تائه في صحراء الفكر (استشارة)

السلام عليكم.

بعد التحية أورد لكم رسالتي هذه بكلام أرقني كثيرا لا أعرف حقيقة ما أقول، ولكن سأروي لكم جزءاً من قصتي علها تفي بالغرض: كنت عضواً في إحدى حلق القرآن الكريم المنتشرة في ذلك الوقت، وحفظت القرآن كغيري من الطلاب، وكنت في تلك الفترة أقرأ في بعض الكتب مثل مدارج السالكين والأجرومية والرسائل والأصول في علم الأصول والظلال، فنهرني مدرس الحلقة في ذلك الوقت، وقال إن مثل هذه الكتب يصعب عليك فهمها، والحقيقة لم يكن لذلك الخلاف أن يفسد ما بيننا من قضية، فقد رحلت إلى إحدى المدن لأكمل دراستي، وتخصصت في الأدب ولا أخفيكم سراً فقد أتاح لي هذا التخصص التعرف على آداب اللغات الأخرى، فتعلمت اثنتين منها وأتقنتهما، وبدأت القراءة فيها، فقرأت في شتى العلوم في الأدب واللغة والأديان والفلسفة وتعمقت في تلك الأخيرة، فقرأت لآبائهم (سرتر) في الوجودية، وأرسطو وإشكالاته التقليدية والبنيوية، وتعرفت على الفلسفة العربية كالإمام الغزالي وأجيال الفلاسفة الأندلسيين ثم مقولاتهم في الإحلال والترقي، وهنا بدأت مشكلتي، قرأت في الصوفية الشيء الكثير، والأشعرية، والأسماء والصفات، حتى إني أحس بظلمة في قلبي، دائماً أحس بالهم، لا أكف عن البكاء طوال الليل أنا – بكل اختصار- تائه، ولكني من جانب آخر أحس أني أملك مقدرة على تحليل الأشياء تكونت وترسبت من تلك القراءات، ويعترف بها الجميع لا سيما الذين اطلعوا على أطروحاتي الأدبية، عرفت أن الحكمة ضالة المؤمن، ولكني أعترف أنني لست مؤمناً، وأنظر إلى طرق إخواننا الذين يحاولون صرفي عن هذه المواضيع، فأراها وهي تحمل كثيراً من السطحية، وأرى برامجهم وما تحويها من تخلُّف، ولكني -مثل ما أوردت أعتقد أني أيضاً شطحت عن الطريق قليلاً. أرجو أن تساعدوني.

الجواب:

المجيب: د. حسن بن صالح الحميد

(عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية –سابقا)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلعلك قد أوتيت قدراً من الذكاء والطموح فوق ما كان يتصوره أستاذك في الحلقة، ولعل أستاذك أيضاً لم يكن لديه من سعة الأفق ما يمكنه من تفهم تطلعاتك.. وهذا يحصل لعدد من الطلاب. لكن يختلفون في التعامل مع هذه الحالة، فمنهم من يكمل نفسه بطريقته الخاصة، ويبقى محافظاً على أوليّات التربية وأدبياتها، يحفظ للأستاذ المربي الودّ، ويعترف له بالفضل، حتى ولو أصبح التلميذ شيخاً، والمربي الشيخ طالب علم في حلقته. وقد يوجد بين الطلاب من يقلل من شأن مربيه بحجة قلة علمه أو محدودية قدراته، أو لكونه أخطأ في حقه مرة أو مرات! وقد يتجاوز به الأمر حد الشعور بالندية والمساواة إلى مرحلة الاستعلاء والشعور بالفوقية، وهذا المسلك ينتهي بصاحبه غالباً إلى نوع من نكران الجميل، وربما إلى الذم ونسبة ما آل إليه أمر الطالب من نقص إلى مسلك شيخه ومربيه، وما ظفر من معرفة وتفوق إلى ذاته ونفسه وجهده، بل إلى بعده عن شيخه ومربيه، وهذا غلوّ في الجحود، وغرور في النفس لا تسلم من عواقبه غالباً، وقد يمعن الأخ في الهروب من واقعه السابق؛ بحجة البعد عن معوقات الانطلاق فيعاقب نفسه من حيث لا يشعر، وربما فضّل أنواعاً من السلوك المنحرف بغية التخلص من شبح التعلُّق بالماضي، ولو أنه فكَّر ملياً، وقدّر العواقب، لنظر إلى كل مرحلة بما يناسبها، وحاول التخلص من سلبياتها والإفادة من إيجابياتها، ولم يعرّض ثوابت التدين وأصل الالتزام للمقامرة فإنه رأس المال، وليس من العقل المقامرة به، بل تنميته وزكاته.

