حقوق الطفل.. بين المرجعية الغربية والمرجعية الإسلامية

من الثابت أن مفاهيم حقوق الإنسان بصياغاتها المعاصرة؛ نابعة من المنظومة الفكرية الغربية بكل مرجعياتها الفلسفية والمرتكزة على العلمانية / اللادينية، وأساسها المذهب الطبيعي، الذي يرى أن هذه الحقوق تستند إلى وجود الإنسان الطبيعي في الحياة، فهي حقوق فطرية، مستقلة عن الأعراف الاجتماعية، وغير قابلة للمصادرة أو الانتهاك.

وهو مفهوم لا يعطي أي أساس للرؤية الدينية، بالنظر إلى الإنسان كمخلوق خلقه الله تعالى، وجعله خليفة على أرضه، وإنما يتعامل مع الإنسان كوجود طبيعي مثله مثل الجبال والنباتات والحيوانات والطيور، وشتان ما بين الإنسان المكرَّم من الله تعالى، وبين سائر المخلوقات، وبالتالي يربطها بما هو أرضي دنيوي طبيعي، وينزع في المقابل المسؤولية الروحية والأخلاقية والقيمية التي تتأسس على المعتقدات الدينية.

وقد انتبه فلاسفة حقوق الإنسان مؤخراً لتغييب هذا البعد في المفهوم الطبيعي، فطوروا نظريتهم، وجعلوها أكثر ارتباطا بالثقافات المختلفة للشعوب، وذلك بوضع حقوق الإنسان ضمن الأركان العامة، وبين المثل العليا في جميع الثقافات.

ذوهو اتجاه حميد بلا شك لأنه يعزز ثقافة حقوق الإنسان بالمثل الفضلى في ثقافات الشعوب، ولكنه غير كافٍ في ربط حقوق الإنسان عامة وحقوق الطفل خاصة، بالخصوصية الثقافية والقيمية لكل مجتمع. بمعنى أن المثل العليا في المجتمعات البوذية شرقي آسيا أو المجتمعات المسيحية أو المسلمة؛ غير متفقة على مثلها العليا، وتختلف تقييماتها ونظراتها للإنسان.

وقد نجحت مواثيق حقوق الإنسان في أجيالها المتتابعة في تحديد حقوق الطفل، وجعلها حقوقا معيارية في مراحل نمو مختلفة، وأوجبت على دول العالم والمؤسسات وكل ذي صلة بمراعاة هذه الحقوق، وأهمها حفظ الكرامة الإنسانية والتميز الشخصي والانتماء العضوي، ولاشك أنها نجحت في ترسيخ ثقافة عالمية أساسها احترام حقوق الإنسان أياً كان، ومنع كافة أشكال الانتهاك والاستغلال والظلم.

أما الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان – كما يرى د. محمد عمارة – فتؤكد أنها ليست حقوقا، يمكن أن توهب أو تنتزع، حتى لو كان مسلما بها بين أعضاء الجماعة البشرية، يمكن أن يتنازل عنها – أو عن بعضها – الفرد أو المجتمع؛ وإنما هي ضرورات إنسانية لا يمكن الاستغناء عنها، ولا تستقيم حياة الإنسان بدونها، فالحفاظ عليها واجب على الفرد والجماعة، بل إن الدين الإسلامي يؤكد أنه من غير الممكن إقامة الدين وقيام المسلم بواجباته في مجتمعه، إلا بتوفير هذه الضرورات الإنسانية الواجبة.

فإذا نظرنا إلى حقوق الطفل في الفكر الإسلامي ورؤيته لحقوق الإنسان، فإننا نجد أنها وثيقة الصلة بهذه الرؤية، وقد أوجب الإسلام على الوالدين أو من ينوب عنهما إذا مات أحدهما أو كلاهما، أو على ولي الأمر / الحكام ومن في حكمهم؛ أوجب عليهم حفظ حقوق الطفل: روحا وبدنا وتغذية وكسوة، ورعاية، وتعليما، وعملا، وحمايته من الفقر والعوز.

