الصوم.. فرصتك لتغيير نفسك

 

– النفس إذا تعاهدها صاحبها ولم يغفل عنها استطاع أن يرتقي بها في مدارج الكمال الإنساني

– النفس تختلف أحوالها ودرجاتها وقد تتردد بين أكثر من حال حسب إمداد الله لها

– الصيام محرقة للذنوب والآثام ومطهرة للنفوس من الأدران والأوضار

– رمضان بصيامه وقيامه وتلاوته وإنفاقه محفزّ للإنسان ليمتلك زمام نفسه

– الصوم تصحيح لمسار النفس وتأكيد أن الإنسان يستطيع كبح جماح شهواته وغرائزه

النفس إذا تعاهدها صاحبها، ولم يغفل عنها، وفطن إلى مراوغاتها استطاع أن يرتقيَ بها في مدارج الكمال الإنساني، فيبتعد بها عن حمأة الطين، إلى أنوار الملكوت (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى {41}) (النازعات).

أما إذا غفل عنها صاحبها وتركها وما تحب، فهذا طغيانها على صاحبها، فتنسلخ به عن روحانيته وإنسانيته حتى يقع في درجة أدنى من الأنعام، ولا تزال به حتى تهوي به في وادٍ سحيق لا قاع له، ولا قرار؛ (فَأَمَّا مَن طَغَى {37} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {38} فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى {39}) (النازعات).

النفس الإنسانية متمردة، ولا تُسلم قيادها لصاحبها بسهولة ويسر، بل تحتاج إلى مجاهدة وصبر وعزيمة، وهي قد زرع الله فيها وألهمها وبيّن «لها ما ينبغي لها أن تأتي أو تذر من خير، أو شرّ أو طاعة، أو معصية»(1).

أنواع النفوس

هناك نفوس تميل إلى الشهوات والملذات، وتنفر من الطاعات والقربات، وتغلب صاحبها فينقاد لها صاغراً مستسلماً، فتكون نفساً أمّارة بالسوء، تورد صاحبها المهالك؛ إذ إنها لم تدرك حقيقة وجودها في هذه الدنيا؛ «فإذا كانت النفس كذلك فحسن الظنّ بها ذريعة إلى تحكيمها، وتحكيمها داع إلى سلاطتها وفساد الأخلاق بها»(2).

ولا تظن أنها إذا أعطيت مُناها شكرت، أو إذا ذكرتها من برأها ذكرت، بل متى أمنتها كفرت، أو آنستها نفرت، أو أرخيت عنانها بطرت وأشرت، وإن نالت مطلباً أو تناولت مأرباً انتقلت عنه وطلبت أعلى منه، فليس لها دواء إلا القمع عن دواعي الهوى كما قيل:

النفس راغبة إذا رغّبتها           وإذا ترد إلى قليل تقنع(3)

ومنها نفوس تصيبها الغفلة فتستقيم تارة وتنحرف أخرى، أحبت الطاعة وتكاسلت عنها، تميلها رياح المعصية وتفيئها رياح التوبة والاستغفار، تسرها الطاعة وتحزنها المعصية، يزيّن لها إبليس المعصية فتقع فيها، ثم تندم على تفريطها في جنب الله.

هي النفس اللوامة التي أقسم الله بها فقال: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {1} وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ {2}) (القيامة).

ومنها نفوس ذات عزيمة ماضية، عرفت طريق نجاتها وخلاصها فاستقامت عليه، فلم تلفت للشهوات والأهواء والملذات، جعلت حبّ الله ومرضاته غايتها، فاستلذت بالطاعة، ونفرت من المعصية.

هي النفس المطمئنة التي يُنادى عليها: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي {30}‏) (الفجر).

لا تظلم نفسك

النظرة المثلى للنفس هي النظرة المعتدلة، فهي ليست أعدى أعدائك(4) إلا إذا كانت للمعصية طالبة، وعن الطاعة راغبة، قال الجاحظ متحدثاً عن الإنسان السوي: «ويكونَ في التُّهمَة لنفسه معتدلاً، وفي حسن الظنِّ بها مقتصداً؛ فإنه إنْ تجاوَزَ مِقدارَ الحقِّ في التُّهمة لنفسه ظَلَمها، فأودَعها ذِلّة المظلومين، وإن تجاوَزَ الحقَّ في مقدار حُسْن الظنِّ بها، آمنها فأودَعَها تهاوُنَ الآمنين، ولكل ذلك مقدارٌ من الشُّغْل، ولكل شغْلٍ مقدارٌ من الوَهن، ولكل وهَنٍ مقدارٌ من الجهل»(5).

ومعنى ذلك أن النفس تختلف أحوالها ودرجاتها ومراتبها، وقد تتردد بين حالين أو مقامين أو أكثر حسب إمداد الله لها، ورغبتها في تحصيل ما عند الله، أو رغبتها عن ذلك.

