الرسول والرسالة

ولد يتيماً وحُرم حنان أمه طفلاً فكان لليتيم والضعيف كالأب الرحيم

أكل من عمل يده وشجع على ذلك ليعلمنا عفة النفس والمطعم

حفظه الله في صباه من اللهو والشرك وأخرج من قلبه حظ الشيطان منه

 

ماذا عليَّ أن أكتب حين أتحدث عن خير الناس وسيد ولد آدم، وحبيب الرحمن وخليله ومصطفاه؟! بل وأنّى لي أن تتحرك أناملي لتخط حروف الكلمات التي تعجز أن تدانيه فضلاً؛ وهو أفضل الخَلق، أو تكفيه وصفاً وهو أكملهم، أو تذكره حُسناً وهو أجملهم؟! فمهما طالت كلماتي وأفصحَت، ومهما وصلتْ من البلاغة مبلغها ومن الفصاحة منتهاها فلن توفيه مثقال ذرة من ذلك كله، لكنها جهد المقل من مُحب مقصّر علها تشفع له في يوم يرجو فيه الصحبة والحشر مع مَن يحب.. مع نبيه ورسوله محمد “صلى الله عليه وسلم” وخيرة الناس من صحبه رضوان الله عليهم.

الرسول.. وتباشير الاصطفاء:

أي نور أضاء الكون فغطى على نور الشمس وحجب ضوءها، بل أي بركة حلَّت، وأي سعادة طلَّت، وأي رحمة هلَّت، وأي حرية بدت تباشيرها؛ حين ولد محمد! بل أي نصر تراءى في الأفق عام مولده فكان فيه هلاك أبرهة الظالم وجيشه وجنوده!

ورسولنا “صلى الله عليه وسلم” ولد يتيماً، وحُرم حنان أمه طفلاً فذاق طعم اليتم وقسوة الحياة بدون أب أو أمّ؛ لكنه مع يتمه نَعم برعاية جده عبدالمطلب ومِن بعده عمه أبي طالب وقد أولياه رعاية واهتماماً كبيراً، ورعاية الأقارب لليتيم قد تعوضه بعض الشيء عن فقد والديه لكنها لا تنسيه مرارة اليتم الذي يتذوقه ويتذكره كل لحظة في نفسه، لذا فلا عجب أن نجد وصية الله له وقد صار محمد رسولاً: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ {9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ {10}) (الضحى). 

فكان “صلى الله عليه وسلم” لليتيم والضعيف كالأب الرحيم، وقد تولدت الرحمة في قلبه والرأفة والشفقة فكان أرحم الناس لا سيما مع الأيتام والضعفاء وذوي الحاجة، وأخذ بوصية الله تعالى، ودعا إليها قائلاً: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى (رواه البخاري)، وقال لمن يشتكي قسوة قبله: «ارحم اليتيم، وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك» (أخرجه الطبراني وصححه الألباني)، وعندما شب الرسول “صلى الله عليه وسلم” رعَى الغنم، ولم يستنكف من ذلك أو يأنف بل إنه يقول: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم»، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (رواه البخاري)، فتعلم الصبر على النفوس المتغايرة، وعرف كيف يتعامل معها إذا شردت عن الطريق، وكيف يحنو عليها ويؤلف قلوبها ويضمها إليه.

كما ذاق حلاوة الأكل من عمل يده، وشجع على ذلك فيما بعد، وقال: «ما أكل أحد طعاماً خير من أن يأكل من عمل يده» (رواه البخاري)؛ ليعلمنا عفة النفس والمطعم، وأن العمل الحلال خير من سؤال الناس، كما عمل بالتجارة في مال خديجة، وقد كان يلقّب بـ«الصادق الأمين»؛ فكان صادقاً في عمله أميناً في تعامله وفيما وُكل إليه، ثم كانت رسالته بعد ذلك داعية لحفظ الأمانات وحفظ الأموال وإنفاقها في قضاء الحاجات ونفقات البر والخير.

البداية:

وتبدأ رحلة الحبيب المصطفى “صلى الله عليه وسلم” مع الرسالة، وقد اصطفاه الله واختاره لهذه المهمة الشاقة التي تحتاج منه إلى عزم وصبر وثبات ويقين، وعون وتأييد، وهي بالرغم من ثقلها ومسؤوليتها فإنها تكريم له من ربه، وتشريف وقرب، وقد حباه الله تعالى بأحسن الأخلاق وأعظمها، وطهر لها قلبه منذ نعومة أظفاره، فلا قلب من قلوب الخلق يصلح لها غير قلب الرسول “صلى الله عليه وسلم”، قال تعالى: (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: 124)، وفي وقت كان الشباب يلهون ويعبثون بأوقاتهم كان هو مع الله، لم يسجد لصنم قط أو يحبه أو يقدسه ويعبده، بل حفظه الله تعالى من اللهو والعبث والشرك والوثنية، وأخرج من قلبه حظ الشيطان منه، وحبب إليه الخلوة معه والتعبد له، وجعله صادقاً في رؤياه صدقه في كلامه ومنطقه، فكان لا يرى رؤيا إلا كانت كفلق الصبح تحققاً ووضوحاً وصدقاً ويقيناً، وكانت هذه هي البداية التي سبقت بعثته بالرسالة.