وهنا تبدو الرؤية الإسلامية غاية في العمق، لأنها لا تجعل القضية متصلة بواجبات الدولة والمجتمع والقوانين والمؤسسات، فهذا مرحلة لاحقة، وإنما المرحلة الأساسية والمحورية، هي وضعها ضمن أوامر الله سبحانه وتعالى والأحكام الشرعية التي هي عبادة لله سبحانه وتعالى، وكما يقول الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات: إن كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله تعالى، وهو جهة التعبد. . فإن ما جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردا، فليس كذلك بإطلاق، بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية. كما أن كل حكم شرعي فيه حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا، بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد.

فالإمام الشاطبي يؤكد على ضرورة تربية الطفل وتعليمه والعناية به، لأن الأطفال يولدون ولا يعلمون شيئا عن الحياة والعلم والصناعات والناس، فيتوجب على الوالدين ثم المجتمع رعايتهم حتى تقوى أجسادهم وتشتد أعوادهم، ويعتمدون على أنفسهم.

إن طرح هذه القضية من المنظور الإسلامي أمرٌ في غاية الأهمية، وهو متفرع من قضية أكبر، ألا وهي رفض هيمنة التصورات الغربية للقضايا الإنسانية، التي نراها واضحة جلية لدى ناشطي حقوق الإنسان، ومؤسسات المجتمع المدني، وما يرتبط بهم من كتّاب ومنظرين وصحفيين وإعلاميين، فهؤلاء يتخذون من القيم الغربية معايير لقراءة المجتمعات، وقياس مدى تطورها، متغافلين أو متجاهلين أو جاهلين بالقيم الإسلامية وما تدعو له من فضائل وسلوكيات حميدة، وما تقدمه من بنية اجتماعية كاملة.

فمراعاة حقوق الإنسان وحقوق الطفل هي عبادة لله تعالى أولا، يثاب عليها العبد إذا أداها، ويعاقب إذا تركها، خاصة إذا اعتبر هذه الحقوق ضرورات لابد منها وليست عطايا، يمكن منحها أو منعها، وشتان بين الضرورة وبين العطية.

وتتعاظم المشكلة أكثر عندما يحصرها هؤلاء في تفريعات بعينها، ولا ينظرون إلى أبعاد المشكلة وأسبابها، بمعنى أن كثيرا من منظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الطفل تركز على قضايا مثل الحق في الإجهاض للحمل السفاح، أو ختان الإناث، أو اضطهاد الأنثى في المجتمعات الريفية وحرمانها من الميراث، على حساب قضايا أهم، تتصل بالفقر والعوز والاستغلال.

ولا ريب أن القضايا المشار إليها حقيقية، ولكنها ليست بالكثرة التي تدفع الإعلام للتركيز عليها بشكل دائم ويهمل قضايا أخرى. ولا زلنا نتذكر أن محطة CNN الأمريكية التي بثّت فيلما مصورا عن ختان بنت في العاشرة من عمرها في حي شعبي بمصر، خلال انعقاد مؤتمر السكان بالقاهرة عام 1994م، وظهر الحلاق وهو يجري العملية أمام الكاميرات، وكان المقابل للأب 300 دولار فقط من أجل الموافقة على تصوير ابنته وتعريتها أمام الكاميرات.

وقد انتشر الفيلم في العالم كله، مقدما صورة بشعة عن واقع الأنثى في مصر، وتناسى صناعه أن هناك واقعا شديد المرارة تعاني منه الأسر المصرية يتمثل في فقر شديد، وحرمان من التعليم والإرث وغير ذلك.

إن ختان الإناث فهو موروث ثقافي وقضية مختلف عليها فقهيا، ولا تمارس في كل البلدان الإسلامية، وإنما في بعضها فقط، خاصة في المناطق الحارة، وقد تمت إثارة القضية لترويج اتجاه معين ينتصر لأبعاد سياسية وفكرية.

وتلك أزمة المنظمات والحركات الحقوقية، ومن يناصرها في الإعلام الغربي، الساعي إلى ترسيخ نظرة غربية متعالية للمجتمعات المسلمة، وربط عادات اجتماعية بالإسلام نفسه، تأكيدا للصورة المشوهة عن الإسلام والمسلمين والمرأة في الغرب، والتي تتمثل في أنها امرأة مهضومة الحقوق مظلومة من الرجل، واحدة من زوجات أربع له الحق في امتلاكهن، ولا تحصل على متعتها الجنسية، بختان ظالم، وتعاني من تقاليد اجتماعية أشد ظلما.

mostafaateia@gmail.com

Exit mobile version