حقوق الطفل.. بين الشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية

 

– لدى الحضارات الشرقية القديمة والرسالات السماوية نظم أخلاقية متكاملة تحدد حقوق وواجبات كل إنسان بدقة

– الخطاب القرآني لا يتناول حقوق الطفل وقضاياه بمعزل عن شبكة علاقاته وموقعه ضمن البنية الأسرية

– القرآن لا يتحدث عن سن محددة تنتهي عندها الطفولة وإنما يتحدث عن أطوار رئيسة تتشكل ضمنها

– من الإشكاليات التي تثيرها الاتفاقات الدولية أن الطفل قد يصبح بالغاً ولكنه لم يزل طفلاً ولا يمكن مساءلته جنائياً

 يمكن التأريخ لبداية الاهتمام الدولي بالمسألة الحقوقية إلى الربع الأخير من القرن الماضي، فمنذ عام 1975م الذي أطلق عليه «العام الدولي للمرأة»، شرعت الأمم المتحدة، بوصفها التعبير المؤسسي عن النظام الدولي، في عقد عدد من المؤتمرات المعنية بكل من المرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة، أسفرت عن إصدار سلسلة من المواثيق والمعاهدات الدولية تخص هذه الفئات.

لعل هذا التوقيت يفسر لنا دواعي الاهتمام العالمي بالحقوق، ففي ذلك الحين كانت الحرب الباردة الأيديولوجية التي دارت رحاها بين بلدان أوروبية اعتنقت النموذج الماركسي، وبلدان أخرى تبنت النموذج الرأسمالي على وشك الانتهاء، معلنة انتصار الفريق الأخير الذي يتخذ من الحقوق والحريات والديمقراطية أدوات لتنفيذ سياساته، ويأتي الاهتمام الحقوقي تعبيراً عن محاولة إعادة صياغة المجتمعات في بلدان العالم وفق النموذج الرأسمالي الذي يتم تصديره بوصفه نموذجاً أمثل يتوجب محاكاته والاحتذاء به، وبذلك تكون الرأسمالية قد أحرزت نجاحاً مزدوجاً على الصعيدين السياسي والاجتماعي في آن واحد.

وعلى ضوء هذه الخلفية، يمكن فهم السياقات التي أُنتجت خلالها هذه الوثائق الحقوقية، وتفسير دواعي تأثرها بالثقافة الرأسمالية، وفهم علاقتها بالواقع، فهي لم تكن قط مطلباً دولياً ملحاً، كما لم تفض إلى تحسن الوضع الحقوقي؛ إذ رغم توقيع معظم بلدان العالم على اتفاقية حقوق الطفل عام 1989م لم تزل أوضاع الأطفال تُنتهك في مناطق النزاعات كسورية وأفغانستان، وفي المناطق الأكثر فقراً وبخاصة أفريقيا جنوب الصحراء.

والإشكالية الكبرى في هذه الوثائق أنها توهم بأن الحضارات والثقافات العريقة لم تعرف مدونات حقوقية من قبل، وهو ادعاء ينفيه ما نجده لدى الحضارات الشرقية القديمة والرسالات السماوية من نظم أخلاقية متكاملة تحدد حقوق وواجبات كل إنسان بدقة.

وفيما يلي أعرض بإيجاز للرؤية القرآنية للطفل وحقوقه، ثم أقارن بينها وبين الرؤية الغربية كما تكرسها المواثيق الدولية للطفولة.

الطفل في التصور القرآني:

لم يفرد القرآن سورة بعينها للحديث عن الطفل، وإنما أتى ذكره في مواضع عديدة تحدثت عن أطواره وتشريعاته وحقوقه وعلاقاته بوالديه وذوي الأرحام، وضمن هذا السياق يقدم القرآن السيدة مريم، ولقمان الحكيم، كنموذجين للأمومة والأبوة، وبصفة عامة يتسم خطاب القرآن المتعلق بالطفل بخصيصتين أساسيتين:

الأولى: العمومية؛ يوصف الخطاب القرآني عامة بأنه خطاب عموم لا خطاب خصوص، فهو يعلو فوق التفاصيل والجزئيات وينحو نحو الكليات، مستهدفاً إيجاد نماذج مجردة قابلة للتعميم والتطبيق مع اختلاف السياقات الزمانية والمكانية.

والثانية: الكلية والشمول؛ وتعني أن الخطاب القرآني لا يتحدث عن شخوص وآحاد مجتزئة، فلا يتناول حقوق الطفل وقضاياه بمعزل عن شبكة علاقاته وموقعه ضمن البنية الأسرية، بل إنه يرتب واجبات معينة على ذوي الأرحام (الجد، العم، الأخ الأكبر..) في حالة وفاة الأب، وهو بهذا يخلق منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات، فكل حق يقابله واجب بالضرورة، ومن ذلك أنه في مقابل تمتع الطفل بحق الرعاية المادية والمعنوية، فإن عليه الالتزام بالواجبات الأخلاقية التي يرشده إليها ذوو الولاية التأديبية عليه.

وخطاب القرآن يعكس هاتين الخصيصتين بوضوح؛ فهو لا يتحدث عن سن محددة تنتهي عندها الطفولة، وإنما يتحدث عن أطوار رئيسة تتشكل ضمنها؛ وهي تبدأ بما أسماه سبحانه تعالى «خلقاً آخر» وهو الجنين في بطن أمه، ثم الطفل الذي لم يبلغ حد التمييز، ثم الغلام أو الصبي المميز، ويتحدث عن خصائص الطفولة ويجملها في: الضعف وعدم القدرة؛ (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ) (الروم: 54)، ومحدودية العقل؛ (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (النحل: 78)، وعدم المسؤولية عن نتائج الأفعال سيما الجنائية إن كان غير مميز.

