاكم في العراق) بياناً صبيحة يوم الغزو فهم منه أنه حدث انقلاب عسكري في الكويت أطاح بأسرة الحكم (آل الصباح)، وطلب القرار -حسب زعمه- مساعدة العراق الأمنية كي يستتب الوضع، وأعرب البيان عن دعم العراق لهذه الثورة المزعومة.

ولكن سرعان ما تلاشت هذه الكذبة عندما لم يجد الغزاة تعاوناً من المواطنين الكويتيين، وعرف العالم أن هذا مجرد ادعاء كاذب، وكان رد الكويتيين هو الخروج في مظاهرات ترفع صور سمو الأمير، وسمو ولي العهد. 

واستبسل الكويتيون في الدفاع عن بلادهم، وأنشئت لجان الخدمات في كل مكان، أبرزها «لجان التكافل»، لتيسير الحياة اليومية للكويتيين بالتنسيق مع الحكومة الكويتية الشرعية في الطائف، بقيادة سمو أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الصباح، وسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله الصباح، يرحمهما الله.

قرارات أممية تدعم الشرعية الكويتية:

استطاعت الحكومة الشرعية في الطائف أن تجمع المجتمع الدولي للوقوف بجانب الحق الكويتي، من خلال إصدار العديد من القرارات الخاصة بالاحتلال العراقي لدولة الكويت من مجلس الأمن، فبعد ساعات من الاحتلال العراقي للكويت، طالبت الكويت والولايات المتحدة بعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن، وصدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم (660) بشجب الاجتياح، وطالب العراق بانسحاب فوري من الكويت.

وعقدت الجامعة العربية في 3 أغسطس اجتماعاً طارئاً، وقامت بنفس الإجراء.

وأصدر مجلس الأمن في 6 أغسطس قراراً بفرض عقوبات اقتصادية على العراق، ثم صدرت العديد من القرارات الأممية لصالح الكويت، وتشكل ائتلاف عسكري مكون من 34 دولة لتنفيذ قرارات مجلس الأمن الخاصة بانسحاب القوات العراقية من الكويت دون قيد أو شرط.

ومن المفاجآت السياسية، أن الرئيس الفرنسي «ميتران» دعا لاستفتاء شعبي كويتي أمام الرأي العام الدولي بشأن عودة أسرة «الصباح» لحكم الكويت، وذلك في مطلع أكتوبر 1990م، الأمر الذي استنفر حكومة الكويت والشعب الكويتي، وقامت بالدعوة لعقد «مؤتمر شعبي» يؤكد إجماع أطياف الشعب الكويتي على شرعية أسرة الصباح حكاماً للكويت.

الدعوة للمؤتمر الشعبي:

تم تشكيل لجنة تحضيرية للمؤتمر برئاسة م. عبدالرحمن الغنيم، وعضوية د. ناصر الصانع، وأ. محمد المخيزيم، وأ. فيصل العلي المطوع، وأ. سعد السعد.. وآخرين.

وكان الهدف عقد مؤتمر تحضره القيادة السياسية الكويتية، وأبرز الرموز السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكويتية، لدحض إشاعات الرئيس العراقي بأن الكويت فيها خلاف سياسي كبير مع القيادة السياسية، والبرلمان معطل، والدستور معلق، وأصبح من الضروري أن يكون المشهد الإعلامي والسياسي التوافق بين أسرة الحكم (الصباح)، والنخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جميع أطياف المجتمع الكويتي، وصدور بيان للعالم أجمع بأن الشعب الكويتي متوافق مع قيادته الشرعية.

وعقد المؤتمر يوم 14 أكتوبر 1990م في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، ودلالة عقد المؤتمر في جدة أن يكون امتداداً طبيعياً للوقفة العظيمة التي وقفتها المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، يرحمه الله، والكلمة الخالدة التي قالها: «يا ترجع الكويت، أو تروح السعودية مع الكويت».

وحضر المؤتمر سمو أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، وسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله الصباح، يرحمهما الله، وصاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن العزيز، أمير مكة المكرمة، يرحمه الله، ممثلاً لخادم الحرمين الملك فهد بن عبدالعزيز، يرحمه الله، وأعضاء الحكومة الكويتية آنذاك، وقرابة ألف مدعو كويتي من التيارات السياسية بكل أطيافها، وجمع من المواطنين الكويتيين.

وكان الهدف الأول للمؤتمر هو توجيه رسالة للعالم بتوحد الموقف الرسمي والشعبي لهدف واحد وهو تحرير الكويت، ومبايعة الشرعية الكويتية المتمثلة بسمو أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، وسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله الصباح.

رئاسة المؤتمر وبداية الخلافات:

اقترحت اللجنة التحضيرية أن تكون رئاسة المؤتمر للشيخ سعد العبدالله الصباح، ولي العهد رئيس الوزراء، ثم يتولى أحمد السعدون كشخصية معارضة رئاسة المؤتمر، وبذلك تصل رسالة للعالم أن الأسرة الحاكمة والمعارضة متوافقة.

وحدث اختلاف في ذلك، ورشحت الحكومة العم يوسف الحجي، شفاه الله، لرئاسة المؤتمر كممثل شعبي، وترشيح عبدالعزيز الصقر، يرحمه الله، رئيساً ثانياً كممثل للمعارضة السياسية.

ثم جاء الاختلاف الثاني في تضمين البيان الختامي التزام الحكومة بعودة الحياة النيابية بعد التحرير وفق دستور 1962م، وأصرَّ كل منهما على رأيه، وتأزمت الأمور.

