ثبوت الهلال بين الرؤية البصرية والحسابات الفلكية

لقد دل القرآن الكريم والسنة النبوية على أن الأهلة معتبرة في حساب المواقيت للناس في أعمالهم وشؤون حياتهم، بل وفي عبادتهم الشرعية، فصيام شهر رمضان المبارك لا يثبت إلا برؤية الهلال وإكمال العدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ: فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ”.

وقد جرى العمل في إثبات دخول الشهر القمري بالرؤية البصرية, ومع تقدم علم الفلك والفضاء, ظهر على الساحة الفقهية موضوع جواز إثبات دخول الشهر القمري من خلال الحسابات الفلكية, ونحن في هذا المطلب نتناول هذه المسألة بالدراسة والبحث خاصة وأن هذه المسألة قد أثارت العديد من التساؤلات والتي من أهمها:

كل هذه الأسئلة طُرحت ولا زالت تُطرح في هذا الباب, وهو ما جَعلتْ من الموضوع مًحطُ اهتمام الباحثين والعلماء والمجامع الفقهية منذ زمن بعيد, وسوف نقوم بعرض مذاهب الفقهاء في هذه المسألة بعد تحرير محل النزاع وبيان الرأي الراجح على النحو التالي:

تحرير محل النزاع:

من الثابت لدى جميع الفقهاء أن الشهر الهجري لا يمكن أن يمتد لأكثر من ثلاثين يوماً, فهو إما أن يكون تسعة وعشرين يوماً, أو ثلاثين يوماً فقط , وقد وقع الخلاف بين العلماء، في طريقة إثبات دخول الهلال، فمنهم من حصر طرق إثبات دخول الهلال في الرؤية البصرية أو إكمال عدة الشهر ثلاثين يوماً، ومنهم من أجاز الاعتماد على الحسابات الفلكية في إثبات دخول الشهر.

مذاهب الفقهاء في هذه المسألة:

لقد اختلف الفقهاء في هذه المسالة ويمكن إبراز مذاهبهم على النحو التالي:

المذهب الأول: لا يجوز إثبات الأهلة في الحج ولا في رمضان إلا من خلال الرؤية البصرية، وهو مذهب جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة، ومن المعاصرين الشيخ محمد بن إبراهيم, والشيخ عبد العزيز بن باز, والشيخ بكر أبو زيد، وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.

المذهب الثاني: يجوز إثبات الأهلة في الحج وفي رمضان من خلال الحساب الفلكي:

ومن القائلين بذلك ابن سريج، والسبكي، وابن قتيبة، ومحمد ابن مقاتل، ومطرف بن عبد الله ابن الشخير، والقفال الشاشي، والقاضي أبو الطيب، ومحمد بن مقاتل الرازي، والقشيري، ومن المعاصرين مصطفى الزرقاء، ومحمد بخيت المطيعي، وأحمد شاكر، ومحمد رشيد رضا.

سبب الخلاف:

لقد كان من أهم الأسباب التي أدت إلى اختلاف الفقهاء في هذه المسالة اختلافهم في تحديد العلة التي جعلها الشارع مناطاً للحكم، في إثبات دخول الشهر القمري، فمن الفقهاء من قصر إثبات الهلال على الرؤية البصرية، وجعل علة ذلك “تحقيق الرؤية البصرية”، ومنهم من أجاز إثبات الهلال بواسطة الحسابات الفلكية الدقيقة، وجعل علة الجواز لذلك “التحقق من ظهور الهلال”، سواء كان ذلك بالرؤية أو بغيرها من وسائل الإثبات كالحساب الفلكي.

أدلة المذاهب

أولا: أدلة المذهب الأول: القائلين بمنع إثبات الأهلة بالحساب الفلكي.

استدل أصحاب المذهب الأول بالسنة والإجماع والمعقول:

الدليل من السنة:

الدليل الأول: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ: فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ).

الدليل الثاني: وقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَال وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ عُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ).

وجه الدلالة من الحديثين:

أن النبي صلى الله عليه وسلم علق حكم الصوم على رؤية الهلال، أو إكمال العدة، وهي الطريقة المعتبرة شرعاً في إثبات الأهلة.

الجواب على هذا الدليل:

الرؤية تعتبر وسيلة متغيرة لهدف ثابت، أما الهدف من الحديث فهو واضح بيِّن، وهو أن يصوموا رمضان كله؛ فلا يضعوا يوما منه أو يصوموا يوماً من شهر غيره، كشعبان أو شوال، وذلك بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه بوسيلةٍ ممكنةٍ مقدورةٍ لجمهورِ الناس لا تكلفهم عنتاً ولا حرجاً في دينهم.

