100 عام على الشيوعية.. وعود براقة وإخفاقات كثيرة!

بعد مائة عام على اندلاعها، وبعد أن كانت ينضوي تحت شعاراتها البراقة نحو ثلثي العالم؛ لم يتبق للشيوعية سوى قليل من الوهج، في كوبا وكوريا الشمالية، وفي بعض الأحزاب العربية التي باتت في وضع أشبه ما تكون فيه ببقايا ديناصورات منقرضة!

الثورة الشيوعية التي انطلقت شرارتها في عام 1917، واجتذبت إليها الملايين داخل روسيا وخارجها، بآمالها ووعودها الخلابة- بالمساواة وإذابة الفوارق، وإنصاف العمال، وتحرير المرأة- ظلت تملأ الدنيا وتشغل الناس ما يقارب السبعين عامًا، قبل أن يتفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، وينكشف المستور!

قبل هذا التفكك بسنوات، حاول الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف أن ينفذ برنامجًا للإصلاحات الاقتصادية تحت شعار “البيريسترويكا”، أي “إعادة البناء”؛ لكن لم يسفر هذا البرنامج إلا عن تسريع وتيرة الذهاب إلى التفكك، لأن المرض كان قد انتشر في الاتحاد السوفييتي، واستعصى على العلاج.

الفكرة الشيوعية في حد ذاتها تحتوي على عوامل نقدها ونقضها، وليس صحيحًا أن التطبيق الشيوعي هو ما أفشل التجربة، كما يدافع أنصارها… وإن كان من المهم أن نشير إلى ما حققته هذه التجربة من إنجاز في بعض وعودها؛ مثل إنصاف العمال وتخفيض ساعات العمل، ولفت النظر إلى أهمية العدالة الاجتماعية، وإشراك المرأة في المجتمع.. لكن تطرُّفَ طَرْحِها، لا يمكن أن يكون بديلاً لتطرف الرأسمالية؛ لأن التطرف لا يُعالَج بمثله!

فإزالة الحواجز الاجتماعية والاقتصادية تمامًا بين فئات المجتمع، ومصادرة الملكيات الخاصة لصالح الدولة، وهو ما يوجزه الشعار الشيوعي الأساسي: (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته).. أمور لا تبدو منطقية، ولا يمكن تطبيقها إلا تحت مطرقة القهر والديكتاتورية.. والتجربة الروسية خير شاهد!

ملايين الأبرياء أزهقت الشيوعية أرواحهم بدم بارد؛ إما من خلال إسكات أي صوت معارض للحزب الشيوعي، ولو كان من داخل المفاهيم الشيوعية ذاتها.. أو بإجبار القوميات والعرقيات المختلفة على الانضواء تحت راية الاتحاد السوفييتي بالقوة، خاصة القوميات الإسلامية مثل القوقاز وتركستان.

تبدو الوعود الشيوعية براقة، وذات قدرة على خطف الأبصار.. فأي إنسان سينجذب تلقائيًّا لحديث المساواة والعدالة الاجتماعية وإذابة الفوارق والطبقية، حتى لا يكون ثمة مبرر للظلم الاجتماعي أو الصراع الطبقي.. لكن الصدمة ستكون كبيرة حين يكتشف المرء أن ديكتاتورية الرأسمالية قد تم استبدالها لصالح ديكتاتورية البروليتاريا: طبقة العمال أو الطبقة الكادحة.. وأن وعود العدالة لن تتحقق إلا لأفراد الحزب والمقربين منهم.. وأن طبقة (الباشوات) قد أزيحت وحلَّت محلها طبقةُ (السوبر باشوات)، على حد تعبير د.حسين مؤنس، رحمه الله.

لقد شاء الله تعالى أن يكون الناس في الدنيا بعضهم فوق بعض درجات؛ ليختبرهم، ويُريَهم من أنفسهم من سيشكر نعمة الله ويعطي وينفق، ومن سيصبر ولا يجزع ولا يلجأ لوسائل غير مشروعة لتحصيل المال.. وشَرَعَ سبحانه جملة من الأحكام والآداب تكفل- حين تنفيذها- تقريب الفجوات بين هذه الطبقات، وتحقق السلام بينها لا الصراع، والتكامل لا التحاسد؛ ودون إذابة قهرية لما لا يمكن أن يذاب.. وإلا فلا معنى للاختبار والتكاليف!!

الشيوعية- كما الرأسمالية- تتعامل مع الإنسان بمنظار مادي، كأنه خُلق من التراب ولا همَّ له إلا إشباع حاجاته المادية.. وهي تفسِّر التاريخ والاجتماع تفسيرًا ماديًّا اقتصاديًّا.. ولا ترى أيَّ صلة روحية للإنسان تربطه بخالقٍ عظيم مُفارِقٍ للمادة لأنه صانعها، ومُتجاوِزٍ للكون لأنه ربُّه، سبحانه وتعالى.. فهي ترى المادة ولا غير، وتكتفي بالكون عما خارجه! (ومن هنا- كما أوضحنا في مقال سابق- كان اشتقاق “العَلمانية” من العَلم، أي العَالم، وليس العِلم؛ فالعَالم بمنظورها مكتفٍ بذاته لا يحتاج شيئًا من خارجه- الإله والوحي- ينظِّم له حياته!!).

