التربية وحماية الناشئة من الانحراف في ظل العولمة

– العولمة حسب «جارودي» نظام يُمكّن الأقوياء من فرض الدكتاتوريات اللاإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين

– للعولمة تأثيرها على أسس التربية والأخلاق والتعليم حيث أحدثت إخلالاً في الجانب الإنساني بشخصية الفرد

– في ظل العولمة ظهر النشء في بيئتنا العربية محملاً بثقافة الاستهلاك أكثر من رغبته في الإنتاج

 

لا يزال العصر الحديث يشهد حالة الغثاء التي آلت إليها الأمة منذ أكثر من قرنين من الزمن، وهذه الحالة ليست ثابتة، بل تزداد يوماً بعد يوم، وتتطور مخاطرها على الحرث والنسل، والأمر مرشح للمزيد من التدهور والمزيد من الهوان والتردي، والواقع أن الأمة صارت بين فكين أقسى عليها من حجارة الرحى؛ كل منهما يعمل على تحويلها إلى ذرات تذروها الرياح، فقد وقعت بين كيد عدو يكيد لها الليل والنهار، ساعده جهل تتسع آفاقه كماً وكيفاً بين مكوناتها البشرية.

تمثل حالة الاستلاب والعجز أمام المستعمر الغالب صورة مهينة لانكسار أمة دامت حضارتها مئات السنين، وبفعل التغلب غلب على الأمة قانون المتغلب الذي يقوله ابن خلدون (808هـ): «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»(1).

العولمة هي: عملية الوصول بالبشرية إلى نمط واحد، في التغيير والأكل والملبس والعادات والتقاليد(2)، وقد ظهر هذا المصطلح كتيار فكري بيننا إبان سيطرة عولمة أخرى على مستوى السلع والمنتجات التي تمثل ركائز في حياة الأمم، حيث تسللت العولمة أولاً بمظهر اقتصادي، وهو المدخل الأهم لإفقار الأمم والتحكم في أنظمتها، ثم بدأت تأخذ لوناً ثقافياً وسياسياً وتفرضه على الشعوب فرضاً.

والعولمة عملية مصحوبة برغبة في تغيير تشمل عوائد تحرص الأمم على استبقائها بين أفرادها، وهو ما أكده جارودي بقوله: «العولمة نظام يُمكّن الأقوياء من فرض الدكتاتوريات اللاإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين بذريعة التبادل الحر وحرية السوق»(3).

تتسلل العولمة أيضاً إلى أسس التربية والأخلاق والتعليم، فقد لوحظت آثاره في نظم التربية الحديثة التي تشيع في العالم العربي، وأحدث إخلالاً في الجانب الإنساني في شخصية الفرد، ولقد فصلت موجات التأثير بالغالب بين العلوم الطبيعية، والعلوم الإنسانية والدينية، وربما جعلت مهمتها المشاركة في الترويح، وتخفيف التوترات النفسية والاجتماعية التي تفرزها بيئة العمل والاستهلاك، وكانت المحصلة لذلك عودة «الصنمية» إلى وجدان الفرد المعاصر، حيث انغرس في نفسه نوع من الاقتران الإشراطي بقدرة الإنسان على رزق أخيه الإنسان أو حرمانه، وقدرته على منح الحياة أو سلبها، فأدى ذلك كله إلى عودة الرق في شكل يناسب العصر(4).

ظهر النشء في بيئتنا العربية في ظل الاستيراد الجارف للعولمة، وفي ظل فرض ما يتأبّى على الاستيراد، محملاً بثقافة الاستهلاك أكثر من رغبته في الإنتاج والعطاء، مجافياً نموذج التربية الإسلامية؛ حيث إن الفرد يبذل جهده لينتج وينفع كما في الحديث: عن أبي مسعود، رضي الله عنه، قال: «لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل..»، قال النووي معناه: نحمل على ظهورنا بالأجرة ونتصدق من تلك الأجرة أو نتصدق بها كلها، ففيه التحريض على الاعتناء بالصدقة، وأنه إذا لم يكن له مال يتوصل إلى تحصيل ما يتصدق به من حمل بالأجرة أو غيره من الأسباب المباحة(5).

من الملاحظ أن الدول المتقدمة تسعى من خلال العولمة إلى تحقيق الغزو الثقافي والفكري وفرض ثقافاتها وأنماطها الحياتية على ثقافات وأنماط الحياة في الدول النامية، ومنها الدول العربية بقصد إلغاء خصوصيتها الثقافية وجعلها في إطار مفهوم التبعية(6)، وأكثر من يتلقف هذا ويتأثر به هم الناشئة المستقبلون للحياة الوارثون المجتمع بعد حين.

نلاحظ أن الفارق بين منهجين للتربية: الذي جسدته العولمة، والذي أشاعه منهج التربية الإسلامية يكمن في أن الأخير جعل الأخلاق عادة في سلوك الإنسان يجعل اتجاهه للخير نابعاً من الحب للخير، واجتناب الشر نابعاً من كراهية للشر؛ لأنه شر في السر والعلانية، فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ {22}) (الرعد)(7)، فانظر إلى الابتغاء الذي هو في حد ذاته غاية للفعل الناتج عن التربية الصحيحة التي تجعل الرقابة الداخلية هي العنصر الأهم في الرقابة، ثم هي تفعل الخير من أجل الخير ونفع الناس وتخفيف حدة الفقر، وتقليل الحاجة قدر المستطاع.