وقد كانت الرؤية بالأبصار هي الوسيلة السهلة والمقدورة لعامة الناس في ذلك العصر، فلهذا جاء الحديث بتعيينها؛ لأنه لو كلفهم بوسيلة أخرى كالحساب الفلكي – والأمة في ذلك الحين أمية لا تقرأ ولا تحسب – لأرهقهم من أمرهم عسراً، والله يريد بأمته اليسر ولا يريد بهم العسر، فإذا وُجِدتْ وسيلة أخرى أقدر على تحقيق الغرض من الحديث، وكانت أبعد عن احتمال الخطأ والوهم والكذب في دخول الشهر، وأصبحت هذه الوسيلة ميسورة غير معسورة، ولم تعد وسيلة صعبة المنال، ولا فوق طاقة الأمة، بعد أن أصبح فيها علماء وخبراء فلكيون متخصصون على المستوى العالمي، وبعد أن بلغ العلم البشري مبلغاً مكّن الإنسان أن يصعد إلى القمر نفسه، وينزل على سطحه، فلماذا نجمد على الوسيلة، وهي ليست مقصودة لذاتها، ونغفل الهدف الذي نشده الحديث؟!.

إضافة لما سبق فلم يخل حديث من هذه الأحاديث المتقدمة إلا وأشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى احتمال تعذر الرؤية، كما لم تخل الأحاديث من طلب واضح بأن تقدر الأمة للهلال قدره، بناء على احتمال تعذر الرؤية، وهو الأعم الأغلب، وأعلى التقدير كما هو معروف الحساب الفلكي، وهو أوجب من مجرد التخمين، وعليه فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإذا كان التماس الهلال لتحديد النسك واجب، فإن اعتماد الحساب واجب أيضاً، لأن العلم اليقيني لا يتحقق إلا به.

كما أن من القواعد الشرعية المعروفة اختيار الأسهل دائماً في الخيار بين الأمور ما لم يكن في ذلك ضرر أو مخالفة شرعية، لما عرف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يختار أيسر الأمور وأهونها “ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما”، وقد وصفه القرآن الكريم بقوله سبحانه : {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (التوبة:128)، وأن التوجيه الإلهي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم هو: { يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} (البقرة:185). وعلى هذا الأساس لم يكن من المعقول أن تقرر الشريعة وسيلة أخرى لم تكن بحسبانهم أو في مقدورهم، فكانت الرؤية، وبالمعيار نفسه ليس من المعقول أن يبقى الحكم على ما هو عليه من إتباع للرؤية وإهمال للحساب اليقيني والأيسر.

الدليل الثالث:

قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنّا أُمَّةٌ أُمِّيةٌ لا نَكتُبُ ولا نَحسُبُ، الشهرُ هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين)، وقال (فصوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته، فان غم عليكم فأكملوا العدة)، وفي لفظ: (فأكملوا العدة ثلاثين”، وفي لفظ آخر “فأكملوا عدة شعبان ثلاثين).

وجه الدلالة من الأحاديث:

أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم للرؤية والإفطار لها بقوله: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ) ونهى عن كل منهما عند عدمها، في قوله: (لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَال وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ)، وأمرهم إذا كان غيم، أو نحوه ليلة الثلاثين، أن يكملوا العدة ثلاثين، ولم يأمرهم بالحساب، ولا بالرجوع إلى الحساب، بل حصر الصوم والإفطار بطريق النفي والإثبات بالرؤية، فدل على أنه لا اعتبار شرعاً لما سواها في إثبات الأهلة، وهذا تشريع من الله – عز وجل- على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عام للحاضر والبادي، أبداً إلى يوم القيامة، ولو كان هناك أصل آخر للتوقيت لأوضحه الشارع؛ رحمة بهم.

الجواب على هذا الدليل:

هذا الحديث لا حجة فيه؛ لأنه يتحدث عن حال الأمة، ووصفها عند بعثته لها عليه الصلاة والسلام، ولكن أميتها ليست أمراً لازماً ولا مطلوباً، وقد اجتهد صلى الله عليه وسلم أن يخرجها من أميتها بتعلم الكتابة منذ غزوة بدر، فلا مانع أن يأتي طورٌ على الأمة تكون فيه كاتبة حاسبة. والحساب الفلكي العلمي الذي عرفه المسلمون في عصور ازدهار حضارتهم، وبلغ في عصرنا درجة من الرقي تمكن بها البشر من الصعود إلى القمر، وهو شيء غير التنجيم أو علم النجوم المذموم في الشرع.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاعتماد على الرؤية وذلك لعلة عدم معرفة الحساب، فإذا انتفت هذه العلة، واستطاعت الأمة معرفة الحساب وأمكن أن يثقوا به ثقتهم بالرؤية أو أقوى صار لهم الأخذ بالحساب في إثبات أوائل الشهور القمرية.