والشيوعية تجعل البناءَ الفوقي (وهو العقائد، والقوانين، والأخلاق) ناتجًا عن البناء التحتي (وهو مجموع علاقات المجتمع الاقتصادية). يقول “إنجلز”: “تعني النظرة المادية للعالم: النظرةُ إلى الطبيعة كما هي، بدون أي إضافة خارجية”.

فالإنسان في رأيهم كائن مادي، والمادة مصدر فكره وحركته..! وهذا ضد ما يراه الإنسان ويحسه من مشاعر وأفكار تسمو على المادة ولا تنحصر فيها.. كما أن عقل الإنسان وروحه أسمى من أن يدورا حَصْرًا في فلك المادة، وإن كانت المادة أحد العوامل التي تشكِّل الفكر والحركة.

أما المرأة التي وُعدت بالمساواة بالرجل؛ فكانت ضحية لأكذوبة كبرى.. وخرجت من البيت ولم تعد إليه، ولم تجد نفسَها خارجه!!

ولو فرضنا جدلاً أن الإنسان كائن مادي، فإن قوانين المادة ذاتها هي التي تؤكد لنا وجود فارق جوهري بين الرجل والمرأة، لا يمكن تخطيه.. وليس الأديان والفلسفات فقط!!

فالمرأة تحمل وتلد، والرجل لا يمكنه ذلك.. والمرأة- بصفة عامة- ذات عاطفة جياشة، بخلاف الرجل.. فكيف يمكن الزعم بوجود مساواةٍ تامة بينهما ، مساواةٍ تماثل لا تكافؤ!! إن هذا مخالف حتى لقوانين المادة نفسها..!!

ولندع منظِّر “البيريسترويكا”، جورباتشوف، يحدثنا بنفسه عن الحصاد المر للشيوعية في هذه النقطة المهمة؛ إذ يقول في كتابه: “في غمرة مشكلاتنا اليومية الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المميزة المتعلقة بدورها، أمًّا وربة أسرة؛ كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنها مربيةً للأطفال. فلم يعد لدى المرأة العاملة في البناء والإنتاج وفي قطاع الخدمات وحقل العلم والإبداع، ما يكفي من الوقت للاهتمام بالشئون الحياتية اليومية، كإدارة المنزل وتربية الأطفال، وحتى مجرد الراحة المنزلية.

وقد تبين أن الكثير من المشكلات في سلوكية الفتيان والشباب، وفي قضايا خلقية واجتماعية وتربوية وحتى إنتاجية؛ إنما تتعلق بضعف الروابط الأسرية والتهاون بالواجبات العائلية”.

ويضيف جورباتشوف: “ومن هنا، يدور الآن نقاش حاد وحماسي في صحافتنا، ومنظماتنا الاجتماعية، وعلى كل الصعد- في العمل والمنزل- حول مسألة استعادة المرأة لدورها الأنثوي الحقيقي بالكامل” (“بيريسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم أجمع”، ص: 166، 167، دار الفارابي، ط4، 1989م).

ولعلنا نلاحظ، مما سبق، أن معظم ما يوجه للشيوعية من انتقادات، يمكن أن يوجه للرأسمالية أيضًا.. لأنهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة، هي العملة المادية.. وشقيقتان من أم واحدة، هي الحضارة الغربية.. فالشيوعية تبطش بالإنسان بيد من حديد، بينما الرأسمالية تخنقه برباط من حرير!!

لكن الرأسمالية كانت أسعد حظًا في أن مازال لديها بعض النفَس، وقادرة على البقاء ولو قليلاً.. دون أن تمثل بديلاً وحلاً لأزمة الإنسان المعاصر.. وحده الإسلام- كما يقول السفير الألماني المسلم مراد هوفمان- ليس بديلاً من البدائل، بل هو البديل..!

وهذه نقطة يستغلها أنصار الرأسمالية للتدليس على الحقائق.. فيتخذون من سقوط الشيوعية دليلاً على جدارتهم هم بالبقاء، وعلى أحقيتهم في المنافسة!.. لكن لا يغيب عن أذهاننا أن احتضار عالَمٍ قديم، دون وصول عالم جديد، لا يعني سوى إطالة أمد الاحتضار!

الشيوعية والرأسمالية كلاهما وجهان لمعاناة الإنسان المعاصر، وإن اختلفت فلسفتهما في النظر والتشريع.. فالأولى تمجِّد المجموع وتسحق الفرد.. والأخرى تعظِّم الفرد وتتجاهل المجموع، وإن كانت تحاول أن تخفف من هذا الغلواء الآن.. لكنهما تتفقان في النظر للإنسان بمنظار مادي، وفي تجاهل القيم الروحية، والغفلة عن الله تعالى، وفي الزعم بقدرة الإنسان- بعالمه المادي الطبيعي- على التشريع لنفسه، وعلى رسم الطريق لسعادته!

وإذا كان مفكرون كثيرون قد تنبأوا بسقوط الشيوعية، حتى وهي في أوج انتشارها- ومنهم الأستاذ العقاد- فإن سقوط الرأسمالية لا يقل وضوحًا وتأكُّدًا عن سقوط سابقتها.. وإن تأخر بعض الوقت..!

—-

* المصدر: إسلام أون لاين.

Exit mobile version