جامعة القرويين.. معلمة ثقافية إسلامية

– جامعة القرويين صارت بمبادرة من الملك الحسن الثاني جامعة وطنية مختصة بالعلوم الشرعية وما يدور في فلكها

– تجربة رائدة في العالم الإسلامي وخارجه بحكم ما تقوم به حالياً من مهام التكوين للأئمة والمرشدين والباحثين

– هي القلب النابض بين الأحياء السكنية لتكون نافورة الثقافة الإسلامية في هذه المدينة

– تكمن قوتها في توافرها على برنامج يومي من الصباح إلى المساء مع مختلف الفئات والاختصاصات في العلوم

 

يعرف التعليم الديني في المغرب بمدينة فاس، العاصمة العلمية للمملكة التي أقيم بها أول دولة إسلامية منذ 11 قرناً على يد إدريس الأول، وتعرف فاس بجامعة القرويين التي تعد أقدم جامعة في العالم حسب “اليونسكو” وموسوعة “جينس” للأرقام القياسية، وهي أول جامعة اخترعت الكراسي العلمية المتخصصة، تخرج فيها العديد من العلماء مغاربة وغيرهم ووصلت شهرتها إلى جميع الآفاق.

شهرة عالمية

لم تأت شهرة جامعة القرويين بين ليلة وضحاها، وإنما جاءت عبر قرون من العمل المستمر في تدريس العلم ونشره، ويقول د. إدريس الفاسي الفهري، نائب رئيس الجامعة، في تصريح لـ”المجتمع”: إن أعداداً كبيرة من العلماء انخرطوا في جامعة القرويين عبر هذه القرون المتوالية، ولم يكونوا بالضرورة من أبناء المدينة ولا من أبناء المغرب؛ بل ظلت جامعة القرويين تستقطب العلماء من مختلف البقاع.

لكن، ما الذي شجع على ذلك؟

ويجيب المتحدث ذاته: أولاً: استقرار الأوضاع عموماً بحيث يمكن أن نلاحظ تاريخياً بأن مدينة فاس لم تدخل عنوة قط، ولم تتعرض لخراب عام منذ تأسيسها وإلى الآن.

ثانياً: ما حظي به العلماء من الرخاء في معايشهم نظراً لما كانت توفره أوقاف جامعة القرويين من الرواتب التي بلغت حداً ضخماً في بعض الأحيان.

ثالثاً: ما حظي به العلماء من الاحترام والتوقير من المجتمع والسلطة على حد سواء.

رابعاً: ما وفرته جامعة القرويين من البرامج التعليمية المتطورة عبر الزمان التي حظيت بعناية مباشرة من أعلى هرم السلطة.

خامساً: ما وفرته جامعة القرويين للطلبة من الإقامات المتعددة ووسائل الإعاشة التي لم تكن الاستفادة منها تشترط إلا الانخراط في سلك التعليم.

سادساً: ما وفرته جامعة القرويين من الوسائل التعليمية؛ فمن ذلك الوسائل الفلكية بالنسبة لطلابها، والمستشفيات التطبيقية بالنسبة للدراسات الطبية، ولكن في مقدمة تلك الوسائل جميعاً تأتي المكتبات الحافلة بنفائس المصنفات، وغير خاف على أحد مكانة مكتبة جامعة القرويين التي حظيت بعناية فائقة منذ أقدم العصور بحيث تجلب لها الكتب من مختلف الآفاق، ويتنافس الملوك فمن دونهم في إغناء محفوظاتها بنوادر الكتب، وهذا كله على سبيل الاختصار لما يقتضيه المقام من الاقتصار.

عناية خاصة

يضيف الفهري أن جامعة القرويين اختصت فيما بعد دخول الحماية الفرنسية، واستقرار ما عرف بـ”النظام الجديد” للجامعة بالدراسات الأدبية والدينية، نظراً لاستقلال التكوين الجامعي في بقية التخصصات بمعاهد عصرية مختصة، ولقيت الجامعة في هذه الفترة عناية خاصة من الملك الراحل محمد الخامس رحمه الله الذي لم يفتأ يولي عناية خاصة للجامعة وعلمائها والنظام التعليمي بها.