وإذا كان الأمر كذلك، فهذا معناه أنه لا يأس أبداً في السعي لتغيير حال النفس للأفضل والأكمل.

واليأس منها معناه الانحدار معها إلى مهاوي الملذات والشهوات وأوحالها، وكلما اقتربت النفس من طينيتها ابتعدت عن نورانيتها.

النفحات الربانية

ومن إمداد الله تعالى للعبد أن يعطيه نفحات في أيام دهره؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، وأن يؤمِّن روعاتكم»(6).

والصيام من تلك النفحات التي نحن مطالبون بالتعرض لها؛ فالصيام محرقة للذنوب والآثام، ومطهرة للنفوس من الأدران والأوضار.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الصيام جُنّة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم (مرتين)، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها”(7).

فمن جاهد نفسه لترك الحلال فهو أقدر على ترك الحرام، فتلك النفس التي كانت تأكل وقتما تشتهي تمتنع بالساعات الطوال امتثالاً لأمر الله حتى وإن كانت في خلوة وقد أمنت أعين الرقباء؛ فهي تراقب الله في خلوتها وجلوتها.

والنفس التي كانت تتكاسل عن أداء النوافل إذا بها تحافظ على قيام رمضان من أوله إلى آخره، وإن فاتها يوم حزنت أشد الحزن على ما فاتها.

والنفس التي كانت تستبعد المسافة إلى المسجد، وتصلي في البيت بدلاً من السعي إليه إذا بها قد وجدت راحتها وطمأنينتها في صلاة الجماعة، وما إن تغادره حتى تعود إليه مسرعة في شوق يحدوها إليه.

لقد ملكت النفس التي كانت تملكك.

لقد قُدْت النفس التي كانت تقودك.

لقد رُضْت النفس التي لم تكن ذلولة، وكانت نافرة.

فإذا أسلمت قيادها لك، هل يعقل أن تُسلم أنت قيادك لها مرة أخرى؟

إذا طالبتك النفس يومًا بشهوة              وكان عليها للهواء طريق

فخالف هواها ما استطعت فإنما            هواها عدو والخلاف صديق

تصحيح المسار

إن رمضان بصيامه وقيامه وتلاوته وإنفاقه محفزّ للإنسان كي يمتلك زمام نفسه، ويسلك بها طريق التزكية التي هي طريق الفلاح، ويجانبها طريق الغواية والضلال التي هي طريق الخيبة والخسران، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا {10}) (الشمس).

فالصوم تصحيح لمسار النفس، وتأكيد أن الإنسان يملك من القدرة والعزيمة ما يكبح بهما جماح شهواته وغرائزه، وأنه لا ييأس إن أصابه الفتور أو حتى الانتكاس؛ فقد ذاق حلاوة قيادة نفسه، فلا يمكنه أن يستسيغ الذلّ والاستسلام لنفسه الشهوانية.

فإذا صرف حسن الظن عنها، وتوسمها بما هي عليه من التسويف والمكر فاز بطاعتها، وانحاز عن معصيتها، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: العاجز من عجز عن سياسة نفسه.

وقال بعض الحكماء: من ساس نفسه ساد ناسه(8).

إنه الأمل الموصول بالله تعالى والاستعانة به على الخوض بالنفس غمار هذه الحياة بلججها حتى يصل بها إلى بر الأمان.

إنه الأمل الذي يقيلك من عثرتك، ويدفعك للعمل والتغيير.

لقد جاهدت بالصيام أهواءك وشياطين الإنس والجن، وترفعت عن الملذات والشهوات، وانتصرت على نفسك الأمارة بالسوء، ولم تحسن الظن بها، ولم تركن إليها، وعصيت هواها، ولم تعطها مناها، فاستقامتك على هذا الطريق هو طريق خلاصك، وهو الذي يعطي الأمل في التغيير نحو الأفضل والأكمل.

وما دام في الإنسان عين تطرف وقلب ينبض ونفَس يتردد فالأمل في التغيير قائم، ولكنه أمل بعمل، وإلا لكانت أماني لا تغير واقعاً، ولا تصحح مساراً.

الهوامش

(1) تفسير الطبري، (24/454).

(2) الماوردي: أدب الدنيا والدين، ص 234.

(3) ابن عربشاه: فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء، ص 140.

(4) أخرج البيهقي في «الزهد الكبير»، ص 156 – 157، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»، وقد ذكره الألباني في «السلسلة الضعيفة والموضوعة»، (3/308)، وقال: «موضوع».

(5) البيان والتبيين، ص 64.

(6) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير»، (1/250)، وقد حسنه الألباني، وذكره في «السلسلة الصحيحة»، (4/511).

(7) أخرجه البخاري في «الصوم»، باب: «فَضْلِ الصَّوْمِ»، ح 1894.

(8) الماوردي: أدب الدنيا والدين، ص 234.

Exit mobile version