الرسول الخاتم:

إنه “صلى الله عليه وسلم” الرسول الخاتم، والرحمة العامة، والهداية التامة، والبلاغ المبين، حفظه الله تعالى وعصمه حتى يقوم بالمهمة العظيمة التي أرسله من أجلها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة: 67)، قال الشيخ السعدي: «هذا أمر من الله لرسوله محمد “صلى الله عليه وسلم” بأعظم الأوامر وأجلها، وهو التبليغ لما أنزل الله إليه، ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه “صلى الله عليه وسلم” من العقائد والأعمال والأقوال، والأحكام الشرعية والمطالب الإلهية، فبلغ “صلى الله عليه وسلم” أكمل تبليغ، ودعا وأنذر، وبشر ويسر، وعلّم الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين، وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله، فلم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرها منه. (تفسير السعدي).  

أنزِل عليه الوحي من ربه؛ فصار بذلك نبياً، وجعل الله له شريعة ورسالة أُمِر بتبليغها والدعوة إليها فأصبح رسولاً، فهو “صلى الله عليه وسلم” نبي مرسل، أما رسالته فلأنها خاتمة فهي رسالة تامة خالدة، بدأت بكلمة «اقرأ»، و«يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلاً»، «يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر»، وهذه مقومات نجاح كل الرسالات؛ العلم، وتزكية النفس بهذا العلم، ثم دعوة الناس له لتزكو نفوسهم وتصلح أحوالهم، هي رسالة خالدة على مر الزمان.

وها هي تتردد كل يوم فوق المآذن وفي قلوب المسلمين وعلى ألسنتهم، بل يسمعها القريب والبعيد الآن مع اتساع رقعة شبكات التواصل ووصول خيوطها إلى آفاق بعيدة تصل عبرها أصوات الدعاة وحروفهم وكلماتهم ومناظراتهم في سبيل إيصال هذه الرسالة الخالدة لمن يفتقدها أو يضل عنها.

نحن.. ورسالة الإسلام:

إذا كانت الرسالة التي أُرسل بها رسولنا محمد “صلى الله عليه وسلم” من عند الله فهي ربانية المصدر، أي أن كل ما فيها إنما هو من ربنا؛ العليم بكل شيء يصلحنا؛ الحكيم في أوامره ونواهيه لنا؛ لذا فلا يسعنا إلا السمع والطاعة، واليقين بأنها رسالة تامة سالمة من النقائص والشكوك، هادية لمن يأخذ بها ويعمل، تراعي أحوال الناس وتتصف باليسر ورفع الحرج عنهم.

وإذا كان أساسها وأصلها هو القرآن الكريم الذي قال الله تعالى عنه: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ {42}) (فصلت)، فهي رسالة محفوظة بحفظ الله لكتابه، لذا فإن علينا الأخذ بشريعة الإسلام في شؤون حياتنا كلها، والتحاكم إليها، وتحكيمها في خلافاتنا، والاهتمام بدراستها، واستخراج الأحكام الشرعية من القرآن الكريم الذي هو مادتها وحياتها، وألا ننسلخ عنها فنقول أو نروج ما يشيعه المغرضون ومَن لا علم لهم من أن ذلك لا يصلح لهذا الزمان! بل إن علينا أن نربي أنفسنا وأولادنا على الأخذ بها والالتزام بما تدعو إليه من سلامة العقيدة، وحسن الأخلاق، وطيب المعاملات، والحفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والنسل والمال.

فشريعة الإسلام تناسب كل العصور، ومن أصولها تُبنى وتُستنبط الأحكام الشرعية لما يستجد في حياة الناس، ويقوم بذلك العلماء والفقهاء الربانيون من أهل الاجتهاد، الذين لا يخافون في الله لومة لائم. 

هذا هو الرسول “صلى الله عليه وسلم”، المبعوث رحمة للعالمين، أرسله الله إلى الناس كافة، وقال له: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {28}) (سبأ)، وأمره بإيصال رسالته بحسن البلاغ: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل، في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من الصحابة نحو من أربعين ألفاً كما ثبت في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله “صلى الله عليه وسلم” قال في خطبته يومئذ: «أيها الناس، إنكم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟»، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ويقلبها إليهم ويقول: «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت» (تفسير ابن كثير). 

وهذه هي الرسالة، وقد استغرق الرسول محمد “صلى الله عليه وسلم” في سبيل إيصالها حياته كلها ووقته جله، وجهده وطاقته، منذ أرسله الله بها إلى أن توفاه، وقام بها أصحابه من بعده وحملوا مهمة إيصالها للناس ففهموها، والتزموها قولاً وفعلاً وسمتاً وخلقاً قبل أن يدعوا إليها؛ ففتحوا القلوب بها قبل أن يفتحوا البلدان.

ثم حَمَل هذه الرسالة العظيمة مَن جاء بعدهم حتى وصلت إلينا، وأصبحنا بفضل الله من أهلها، وصار لها علينا حق وأي حق، لذا فإن من الواجب علينا تجاهها أن نمتثل لها، ونمثلها أمام الناس خير تمثيل، وأن نقدمها لهم ولكل محروم منها في أرقى صورة وأبهى حلة وأحسن أسلوب حتى يقبلوا عليها ويكونوا من أهلها، وأن ندفع عنها الشكوك والأقاويل التي تقال عنها ممن لا يعرفونها حق المعرفة، ونكشف عن الشبهات التي تثار ضدها ونبطل المؤامرات التي تحاك لإبعادها وإبعاد المسلمين عنها، ولنحمل أمانتها بحق وصدق، ونسلمها لمن بعدنا بسلام حتى تظل رايتها عالية خفاقة إلى يوم الدين.

Exit mobile version