أخي الكريم، إن المعرفة مبذولة للجميع، يأخذون منها بقدر ما يمنحونها وبقدر ما تؤهلهم ملكاتهم، ولكن الشأن في المعرفة الهادفة الإيجابية، التي تساعد في بناء شخصية متوازنة، والتي تبنى على قاعدة من التدبر الواعي، والوعي المنضبط. أما المعرفة التي تتجه بصاحبها إلى القلق أو الشك، أو التحلل من الضوابط الأخلاقية، وكلما أمعن فيها ازداد بُعداًَ عن الأهداف التي يفترض أنه طلب المعرفة لأجلها، بحيث يتمنى أن يعود إلى نقطة الصفر، ليستعيد ثقته بنفسه، وهدوئه، وإيمانه البسيط، وأن يدفع ثمناً لذلك كل مكتسباته الجديدة، بما فيها ألقاب المديح، وإعجاب الآخر.. إن هذه معرفة عقيمة لا بركة فيها، كريح عادٍ التي ما تذر من شيء إلا جعلته كالرميم، ولعل في حكاية المرأة العجوز وجوابها لمن قال لها بفخر: أن فلاناً – أحد الفلاسفة – أحصى ألف دليل على وجود الله. قالت: يا هذا لو لم يكن عنده ألف شك لما احتاج إلى ألف دليل !.

إن القراءة الواعية في أبواب المعرفة المختلفة تغني عن الارتماء في أحضان كتب الفلسفة وأسفار علم الكلام، وما أحسن قول شيخ الإسلام ابن تيمية عن علم الكلام: لا يحتاج إليه الذكي، ولا يستفيد منه البليد.

إني أدعوك إلى الرجوع القهقري شيئاً حتى تضع حداً لهذا التيه الذي أوصلتك إليه هذه المعرفة العقيم . ارجع إلى القرآن الكريم، اقرأه بهدوء وتأمل، واقرأ في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما أشكل عليك فراجع كتب التفسير والشروح .. استفد من مخزون المعرفة المشوش لديك في تطوير أسلوب الفهم . واعترف بشجاعة أنك بقدر ما كسبت المعرفة خسرت نفسك، فكأنك خسرت الاثنين معاً لأن هذه المعرفة صارت شيئاً تدفع ثمنه، بدلاً من الاستمتاع بها .

أعد النظر في أصحابك وندمائك، وأغلب الظن أنك إما منقطع عن الأصدقاء، أو متخير لأصدقاء على شاكلتك في التفكير، وهؤلاء يصعب عليك التصحيح معهم، فتخير جلساء يجمعون بين الاستقامة شاكلتك وهدوء النفس وسلامة التدين.

وما تعانيه من شكوك هو ثمرة طبيعية لإقحام العقل في غير مجاله، واستحسان طرائق الفلاسفة والمتكلمين الشكاك الذين تجاوزوا بالعقل قدره بحجة المعرفة، حتى بلغ ببعضهم أن أصبح الشك والإلحاد، والحلول، والفوضى الفكرية… أصبح كل ذلك ثقافة !! فأنت قد سمحت لنفسك – تحت ظروف معينة – أن تكون مقلداً لهم دون أدنى خصوصية لنفسك .

وأقرب مخرج للنجاة أن تتذكر ما قيل في ذم التقليد، ولعلك قد لجأت إليهم فراراً من تقليد شيخك ومربيك، ففرت من النقيض إلى النقيض.

وأخيراً أقول لك : توقف فوراً، وتذكر قيمة الحياة والمعرفة ونهاية الأشياء وبداياتها، وحكمة الخالق وقدرته وآثار أسمائه وصفاته . ولا تسمح لنفسك بتفوق غير طبيعي، واعلم أنك سائر إلى الله وافد عليه، فأحسن وفادتك.

وإنما المرء حديث بعده، فكن حديثاً حسناً لمن روى، وطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه.

ولا تجعل المعرفة التي هي وسيلة هادمة للغاية التي هي الإيمان والسعادة في الدارين، فتكون كمن بنى قصراً وهدم مصراً .

وفقك الله ونوّر بصيرتك.

Exit mobile version