هذا النموذج تسعى العولمة سعياً حثيثاً لدحره ورفعه، تمهيداً لشيوع أنماطها، وهو ما أكدته الأمم المتحدة حيث أصدرت تقريراً يفيد بأنَّ قوى العولمة رغم إتاحتها فرصاً نفعت بعض الشعوب وبعض الدول، إلا أنها أسهمت في الوقت نفسه في كثير من دول العالم في رفع معدلات الفقر والظلم، والقلق على فرص العمل، وإضعاف المؤسسات التي تقدم الدعم الاجتماعي للفقراء، كما أسهمت في تفتت القيم والعادات السائدة منذ زمن بعيد(8).

تتجلى خطورة العولمة على النشء في كونها تسعى لطمس الهوية العربية والإسلامية لديهم، وإحلال الثقافة الغربية محلها، كما تعمل جاهدة على قطع الصلة بين النشء وتراثه الماضي، من خلال التشكيك في الموروث الديني والتاريخي والثقافي.

خطوات نحو الحل

في سبيل الاحتياط في تربية النشء وتوجيه اهتماماتهم نحو قضايا الأمة وتربيتهم وفق أعراف مستمدة من علوم الوحي المطهر، لا يمكن بحال مقاومة العولمة برفضها أو رفض التعاطي معها، ذاك أنها كالإعصار الذي يأتي على حين غرة، فلا يملك المرء مهما كانت قوته أن يقاومه أو يحول مساره، بل قصاراه في ظل حالة الضعف التي هو عليها أن يتلافى خطورته حتى يمر، وتلافي هذه الخطورة يكمن في تحصين النشء تحصيناً يجعله عصياً على الذوبان، ولا يتم هذا إلا من خلال العملية التعليمية، وجعل التعلم  قضية أولية للاهتمامات على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، وكلما قصرت جهة قامت الأخرى بتلافي الخلل، فالتعليم هو المحصن الأول ضد ذوبان النشء في ثقافة العولمة وقيمها التي تأتي على الهوية فتحيلها إلى غثاء.

لا بد أيضاً من أن تسهم قوى المجتمع المدني في تحصين النشء من قوى العولمة الطاغية، التي أشاعت أدب الجنس، وثقافة العنف التي أدت إلى تنشئة أجيال تؤمن بالعنف كأسلوب للحياة؛ فلا مناص من تقديم البدائل الصالحة لكل ما تدفع به نحو هذه الثقافة التي تعزز الذوبان.

يأتي في هذا الخصوص الفن كركيزة مهمة لمقاومة العولمة الفنية، كما أنه لا بد من شيوع ثقافة الحرية في كل المجالات، إذ هي ضمانة من ضمانات التفكير السليم الذي لا تنتهبه المغريات، كما يجب أن يتمحور الإعلام نحو قضايا الأمة وتقديم النافع الذي يمكث في الأرض والتجرد لله في الأهداف والوسائل، وهذا التجرد لا بد أن يشمل الأفراد أيضاً للإسهام في عملية التحصين، وانظر إلى هذا النموذج الفردي الذي حفظته كتب التراث في مبادرات الأفراد لتحصين النشء والأخذ بأيديهم نحو الفاعلية من خلال العلم، عن أبي يوسف قال: كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقلٌّ رثّ الحال، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه، فقال: يا بني، لا تمدن رجلك مع أبي حنيفة؛ فإن أبا حنيفة خبزه مشوي، وأنت تحتاج إلى المعاش، فقصرت عن كثير من الطلب، آثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة، وسأل عني، فجعلت أتعاهد مجلسه، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه، قال لي: ما شغلك عنا؟! قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي، جلست فلما انصرف الناس، دفع إليَّ صرة، وقال: استمتع بهذه، فنظرت فإذا فيها مائة درهم، فقال لي: الزم الحلقة وإذا نفذت هذه فأعلمني، فلزمت الحلقة.. حتى استغنيت وتمولت(9).

فهذا جهد الفرد الإمام الذي يجعل العلم والمال رسالة في آن واحد يبذلهما معاً للفرد حيثما تطلب الأمر، لا أنها سلعة لا تبذل إلا بمقابل.

الهوامش

(1) تاريخ ابن خلدون (1/ 184).

(2) انظر: العولمة الثقافـية، د. صالح الرقب، نقلاً عن فخ العولمة، ص 55 – 58.

(3) العولـمة المزعومة: الواقع.. الجذور.. البدائل، تعريب د. محمد السبيطلي، دار الشوكاني للنشر والتوزيع، صنعاء، اليمن، 1998م، ص 17.

(4) أهداف التربية الإسلامية، ماجد الكيلاني، ص 175.

(5) شرح النووي على مسلم 3/ 462.

(6)https://sites.google.com/site/socioalger1/lm-alajtma/mwady-amte/tathyr-alwlmte-ly-altlym-fy-alwtn-alrby

(7) بيئات التربية الإسلامية، عباس محجوب، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ص 114.

(8) مجلة المشاهد السياسي، عدد 108، 11 أبريل 1998م، ص 36.

(9) تاريخ بغداد (14/ 244).

Exit mobile version