الهجرة الدائمة

الهجرة الحقيقية هي التي يهاجر فيها المؤمن إلى ربه ومولاه بقلبه وجوارحه وحواسه

على الآباء استثمار فرصة الهجرة لتصحيح المفاهيم المغلوطة والعادات السيئة

من أهم ما يُربَّى عليه الولد أن يهاجر إلى الله بهَجر المعاصي والمحرمات مهما صغرت

طيبة تعينه على الخير!

 

إنها محطة التغيير والتحول من حال إلى حال أفضل وأحسن منه، كما أنها محطة الثبات على كل قيمة إيمانية وخلق رفيع وعمل صالح يحبه الله ويرضاه، مهما كانت العوائق والمغريات الداعية للبعد عنها والتفلت منها.

هي أيضاً من أهم المحطات الإيمانية الضرورية لتغيير المفاهيم المغلوطة واستبدال الصحيح بها، والتحول عنها إلى ما تدعو إليه الفطرة السليمة وأتى به الشرع الحنيف.

هي محطة لا بد منها لكل سالك طريق الحياة لينجو ويسلم من قطاع الطريق على طوله وعرضه.. فأنعِم بها من محطة!

أعظم هجرة:

حين يأتي ذكر الهجرة يسطع أمام الذهن صورة أعظم هجرة في تاريخ البشرية، ألا وهي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة؛ حيث كان الشرك والوثنية يحيط بأهلها وبالكعبة وما حولها، وكان الخوف يسيطر على أجوائها، والأذى ينهش أجساد المؤمنين ويهدد باختراق قلوبهم في محاولات لنزع الإيمان منها، كما تعرّت قلوب المشركين وألسنتهم ليظهر منها البغض سراً وجهراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل مَن أسلم! لكن النبي صلى الله عليه وسلم ترك كل ذلك بعد أن عانى منه صابراً محتسباً ثلاث عشرة سنة، وبأمر من الله تعالى خرج تاركاً أحب أرض الله إليه مهاجراً عنها إلى المدينة؛ حيث الإيمان والأمن والسلام والحب من أهلها ممن آمن بالله ورسوله.

فهل انتهت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد إقامتهم بالمدينة؟ وهل انتهت هجرة المؤمنين ومَن جاء بعدهم إلى يومنا هذا؟ كلا.. إنها لم تنته بعد، ولن تنتهي هجرة المؤمن إلى أن يأتي أجله ويموت، كما قال الله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ {99}‏)(الحجر).

الهجرة الحقيقية:

والهجرة بمفهومها الواسع باقية إلى يوم القيامة، فهي لا تعني مفارقة الوطن أو الأرض والبعد عنه بالجسد، وإنما الأهم من ذلك هو تلك الهجرة الحقيقية التي يهاجر فيها المؤمن إلى ربه ومولاه، هجرة دائمة بقلبه وجوارحه وحواسه، وعقله وتفكيره، وحركته وسكونه، لسان حاله فيها يقول: «وعجلت إليك رب لترضى».

وقد بيَّن ذلك ابن القيم رحمه الله حين قال: الهجرة هجرتان:

1- هجرة بالجسم من بلد إلى بلد.

2- الهجرة إلى الله ورسوله فهذه هي الهجرة الحقيقية، وهجرة الجسد تابعة لها وهي تتضمن «من» و»إلى»، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه سبحانه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إلى الله كما قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ {50} (الذاريات)، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه(1).

الهجرة والتربية:

حين نربي أولادنا في مراحل أعمارهم المختلفة فإن علينا أن نتوقف طويلاً عند محطة الهجرة النبوية؛ لنزود قلوبهم من أحداثها، ونقطف من ثمارها ما يغذي عقولهم وأفئدتهم ويقويهم في مسيرة هجرتهم الدائمة إلى الله، المستمرة في كل زمان ومكان، فإن عجلة الزمن تدور ويدور معها في سعي حثيث مستجدات جسام وأحداث عظام تتولد بها مفاهيم وأعمال صلح منها ما صلح، وكثير منها يعلوه الزبد والزيف؛ لذا فإنه لا ينبغي للآباء والمربين أن يمروا على هذه المحطة العظيمة دون التزود منها بكل ما يصلح لهم في مسيرتهم التربوية، فهي فرصة لتصحيح المفاهيم المغلوطة والعادات السيئة، والبدع والمنكرات والتي ساهم في ظهورها وانتشارها ذلك الانفتاح الهائل على العالم وثقافاته المختلفة التي قد تتفق أو لا تتفق مع تعاليم الإسلام ومبادئه، والذي قد تشارك بنسب متفاوتة في التأثير على أولادنا.