ثم صارت جامعة القرويين بمبادرة من الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله تعالى جامعة وطنية مختصة في العلوم الشرعية، وما يدور في فلكها، وصارت تضم مجموعة من الكليات التي كان لها أصل عتيق في مختلف العواصم المغربية، وهذه الكليات هي: كلية أصول الدين بتطوان، وكلية الشريعة بفاس، وكلية اللغة العربية بمراكش، ثم أضيفت إليها كلية الشريعة بأكادير، ثم أحدثت بها كذلك كلية العلوم الإسلامية بالسمارة.

وقبل سنوات قليلة من الآن، صدر ظهير ملكي من الملك الحالي محمد السادس بوصفه أميراً للمؤمنين يلحق جامعة القرويين بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وصارت تضم معهد محمد السادس للقراءات القرآنية بالرباط، ودار الحديث الحسنية بالرباط، والمعهد الملكي للبحث التاريخي بالرباط، ومعهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات بالرباط، ومدرسة العلوم الإسلامية التابعة لمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، وجامع القرويين بفاس.

ومن هنا صارت مؤسسة جامعية خاصة تقوم بمهمة محورية في التعليم الديني على مستوى التكوين الجامعي، وما ذكرته لكم ضمن التطور التاريخي المعاصر للجامعة ينبئ عن الاهتمام الخاص الذي توليه الدولة المغربية بمختلف مكوناتها لهذه الجامعة لتضطلع بمسؤوليتها في التعليم الديني.

ويمكننا القول، حسب نائب الرئيس: إن جامعة القرويين بالتصور الحالي هي تجربة رائدة في العالم الإسلامي وخارجه بحكم ما تقوم به حالياً من مهام التكوين للأئمة والمرشدين والباحثين في العلوم الشرعية من مختلف أنحاء العالم، فضلاً عن تكوين الأطر المغربية في هذا المجال.

ثقافة إسلامية

لقد كانت جامعة القرويين وما تزال جامعة مفتوحة –يؤكد الفاسي الفهري- وهي لا تلقي دروسها الأساسية داخل قاعات مغلقة، بل داخل الجامع الذي يدخله جميع أعضاء المجتمع لأداء فرائضهم الدينية.

ولذلك كان حضور الناس بمختلف طبقاتهم ومهماتهم في المجتمع لهذه الدروس يتيح لهم الحصول على ثقافة قد لا تكون متاحة في كثير من الأحيان إلا للمختصين.

ومن أجل ذلك أسهمت جامعة القرويين في تكوين مجتمع مثقف عارف بما يتأدب به، وما يلزمه من معرفة دينه.

ولكن الملاحظ الآن -مع كامل الأسف- أن قلة قليلة من الناس هي التي تحضر وتستفيد من هذه الدروس بالرغم من كونها على حالها مفتوحة للجميع، وذلك راجع فيما أعتقده إلى تغير الظروف والاهتمامات الاجتماعية، واستلاب ما يتبقى من أوقات الناس بالشواغل الحديثة من التلفزات والإذاعات ووسائل التواصل الاجتماعي.

علوم دقيقة

تسمى العلوم المساعدة بالنسبة للعلوم الشرعية بعلوم الآلة، وهو لقب على مجموعة من العلوم اللغوية وغيرها لا بد للمنخرطين في سلك العلوم الشرعية من التكوين المتين فيها نظراً لتوقف المعرفة بمعطيات العلوم الشرعية، وتطوير البحث فيها، على المعرفة بهذه الاختصاصات المتنوعة، يوضح الفاسي الفهري.

وقد انضافت حديثاً إلى ما يعرف تقليدياً وتاريخياً بعلوم الآلة مجموعة من العلوم الإنسانية والاجتماعية التي لم تكن معروفة عند الناس من قبل، أو كانت في مرحلة جنينية تدخل المعرفة بها ضمن الثقافة العامة.

كما انضافت إلى ما يعرف بعلوم الآلة المعرفة باستعمال الوسائل الإلكترونية في المعلومات والتواصل.