إنقاذ المؤتمر:

كاد البيان الختامي للمؤتمر أن يتأجل بسبب هذا الخلاف، وغيره من النقاط الأخرى، وبلا شك كان ذلك سيعد نهاية غير جيدة للمؤتمر أمام العالم، وكلٌّ تمسك برأيه، وبدأ التحرك المكوكي للعم عبدالله العلي المطوع، رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي، يرحمه الله، بين الحكومة (الشيخ سعد العبدالله)، وممثل المعارضة (عبدالعزيز الصقر)، وجرت حوارات خلف الكواليس لإذابة الجليد بين الفريقين، والجمهور الكويتي في القاعة ينتظر البيان الختامي التوافقي على أحر من الجمر، ووسائل الإعلام العالمية كانت تنتظر صدور البيان أكثر من الكويتيين.

وشارك في عملية المصالحة العم يوسف الحجي، وأ. أحمد بزيع الياسين، يرحمه الله، وأ. خالد العيسى الصالح، وأ. أحمد سعد الجاسر، وم. مبارك الدويلة، وكان دورهم التوفيق بين القوى السياسة والشيخ سعد العبدالله، وأدت هذه الشخصيات دوراً واسعاً في تقريب وجهة النظر بين كل الأطراف.

واستطاع العم عبدالله المطوع التوفيق بين الطرفين قبل ساعتين فقط من المؤتمر، وكل ذلك والناس تنتظر ولا تعلم بذلك.

صدور البيان:

وأخيراً، صدر البيان الختامي للمؤتمر الشعبي، في الكلمة التي ألقاها عبدالعزيز الصقر، رئيس أول مجلس نيابي في الكويت، متضمناً التزام الحكومة الكويتية في الطائف بعودة الحياة النيابية وفق دستور 1962م.

وكان للعم عبدالله العلي المطوع الدور الكبير في التعديل على البيان الختامي للتوفيق بين الأطراف، وأضاف عدداً من الجمل التي تؤكد هوية المجتمع الكويتي الإسلامية.

كما شملت الكلمة الختامية تلاوة رسائل موجهة للمؤتمر، كان أولها رسالة أ. مصطفى مشهور، يرحمه الله، نائب المرشد العام للإخوان المسلمين آنذاك، التي أعلن فيها دعمه للحكومة الشرعية في الكويت، وإدانته للغزو العراقي الغاشم للكويت، ورسالة المرابطين نقلها د. إسماعيل الشطي بصفته قادماً من الكويت، وكلمة أطفال الكويت.

إجماع شعبي على حكم آل الصباح:

ومن أبرز نتائج المؤتمر الشعبي الكويتي الإعلان للعالم أجمع زيف وبطلان كافة الادعاءات والمزاعم التي ساقها النظام العراقي تبريراً لجريمة احتلاله دولة الكويت المستقلة، التي تخالف الحقيقة والواقع، ويكذبها التاريخ.

وأعلن المؤتمر للعالم أجمع تمسك الشعب الكويتي بنظام حكم «آل الصباح» الذي اختاره منذ نشأته، وارتضته أجياله المتعاقبة، واعتبارها «بيعة» ثانية، وتأكيد وقوف الشعب الكويتي كله؛ رجالاً ونساء، شيوخاً وشباباً وأطفالاً، صفاً واحداً خلف القيادة الشرعية، ممثلة في أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الصباح، وولي عهده الشيخ سعد العبدالله الصباح.

وتمت دعوة كل أبناء الشعب الكويتي الموجودين خارج الكويت إلى العمل، كل في مجاله ومن موقعه وبقدر استطاعته، من أجل تحرير الكويت، وطرد الغزاة المعتدين من البلاد.

القضية الفلسطينية:

ولم ينس المؤتمرون القضية الفلسطينية، غير آبهين بالموقف المخزي لمنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة «فتح»، ورئاسة ياسر عرفات، المؤيد للاحتلال العراقي، مؤكدين أن موقف بعض القيادات الفلسطينية لن يؤثر على تضامننا الثابت مع الشعب الفلسطيني في كفاحه العادل من أجل تحرير وطنه واسترجاع حقوقه المغتصبة، لثقتنا أن الشعب الفلسطيني بكل تضحياته ومثله ومبادئه لا يمكن أن يكون راضياً أو مقتنعاً بموقف هذه القيادات المنطلق من مصالحها الخاصة، والذي يسيء في الدرجة الأولى إلى القضية الفلسطينية، ومصداقية النضال الفلسطيني، ومصالح الشعب الفلسطيني نفسه.

في هذه الذكرى:

وإذ تستذكر «المجتمع» المؤتمر الشعبي التاريخي في هذه الأيام، لتؤكد دور الرجال الكرام من الحكومة والمعارضة والشعب، الذين أوصلوا الرسالة الحقة لكل من أراد الاصطياد بالماء العكر، وأن القيادة والشعب في الكويت ما هم إلا مكون واحد في حب الكويت، وشعارنا الدائم «الكويت تجمعنا».

ونسأل الله عز وجل في هذه الذكرى أن يحفظ بلدنا وجميع بلاد المسلمين من كل سوء ومكر، وتدعو الجميع للاستفادة والاتعاظ مما مضى، وضرورة تجاوز الاختلافات السياسية والمصالح الخاصة من أجل الكويت واستقرارها وأمنها.

Exit mobile version