أولادنا ونصيبهم من الهجرة:

فمِن حدث الهجرة العظيم تُستلهم الدروس الإيمانية والعملية لنا ولمَن هم تحت أيدينا ومسؤوليتنا، ولأولادنا نصيب كبير وهجرات متعددة يجب أن نوليها اهتماماً خاصاً ونأخذ بأيديهم وهم في طريقهم سائرون حتى يصلوا بسلام، ومن هذه الهجرات الواجب تأصيلها في نفوسهم:

– الهجرة من ضلال الشرك وظلامه إلى التوحيد ونوره:

فإن الإنسان مهما سار في الحياة وقطع مسافات طويلة فيها فإن أهم طريق يجب سلوكه هو ما يؤدي به إلى توحيد الله تعالى توحيداً تاماً كاملاً، فيوحده في ربوبيته ويؤمن أنه لا رب غيره، فهو الخالق المالك الرازق المحيي المميت النافع الضار، بيده ملكوت كل شيء، وهذا يبث الطمأنينة في النفس وحسن التوكل مع السعي، ويوحده في ألوهيته فيعبده إلهاً واحداً لا شريك له، ويؤمن به إيماناً خالصاً يجعله يتوجه إليه بالطاعة والخضوع والتسليم والتوكل، والذل والخوف والرجاء والخشية والرهبة، والدعاء والخشوع والتوبة والإنابة، والحب والإخلاص، وكذلك يؤمن بأن لله صفات الكمال والأسماء الحسنى وأنه «ليس كمثله شيء» سبحانه وتعالى.

الهجرة من المعاصي إلى الطاعات:

إن النبي صلى الله عليه وسلم قد خطط لهجرته وتجهز لها وأخذ بأسباب نجاحها، وهذا درس تربوي عظيم نعرف منه قيمة الوقت، وتنظيمه والحفاظ عليه في رحلة التربية، فلا ينبغي أن نهمل أولادنا فنترك لهم الحرية المطلقة في تضييع الأوقات على شاشات التلفاز والألعاب الإلكترونية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي دون تقنين وإرشاد وتوعية، بل نربيهم على حسن استثمار الوقت الذي هو مادة حياتهم ورصيدها الذي سرعان ما ينفد مع مرور الساعات والأيام والشهور والأعوام، فهناك أعمال بالنهار يجب أن تؤدى بجدّ، أما الليل فلا يحسن تضييعه في السهر والسمر دون حاجة لذلك.

ومن أهم ما يُربَّى عليه الولد منذ نعومة أظفاره أن يهاجر إلى الله بهَجر المعاصي والمحرمات وإن صغرت، حتى إذا ما شبّ حُبب إليه فعل الطاعات، وتيسر عليه القيام بها، وهذا ما نأخذه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المهاجرُ مَن هجَر السَّيِّئاتِ»(2)، وقوله: «المهاجرُ من هجرَ ما حرَّمَ اللهُ عليه»(3)، وقوله: «ألا أُخْبِرُكُمْ بالمؤمنينَ؟ مَنْ أَمِنَهُ الناسُ على أَمْوَالِهمْ وأنفسهم، والمسلم مَن سَلِمَ الناسُ من لسانه ويدِه، والمجاهدُ مَنْ جاهد نفسه في طاعة الله، والمُهاجِر مَن هجرَ الخَطايا والذنوبَ»(4)، فالقلب المؤمن الصادق المهاجر إلى ربه قلب رحيم، ينشر الرحمة والأمن والأمان ولا يؤذي الناس.