وانضافت إلى المعرفة باللغة العربية المعرفة باللغات الأكثر انتشاراً في العالم؛ لأن معرفة الخطاب وتداول المعلومات بواسطة الترجمة يبقى دائماً من عوائق التواصل، ومهمة التواصل كما لا يخفى هي مهمة لا بد لمختصين في العلوم الشرعية من إتقانها بإتقان وسائلها.

ولا يمكن -حسب المتحدث- أن نهمل في تكوين المختصين في العلوم الشرعية المعرفة بمختلف أشكال التدين لما يقتضيه العصر أيضاً من الانفتاح، وأول ما يستلزم انفتاح المختصين في العلوم الشرعية الانفتاح عليه هو مختلف الديانات السائدة في أنحاء المعمورة.

وهذه أهم مستجدات ملامح التكوين في جامعة القرويين بتشكيلتها الحالية كما يلاحظ من برامج المعاهد المندرجة تحتها.

وأما الهندسة والطب ونحوها فهذه علوم تتوقف عليها العملية الاجتهادية في مجموعة من المسائل الفقهية؛ ولكنها غير مشترطة في تكوين الدارسين للعلوم الشرعية، نظراً لتفرع وسعة هذه العلوم في العصر الراهن، ونظراً لإمكان تعاون الفقهاء مع غيرهم من المختصين في مختلف المجالات من أجل الحصول على حكم شرعي بشأنها، ولا يخفى كذلك أن العملية الاجتهادية الفقهية لم تعد رهينة بفقيه واحد ولا مختص واحد؛ بل صار الاجتهاد الجماعي من ضرورات العصر الراهن نظراً لما طرأ على حياة الناس من التعقيدات، ونظراً لما يشوب عمل أفراد الفقهاء من النقص وعوارض الخطأ.

القدوة

من جهته، يقول د. عمر الفاسي الفهري، نائب عمدة فاس وعضو مجلس النواب المغربي: إن جامعة القرويين معلمة حضارية ثقافية إسلامية، وهدفها نشر الوعي والثقافة في فاس والمغرب وفي العالم؛ حيث تخرج فيها كبار العلماء على الصعيد العالمي ونشروا “ثقافة فاس”، وذلك من خلال ثلاثة أبعاد مختلفة:

أولاً: نظام الإجازة العلمي المحض بالنسبة للذين أرادوا متابعة دراستهم في السير النظامي، حيث نجد التكوين الذين يصيرون فيما بعد منارات للثقافة الإسلامية.

ثانياً: القدوة داخل المجتمع، وهي قضية أساسية؛ حيث إن هؤلاء العلماء لا يبقون في الجامعة، بل يخرجون إلى المجتمع لنشر علمهم وثقافتهم، في مختلف الأحياء، ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي بالمنكر في شقه المتعلق بالنصيحة والتربية والسمت الحسن، كان هؤلاء منارات في أحيائهم بمختلف مناطق المغرب وخارجه، ذلك أنه كلما تخرج عالم من العلماء يكون قدوة في منطقة عمله.

ثالثاً: البعد الثالث هو التعليم غير النظامي، ذلك أن الحرفيين مثلاً يمكن أن يلجوا الجامعة بعد العصر، بعد انتهاء مختلف أعمالهم لتحصيل القوت اليومي، ويأتون فرادى وجماعات لحضور مختلف حلقات العلم المتخصصة في مختلف أبعاد الثقافة الإسلامية، التي تتضمن العلوم الشرعية، والدنيوية والتجريبية.

معمار مميز

يلاحظ النائب البرلماني أن الدارس للمعمار في مدينة فاس، يجد جامعة القرويين في وسط المدينة، تلتصق بها الأحياء التجارية المحاطة هي أيضاً بالأحياء السكنية، فكانت الجامعة هي القلب النابض حتى تكون هي نافورة الثقافة الإسلامية في هذه المدينة المباركة، التي استمرت عبر العصور، وهو ما خولها جائزة “اليونسكو”، واعتبرت تراثاً عالمياً، نظراً لاستمرارها في الزمان، وتطورها حسب تطور العلوم.

