غزوة «أُحد».. دروس من الانكسار

 

ـ أول دروس غزوة «أحد» ترسيخ الشورى والاستماع لقول من سيقع عليهم تبعة الأمر

ـ طاعة الرسول لازمة لا تنفك في التنظيم العسكري وقت الحرب وكذلك طاعته في أمور التشريع

ـ رباط الإنسان بالأساس يجب أن يكون برسالة الإسلام لا بحمَلَته والداعين إليه

 

بعدما ولّت ركائب مكة منهزمة في «بدر» مخلفة جثثاً لأشياخها الكبار يمثلون الملأ منهم، لم تهدأ ثائرتها، فقد خلّفت غزوة «بدر» في كل بيت من بيوت مكة نواحاً تعذبوا بالحرمان منه، يقول ابن كثير: «كان من تمام ما عذّب الله به أحياءهم في ذلك الوقت، تركهم النوح على قتلاهم، فإن البكاء على الميت مما يبل فؤاد الحزين»(1). تجمع المكّيون مرة ثانية في شهر شوال من العام التالي، وقرروا التجمع والأخذ بالثأر.

الشورى ونزول النبي على رأي أصحابه:

بدأ أول دروس الغزوة في ترسيخ الشورى والاستماع لقول من سيقع عليهم تبعة الأمر، فقد استشار النبي “صلى الله عليه وسلم” أصحابه، في كيفية المواجهة مع الجيش المكي، إذ كان يرى البقاء وعدم الخروج من المدينة، ليجعل جيش مكة بين خيارين، تكون له المسرة فيهما، لكن معظم أصحابه – خاصة ممن لم يشهد «بدراً» – ومن الشباب خاصة رغب في الخروج.

 قال صاحب السيرة الحلبية: قال رجال غالبهم أحداث، أحبوا لقاء العدو، وغالبهم ممن أسف على ما فاته من مشهد «بدر»: اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرونا أنا جبنا عنهم وضعفنا، والله لا نطيع العرب في أن تدخل علينا(2)، فنزل على رأيهم وخرج ليلاقي عدوه في مكان معسكرهم، وعبّأ جيشه أفضل تعبئة، وقسّمه تقسيماً حربياً، جعلت الغلبة في أول المعركة لهم، يقول الزبير بن العوام رضي الله عنه: «رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير»(3)، لكن الأمر تغير بعد ذلك تغيراً جذرياً، ونتج عنه نتائج تركت أثراً بالغاً على المسلمين فيما بعد.

الرماة.. ودرس المخالفة:

انتخب النبي “صلى الله عليه وسلم” مجموعة من الرماة، لحماية الجيش من الخلف، وجعلهم على الجبل الذي عُرف باسمهم بعد، شدّد النبي “صلى الله عليه وسلم” على الرماة ألا يتركوا الجبل أو يغادروا مواقعهم تحت أي ظرف، قائلًا: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم»(4)، لكن الرماة مع تولي جيش مكة منهزماً نزل معظمهم، ولم يبق في موقعه سوى عدد قليل منهم؛ مما سمح للجيش المكي بتطويق الجيش الإسلامي، وإيقاع الهزيمة به، وقتل مجموع من خيار الصحابة كان على رأسهم حمزة، ومصعب، رضي الله عنهما.

لقد أظهر هذا الموقف بجلاء أن التولي عن أمر الشرع عاقبته وخيمة، فطاعة الرسول “صلى الله عليه وسلم” لازمة لا تنفك، في التنظيم العسكري وقت الحرب، وطاعته في أمور التشريع، ولا يجوز بحال العصيان أو الاجتهاد مع الأمر الصريح، فالتولي عن أمر النبوة في أمر منذر بهلاك المتولي لا محالة، فإن أمر الشرع يجب ألا يتركه المرء قيد أنملة، وألا يدعه لرأيه.

عالم الأشخاص وعالم الأفكار:

عندما حمي وطيس المعركة ضد المسلمين، وأشيع أن النبي “صلى الله عليه وسلم” قد مات، خارت همم رجال منهم وجلسوا، وألقوا السلاح حزناً وفرقاً، ورآهم أنس بن النضر فقال لهم: «ما يجلسكم؟! قالوا: قتل رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله “صلى الله عليه وسلم”»(5).