واستناداً إلى هذه الخصائص، أوجد الله تعالى حقوقاً للطفل وجعلها على شاكلتين:

حقوق مادية؛ وهي جملة حقوقه الأساسية كحقه في الحياة؛ (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ) (الأنعام: 151)، وحقه في إثبات نسب له (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ) (الأحزاب: 5)، وحقه في الرضاعة والنفقة والكسوة بحسب حالة الوالدين؛ (وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 233).

وحقوق معنوية، وقد أتى القرآن على طرف من ذكرها وتوسعت فيها السُّنة، ومنها حق الطفل أن يكون موضع عطف الآخرين، وكان صلوات الله عليه شفوقاً بأحفاده الصغار؛ (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ) (آل عمران: 159)، وحقه في التوجيه والنصح بغير عنف؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (التحريم: 6)، وحقه في التعليم والتأدب بالآداب الخلقية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء‏) (النور: 58).

حقوق الطفل في المواثيق الدولية:

وعلى الجهة المقابلة، تحمل المواثيق الدولية تصوراً مغايراً للطفل ولحقوقه، ويمكن أن نعرض بإيجاز لمعالم هذا التصور الدولي من خلال وثيقتين أساسيتين:

– اتفاقية حقوق الطفل، الصادرة عن الأمم المتحدة في نوفمبر 1989م، وقد احتوت على 54 مادة تحدثت عن أهم الحقوق المفروضة للطفل على والديه والمجتمع والدولة والمجتمع الدولي.

– وثيقة عالم جدير بالأطفال، الصادرة عن الأمم المتحدة في مايو 2002م، وتتحدث عن أربعة متطلبات ينبغي تحقيقها للطفل، وهي: توفير الحياة الصحية، توفير التعليم الجيد، الحماية من الإيذاء والاستغلال والعنف، ومكافحة فيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز).

وعلى الرغم مما تضمنته هذه الوثائق من حقوق أساسية نصت عليها الشريعة؛ كالحق في التعليم والرعاية الصحية، فإن هناك اختلافات مهمة بينهما من قبيل:

– الاختلاف المفاهيمي: ويُقصد به استخدام الوثائق مفاهيم ثابتة ومتداولة ولكن بعد تفريغها من مدلولها وإكسابها مدلولات جديدة، ومن ذلك مفهوم الطفل يعني «كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره» وفقاً لاتفاقية الطفل، وهو تعريف يثير إشكاليات، منها أن الطفل قد يصبح بالغاً ولكنه لم يزل طفلاً في نظر القانون الدولي، ومنها أن بلداناً عديدة تقوم بتجنيد من هم في سن الخامسة عشرة في قواتها المسلحة، فإذا نشبت حرب بين بلدين فإنما تقوم بين جيوش قوامها الأطفال في هذه الحالة ولا يمكن مساءلتهم جنائياً عن جرائم ارتكبوها أثناء الحرب، وليس هذا الاختلاف المفاهيمي الوحيد، إذ بينما تعترف الديانات السماوية بشكل واحد للأسرة هو الأسرة الطبيعية المكونة من رجل وامرأة، فإن المواثيق تنص على أن «الأسرة تتخذ أشكالاً مختلفة باختلاف النظم الثقافية والاجتماعية والسياسية»، الأمر الذي يسمح بقيام أسر مكونة من رجلين أو امرأتين.

– انتهاك البراءة: مع تمديد سن الطفولة إلى هذه السن المتأخرة يغدو ضرورياً للطفل ممارسة الجنس باعتباره حقاً أصيلاً تبيحه المواثيق الدولية، وهو الحق الذي أثبتته اتفاقية الطفل، ثم جعلت منه وثيقة «عالم بلا أطفال» أحد الحقوق الرئيسة الأربعة التي يتوجب منحها للطفل، وعلى هذا ورد لفظ الجنس بمترادفاته المختلفة: كالصحة الإنجابية والصحة الجنسية، والعنف الجنسي، والاستغلال الجنسي، والسياحة الجنسية، ما يقرب من عشرين مرة على مدار الوثيقة، على حين تم غض الطرف عن الموضوعات الأخرى ذات الأهمية؛ كالأخلاق والدين اللذين ورد ذكرهما في أربعة مواضع بصيغة مبهمة داخل الوثيقة.

– التأديب والتهذيب: تفرط الوثائق الدولية في الحديث عن الحقوق المادية للطفل كالتعليم والصحة، لكنها في المقابل تغض الطرف عن حقوق الوالدين على الطفل لاسيما حق التهذيب، وما تجدر ملاحظته أنه بينما تحدثت وثيقة الطفل في بند وحيد عن ضرورة توفير الوالدين «التوجيه والإرشاد» لأطفالهما بما يتفق مع حقوقهم المعترف بها في الاتفاقية، فإن وثيقة «عالم جدير بالأطفال» خلت من أي إشارة إلى مسألة التأديب والتهذيب؛ مما يدل على التدهور الحاصل في الرؤية الأممية المتعلقة بمسائل التهذيب والتقويم والأخلاق عموماً، وهي لا تكتف بذلك، وإنما تحمل بشدة على ما تسميه «العنف» و»الإساءة» و»الإضرار» بالبنية المادية والمعنوية للطفل.

والخلاصة أننا بإزاء رؤيتين متضادتين للطفل؛ إحداهما يمثلها الإسلام والديانات السماوية، والأخرى تمثلها المواثيق الدولية، فعلى أتباع الأديان توحيد جهودهم والخروج بوثيقة دينية شاملة تجمع خلاصة ما في الأديان وتقديمها في قالب حقوقي عصري.

 

 

دكتوراه في التاريخ الحديث (*)

Exit mobile version