ويؤكد المتحدث ذاته توجه الصبيان وتنافسهم على الدخول في المسار التعليمي في جامعة القرويين؛ حيث إن الكتاتيب القرآنية التي تنتشر في المدينة، يتخرج فيها الأطفال ويمرون عبر امتحان الدخول إلى الجامعة، الذي يكون مركباً فيه الجانب الأساسي وهو حفظ القرآن الكريم، وجوانب أخرى متمثلة في حفظ المتون، والطفل الراغب في استكمال دراسته بالجامعة يجب أن يكون على مستوى جيد من التربية الشخصية أولاً، وعلى مستوى عال من القرآن ومختلف المتون، سواء تعلق الأمر بالألفية بالنسبة للغة العربية، أو مثلاً البردة والهمزية في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للأشعار؛ ذلك أن بعض الأطفال حازوا القرآن الكريم في سن مبكرة 7 سنوات، وحفظوا المتون والسلوك والأخلاق في سن العاشرة.

اعتدال ووسطية

يقول نائب عمدة فاس: إن جامعة القرويين تتميز باندماج مختلف المكونين؛ بحيث إن الطالب يجمع ويناقش مختلف المشارب الفكرية بل هناك في التكوين الأكاديمي مناقشة لمختلف المذاهب والنحل والأفكار، في الفلسفة أو في علم الكلام، أو في المنظومات الفكرية، أو في الفقه المقارن، حيث تحوي الجامعة نقاشات حول المسائل الخلافية ويبث فيها بالفكر المتفتح الذي أوصل ما سماه العلماء في مختلف بقاع العالم بـ”العمل الفاسي”، وهو خلاصة نتيجة الفقه المقارن واتخاذ القرار فيه؛ حيث إن الجامعة مؤسسة فكرية فيها نقاش واسع وفيها قرار حاسم، وهذه هي خصوصية القرويين، بحيث إن المعروف من المذهب يؤخذ منه، ويأخذون الأفكار التي تأتي في مذاهب أخرى بالانفتاح الضروري، وهذا ما يعطي الطالب والعالم فيما بعد سهولة في التنقل بين مختلف الأفكار، والقدرة على الحكم عليها واتخاذ أحسن ما فيها.

قوة دافعة

تكمن قوة الجامعة -حسب الفاسي الفهري- في توافرها على برنامج يومي من الصباح إلى المساء مع مختلف الفئات ومختلف الاختصاصات في العلوم، ثم حضور دائم في مختلف الأنشطة بالمدينة، ثم علاقة لصيقة بهموم وإشكاليات المواطنين، من خلال لقاءاتهم الخاصة، ومن خلال مؤسسة الفتوى، وهذه المنظومة جعلتها ملتصقة بالثقافة وبالشعب وبالمنظومة التكوينية والتربوية.

وأضاف: قناعتي الشخصية تفيد أن جامعة القرويين تحتاج إلى توسيع الفكر فيها ومناقشة ما يأتي فيها من أفكار، سواء على الصعيد التنظيمي أو الصعيد العلمي، ثم توسيع منظومة العلماء، بفضل سياسة الملك محمد السادس الجديدة المنفتحة على أفريقيا وعلى العالم، بحيث تصبح هذه المعلمة منارة في مختلف البلدان، ومستمرة في تكوين الأئمة المبعوثين بلغات مختلفة.

وأكد أن جامعة القرويين كانت دائماً تاريخياً بوتقة للفكر والنقاش الهادئ والبناء، وتطوير العلوم من خلال مبدأ أساسي في أصول الفقه، وهو “الاستصحاب”؛ بما بعني أن جميع الوسائل الحديثة يحكم عليها، واستصحاب الصالح منها لتطوير المؤسسة بصفة عامة من خلال الشراكة مع جميع الفاعلين أو الجامعات ذات الصلة في العالم.

ويختم الفاسي الفهري أنه يرتبط النقاشات بالفعل المستقبلي، موضحاً أن الجامعة محتاجة للتعريف بها أكثر، إذ إن اليوم لدينا جامعة يجب تثمين إيجابياتها من خلال المعرفة والتعليم بها، ومن خلال تفعيل الشراكات سواء على الصعيد الوطني أو الخارجي، ذلك أن المثل المغربي يقول: “اللي ما عرفك خسرك”.

Exit mobile version