إن الأصل أن يرتبط الإنسان بالأفكار ويدور في فلكها، فرباط الإنسان بالأساس هو برسالة الإسلام لا بحمَلَته ولا بالداعين إليه،  وتلك إحدى أزمات بعض المسلمين اليوم، فإنهم يربطون تدينهم أو يربطون تنفيذ تعاليم الإسلام بواقع المسلمين، وما دام المسلمون منهزمين فإنه لا يجد نشاطاً في نفسه تجاه الإسلام، ويبدو ساخطاً طول الوقت على دينه وعلى إسلامه، لقد صحح أنس رضي الله عنه في أحلك الظروف هذا المفهوم، من ارتبط بالإسلام فإنه يعتصم به طول الوقت، فالإسلام دين ودعوة وشريعة وأخلاق لا يموت أبداً، حتى لو مات نبي الإسلام “صلى الله عليه وسلم”.

وكثير ممن سقط في طريق الإسلام سقط بهذا السبب، فإما لم يعجبه سلوك الأفراد، وإما استبطأ النصر والتمكين، وإما ربط دينه بعرض قريب لم يتحصل عليه، وهو عين ما أشرت له من الارتباط بالأشياء لا بالأفكار.

الكفاءة وليس القرابة:

أبرز النبي في يوم «أُحد» سيفاً وقال: «من يأخذه بحقه»، فقام له بعض أصحابه منهم الزبير بن العوام، فلم يعطه لهم، يقول الزبير رضي الله عنه: «وجدت في نفسي حين سألت رسول الله “صلى الله عليه وسلم” السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه فسألته إياه قبله، فأعطاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع…»، اختال أبو دجانة في يوم «أُحد»، وأخذ في هدّ صفوف المشركين، يقول الزبير: ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها، قال الزبير: فقلت الله ورسوله أعلم(6).

إن دولة الإسلام لا تعرف المحاباة، ولا تعرف إيثار القرابة سوى في الصلات والنوافل والإحسان، أما أمور الدولة وأمور العامة والحقوق والواجبات فلا تستأثر بها قرابة من أجل القرابة، ولا يجوز أن يستأثر بها حاكم لذويه، فالزبير هو من هو شجاعة وجسارة ومنعة وقوة، لكنه لم يكن صاحب مثل هذا الموقف، فلم يمنحه النبي “صلى الله عليه وسلم” ما عرضه على العموم بشرطه.

ملاحظات عامة:

نلاحظ أن النبي “صلى الله عليه وسلم” لم يوجه لوماً واحداً لمن اضطره للخروج لملاقاة العدو، ولم يعتب عليهم قط، فالأمر وضع للمشورة، وما دام الجميع كانوا من أطرافها فنتائجه لا بد أن تقع مقبولة على أي وجه كان، فلذا عاش من عاش منهم شامخ الرأس لا يشعر بأنه كان سبباً في هزيمة، ولم يوجه له أحد يوماً عتاباً.

نلاحظ أيضاً أن الرماة مضى معظمهم إلى ربه دون أن ينتقص أحد جانبهم، فبالرغم من خطئهم فإنه ظل في دائرة الخطأ الذي لم يقصد صاحبه ضراً ولا شراً، فلم يعيّروا به أو ينحط من قدرهم.

وأخيراً:

نلاحظ بل نوقن لا محالة أن الخير معقود بأوامر الشريعة دائماً وتوجيهاتها، والخير كل الخير في عدم التولي عن توجيهات النبوة وتلقيها تلقياً حسناً، يتضح هذا جلياً في موقف من اضُّطروا النبي للخروج، وموقف الرماة، فمهما كان لهم العذر، إلا أن الأصل يظل كما هو؛ أن الخير في الانصياع لأمر الشريعة انصياعاً تاماً وكاملاً.

*أستاذ بكلية العلوم الإسلامية – جامعة المدينة

الهوامش

(1) انظر: البداية والنهاية (3/ 377).

(2) السيرة الحلبية (2/ 491).

(3) السيرة النبوية لابن هشام (4/ 25).

(4) رواه البخاري (2874).

(5) السيرة النبوية لابن هشام (4/ 32).

(6) السيرة النبوية لابن هشام (4/15/16).

(7) رواه البخاري (4110).

Exit mobile version