يقول العلامة يوسف القرضاوي رداً على من يقول برد الحساب بدعوى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا باعتبار الرؤية في إثبات الشهر، “إن هذا الكلام فيه شيء من الغلط أو المغالطة، لأمرين: الأول: أنه لا يعقل أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاعتداد بالحساب، في وقت كانت فيه الأمة أمية، لا تكتب ولا تحسب، فشرع الوسيلة المناسبة لها زمانًا ومكانًا، وهي الرؤية المقدورة لجمهور الناس في عصره. الثاني: أن السنة أشارت بالفعل إلى اعتبار الحساب في حالة الغيم، لقول الرسول

صلى الله عليه وسلم فإن غم عليكم فاقدروا له)، وهذا القَدْر له أو التقدير المأمور به، يمكن أن يدخل فيه اعتبار الحساب لمن يحسنه.

الدليل الرابع: الإجماع: فإن علماء الأمة في صدر الإسلام قد أجمعوا على اعتبار الرؤية في إثبات الشهور القمرية دون الحساب، فلم يعرف أن أحداً رجع إليه في ذلك عند الغيم ونحوه، أما عند الصحو فلم يعرف عن أحد من أهل العلم أنه عدل إلى الحساب في إثبات الأهلة أو علق الحكم العام به.

الجواب عنه:

أن الادعاء بوجود إجماع بين علماء المسلمين، على رفض استخدام الحسابات الفلكية رفضاً باتاً هو ادعاءٌ باطلٌ غير صحيح ولا يمت إلى الحقيقة بصلة، إذ لا يوجد إجماع بين علماء المسلمين على رفض تلك الحسابات لا في الإثبات ولا في النفي، ولكن معظم السلف رفضها، وكان السبب في موقفهم ذاك، هو ما كانت عليه الحال من أمية الأمة، ومن ضلال أصحاب النجوم في ذلك العصر، وعدم الدقة في تقدير الحسابات، وفي معرفة سير الكواكب ومنازل القمر، وإذا كنا ندرك الأسباب التي أدت بأولئك العلماء لقول ما قالوا، ونرى أن الأسباب التي قدموها أسباب مقنعةٌ، وجيهةٌ، جديرةٌ بالأخذ بعين الاعتبار. إلا أننا نعرف تمام المعرفة أن الأسباب التي استندوا إليها لم يعد لمعظمها وجود في زماننا هذا، ولم تعد سبباً مقنعاً للرفض أو التحريم، فان المتعاطين والخائضين في هذا المجال، لم يعودوا مجرد مشعوذين أو دجالين أو مدعي غيب، بل هم علماء درسوا هذا المجال بأسسه العلمية والرياضية الدقيقة، التي لا تحتمل الخطأ، ولو كان واحداً بالألف.

الدليل الخامس: المعقول: فإن تعليق إثبات الشهر القمري بالرؤية يتفق مع مقاصد الشريعة السمحة؛ لأن رؤية الهلال أمرها عام يتيسر لأكثر الناس، بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب فإنه يحصل به الحرج ويتنافى مع مقاصد الشريعة، ودعوى زوال وصف الأمية – عند العلم بمنازل القمر- عن الأمة لو سلمت لا يغير حكم الشرع في ذلك.

الرد على هذا الدليل:

قولكم أنَّ تعليق إثبات الشهر القمري بالرؤية يتفق مع مقاصد الشريعة هذا أمر غير دقيق حيث أن الاعتماد على الحسابات الفلكية لسهولتها ودقتها هو الذي يتفق مع روح الشريعة, كما أن الرؤية قد تتعذر في بعض الأحيان بسبب تغير طبيعة المناخ كحدوث غيوم أو حرب مثلاً فتمتنع الرؤية عندئذ ونحتاج إلى إكمال العدة مع أن الحسابات الفلكية قادرة على حسم الخلاف في ذلك.

ثانيا: أدلة المذهب الثاني:

استدل القائلون بجواز إثبات الأهلة بالحسابات الفلكية بالكتاب والسنة والقياس والمعقول:

الدليل الأول: الكتاب:

لقد استدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}(الرحمن :الآية 5)، وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }( لقمان: الآية 29)، وقوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}( يونس: الآية 5).

وجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر بأنه أجرى الشمس والقمر بحساب لا يضطرب، وجعلهما آيتين وقدرهما منازل؛ لنعتبر، عدد السنين والحساب، فإذا علم جماعةٌ بالحساب وجود الهلال يقيناً، وإن لم تمكن رؤيته بعد غروب شمس التاسع والعشرين أو وجوده مع إمكان الرؤية لولا المانع، وأخبرنا بذلك جماعة منهم يبلغ عددهم التواتر، وجب قبول خبرهم؛ لبنائه على يقين، واستحالة الكذب على المخبرين؛ لبلوغهم حد التواتر، وعلى تقدير أنهم لم يبلغوا حد التواتر وكانوا عدولاً فخبرهم يفيد غلبة الظن، وهي كافية في بناء أحكام العبادات عليها. مجموعة علماء: أبحاث هيئة كبار العلماء (3/35-45).

مناقشة هذا الدليل:

أن الاستدلال بحساب سير الشمس والقمر على تقدير أوقات العبادات غير مُسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بتفسير كتاب الله عز وجل لم يعلق بداية الشهر ونهايته بعلم الحساب، وإنما أناط ذلك برؤية الهلال أو إكمال العدة في حال الغيم، فوجب الاقتصار على ذلك، مما يقطع بأن العلة ليست هي مجرد مطلع الهلال، وإنما هي أخص من ذلك، ألا وهي: تحقق الرؤية البصرية، وبهذا ألغى الشارع الحكيم اعتبار الوجود العلمي للهلال علة للصوم أو الفطر، وأكد على أن الوجود الحسي البصري هو العلة، وليس ذلك لأن قوة درجة الحساب الفلكي في الإثبات أقل من درجة الشهادة على الرؤية، أو لعدم صحة مقدمات ونظريات علم الفلك ولكن رحمة الله بعباده اقتضت أن ينيط أسباب عبادتهم وعللها بأمور حسية ملموسة لكل المكلفين، دفعاً للحرج والمشقة عن الناس، وأن تكون علل الأحكام وأسبابها ثابتة وحسية وعامة يسهل إدراكها لجميع المكلفين دون مشقة، وألا ترتبط هذه العبادات بأمور عقلية علمية معنوية ولا يدركها كل الناس، وذلك حتى يتحقق عموم العلة مع عموم التكليف، ويسر إدراكها مع يسر أدائه.

الدليل الثاني: السنة:

قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنّا أُمَّةٌ أُمِّيةٌ لا نَكتُبُ ولا نَحسُبُ، الشهرُ هكذا وهكذا.

وجه الدلالة: أن الأمر باعتماد رؤية الهلال، ليس لأن رؤيته هي في ذاتها عبادة، أو أن فيها معنى التعبد، بل لأنها هي الوسيلة الممكنة الميسورة إذ ذاك، لمعرفة بدء الشهر القمري ونهايته لمن يكونون كذلك، أي: أميين لا علم لهم بالكتابة والحساب الفلكي.

وهذا مستفاد من مفهوم النص الشرعي نفسه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقومه العرب إذ ذاك لو كانوا من أهل العلم بالكتابة والحساب بحيث يستطيعون أن يرصدوا الأجرام الفلكية، ويضبطوا بالكتاب والحساب دوراتها المنتظمة التي نظمتها قدرة الله العليم القدير بصورة لا تختل، ولا تختلف، حتى يعرفوا مسبقاً بالحساب متى يهل بالهلال الجديد، فينتهي الشهر السابق ويبدأ اللاحق، لاعتمدوا الحساب الفلكي. وكذا كل من يصل لديهم هذا العلم من الدقة والانضباط إلى الدرجة التي يوثق بها ويطمئن إلى صحتها.

وهذا أوثق وأضبط في إثبات الهلال من الاعتماد على شاهدين ليسا معصومين من الوهم وخداع البصر، وكذلك الحساب الفلكي أوثق وأضبط من الاعتماد على شاهد واحد عندما يكون الجو غير صحو والرؤية عسيرة، كما عليه بعض المذاهب المعتبرة في هذا الحال.

مناقشة هذا الدليل:

إن وصف الأمة بأنها أمِّية لا يزال قائماً بالنسبة لعلم سير الشمس ومنازل القمر ومواقع النجوم، فالعلماء به نزرٌ يسير، والذي كثر إنما هو آلات الرصد وأجهزته، وهي مما يساعد على رؤية الهلال في وقته، ولا مانع من الاستعانة بها على الرؤية وإثبات الشهر بها، كما يستعان بالآلات على سماع الأصوات، وعلى رؤية المبصرات، ولو فُرض زوال وصف الأمية عن الأمة في الحساب لم يجز الاعتماد عليه في إثبات الأهلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالرؤية، أو إكمال العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى الحساب واستمر عمل المسلمين على ذلك بعده.