– ومن الهجرة المطلوبة هجر التقليد الأعمى والتشبه بغير الصالحين، في الاعتقاد الباطل والفكر المنحرف، أو الملبس والمظهر والكلام والمشية، والجري وراء كل جديد يظهر ولو كان مخالفاً لدين الله، فيجب تعويد الأولاد على ذلك، كما تُعوَّد البنت على الاعتزاز بدينها وهويتها وملبسها الساتر، وتُربَّى على حب الستر والحشمة والوقار والحياء حتى تهجر العري وكل ما لا يليق بها كمسلمة.

إلى ولدي في يوم الهجرة:

أحبك يا ولدي حباً كبيراً، وأرجو أن تكون رجلاً وأي رجل! رجلاً لا تستعبده الشهوات ولا تغريه الملهيات، ولا تلهيه المغريات، فاحفظ عني يا ولدي من قلب مشفق محب يتمنى لك الخير والسعادة في الدنيا والآخرة:

لقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وترك مكة وهي أحب أرض الله إليه، لكنه تركها لمصلحة أهم من مكثه فيها، ولحب أعظم وسعادة دائمة؛ لذا لا يضيرك يا ولدي أن تترك في دنياك بعض ما تحب؛ ولا أقصد ترك مكانك أو موطنك، بل تهجر من أعمالك وهواياتك وشهواتك ما تحبه النفس وتضعف أمامه مما يبعدك عن الله ويدخلك في دائرة معصيته، إذ الواجب أن يهجر المسلم الأخلاق السيئة من كذب وزور ومراء وجدل، وأنانية وبخل، وغيبة ونميمة، وبغضاء وكراهية وحسد وظلم، وقد روى البخاري عن عبدالله بن عمر قوله: «لم يكن رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا مُتفحّشاً، وإنه كان يقولُ: إن خيارَكم أحاسنُكم أخلاقاً»(5)، وهو صلى الله عليه وسلم القائل: «إنَّ أحبَّكم إلى اللهِ وأقربَكم منِّي أحاسنُكم أخلاقاً»(6)، وإنما خلق المسلم الصدق والحب والرحمة، والإحسان والصبر والكرم والجود، والعدل والإنصاف.

وما أحسن أن يكون لك أصدقاء صالحون وصحبة طيبة تعينك على الخير وتثبت خطواتك على طريقه، وهذا يتطلب منك أن تهجر السوء وأصحابه الذين لا يتورعون عن صدك عن طريق الخير، وإن منهم لمن يغوص في المنكرات والمعاصي فيعق أمه وينهر أباه، ويهجر أخاه، ويقطع رحمه ويسيء لجاره، بل قد يقع في مستنقع الرذيلة فيصاحب من شاء من الفتيات ولو أدى به الحال لارتكاب المحرمات! وتعاطي الدخان والمخدرات وكل ذلك يضره في دينه ودنياه، وما ذاك إلا لأنه هجر الخير وأهله، ومن قبله هجر طريق الرحمن وتلاوة القرآن، فلم يعلم ما ينفعه، ولم يتعلم ما يرفعه، ولم يعمل لينجو غداً من عذاب الله.

فاحذر ذلك يا ولدي واطلب العلم حتى تهجر الجهل، وعليك بالجد حتى تهجر الكسل، وبالإتقان حتى تهجر التقصير، واحرص على وقتك فهو الحياة، فإن فعلت ذلك يا ولدي فقد هاجرت حقاً إلى الله في كل طرفة عين، هجرة من بعد هجرة، ويوم القيامة تقر عينك حين يحشرك الله تعالى مع سيد المهاجرين صلى الله علي وسلم وصحبه الكرام رضي الله عنهم، وأكرِم بها من صحبة.

الهوامش

(1) انظر الرسالة التبوكية – زاد المهاجر إلى ربه – لابن القيم.

(2) الراوي: عبدالله بن عمرو، المحدث: ابن حبان، المصدر: صحيح ابن حبان.

(3) الراوي: المحدث: ابن عبد البر، المصدر: الاستذكار.

(4) الراوي: فضالة بن عبيد، المحدث: الألباني، المصدر: السلسلة الصحيحة.

(5) الراوي: عبدالله بن عمرو، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري.

(6) الراوي: أبو ثعلبة الخشني، المحدث: ابن حبان، المصدر: صحيح ابن حبان.

Exit mobile version