الدليل الثالث: القياس:

إن الفقهاء يرجعون في كثير من شئونهم إلى الخبرة، فيرجعون إلى الأطباء في فطر المريض في رمضان، وتقدير مدة التأجيل في العنين، وإلى أهل اللغة في تفسير نصوص الكتاب والسنة، إلى غير ذلك من الشئون، فليرجعوا في معرفة بدء الشهور القمرية ونهايتها إلى علماء الفلك، فهم أهل علم وخبرة، وقولهم أقرب إلى الصحة من رؤية أفراد يحتمل فيهم الخطأ والكذب.

مناقشة هذا الدليل:

هذا قياس مع الفارق؛ لأن الشرع إنما أمر بالرجوع إلى أهل الخبرة في اختصاصهم في المسائل التي لا نص فيها. أما إثبات الأهلة فقد ورد فيه النص باعتبار الرؤية فقط، أو إكمال العدة دون الرجوع فيه إلى غير ذلك.

ويرد عليه:

بأن النص الوارد في إثبات الرؤية هو من النصوص التي تحتاج إلى تأويل خاصة وأنه لم يعد في زماننا هذا الاقتصار على الرؤية ويوجد ما يقوم مقامها وهو الحسابات الفلكية الدقيقة, فقد علل نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك بأن الأمة كانت لا تعرف الحساب وقد وجد اليوم من يعرف تفاصيله فلماذا لا نعتمد عليه.

الدليل الرابع: المعقول:

إن توقيت بدء الشهر القمري ونهايته، لا يختلف عن توقيت الصلوات الخمس وبدء صوم كل يوم ونهايته، وقد اعتبر الناس حساب المنازل علمياً في الصلوات والصيام اليومي، لقول الله تعالى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (الإسراء: الآية 78)، فليعتبروه في بدء الشهر ونهايته، إذ لا فرق بين الأمرين، ومن فرق بين الأخذ بالحساب الفلكي في تحديد أوقات الصلوات، وبين إثبات دخول الهلال لم يأت بدليل صحيح. بل إن الأخذ بالحساب الفلكي واعتباره في تحديد أوقات الصلوات أعظم من اعتباره في إثبات دخول الهلال؛ وذلك لأن الصلاة تتكرر خمس مرات في اليوم والليلة، بخلاف إثبات دخول الهلال فيكون كل شهر، والصلاة أعظم.

مناقشة هذا الدليل:

إن الشرع أناط الحكم في الأوقات بدخولها، قال تعالى: {أقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (الإسراء: الآية 78)، وقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الليل}(البقرة:187)، وفصلت السنة ذلك، وأناطت وجوب صوم رمضان برؤية الهلال، ولم تعلق الحكم في شيء من ذلك على حساب المنازل، وإنما العبرة بدليل الحكم.

الدليل الخامس: إن علم الحساب مبني على مقدمات يقينية، فكان الاعتماد عليه في إثبات الشهور القمرية أقرب إلى الصواب، من الاعتماد على الرؤية البصرية، التي تحتمل الخطأ والكذب والنسيان، وفي هذا تحقيق للوحدة بين المسلمين في نسكهم وأعيادهم.

الترجيح

بعد النظر في أدلة كل من الفريقين، والمناقشات التي جرت بينهم، وكذلك آراء العلماء المعاصرين في الأخذ باعتماد الحسابات الفلكية يتضح للباحث أن القول بالأخذ بالحسابات الفلكية هو الأقرب للصواب وذلك للأسباب الآتية:

وقد كان هذا في القرن السابع عشر الميلادي، فكيف والحال أن الحسابات باتت يقينية في القرن الحادي والعشرين، وهل من عذر لنا اليوم في رفض نتائج هذه الحسابات، وقد أخذ بها علماؤنا منذ مئات السنين.

إضافة إلى ما سبق من أسباب الترجيح فقد رجح الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة، في موسوعته: “يسألونك” القول باعتماد الحسابات الفلكية في إثبات الأهلة ، وقد عزا ذلك إلى تطور وسائل الاتصال في زماننا هذا”.

مع التنويه إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار بالرؤية البصرية، وعدم إهمالها في إثبات الأهلة، لجريان العمل بها أزمانا طويلة، بحيث تتعاضد وتتوحد الرؤية البصرية مع الحساب الفلكي، ليكون ذلك أدعى إلى اجتماع الأمة ووحدة كلمتها, خاصة وأن الخلاف لم يحسم بعد وهو قائم إلى حين كتابة هذه الأطروحة.

—–

* المصدر: مجلة الأمة الإلكترونية.

Exit mobile version