حول ثنائية الخطاب القرآني (1 ـ 3)

 

– بعض الآيات تتعامل مع مستويين وتتوجه إليهما بالخطاب في الوقت نفسه دون تناقض

– القرآن يقدّم مطلق القوة الضرورية لكل زمان ومكان على «رباط الخيل» الخاص بعصور معينة

– الشاهد القرآني له مفردات عديدة بعضها ينصبّ على العالم الحسّي والآخر على الغيب

المعطى القرآني في القضية الواحدة ليس حالة متفردة، وإنما هو أكثر من حالة، والتفسير الدقيق هو الذي يتابع الحالات جميعاً ويضعها جنباً إلى جنب ثم يحلل ويقدم استنتاجاته؛ هو الذي يلاحق «الكاميرا» القرآنية وهي تتجوّل هنا وهناك لكي تقدم لنا صوراً شتى للحالة أو الوضع الواحد.

مثلاً نقرأ: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ {103}) (يونس) فنجد أن هناك آيات ومقاطع أخرى عن أن نجاة المؤمنين في الدنيا ليست قدراً نهائياً، بل ربما العكس، ونجد آيات عديدة تتحدث عن الموت والشهادة وإحدى الحسنيين، وآيات تذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الحصاد ليس شرطاً أن يجيء في الدنيا، وهكذا مثلاً: الزلازل قد تضرب الأشرار فيكون لها معنى غيره وهي تضرب الأبرار.

لا يفهم القرآن الكريم كما لو أنه يسلط ضوءه على الوقائع والأشياء من زاوية واحدة، ولكن بأن نلاحظ كيف أنه يتابع الحالة في أوجهها المتعددة، والوجه في حالاته العديدة، إنه مرة أخرى – إذا صحّ التعبير – يدير الكاميرا لكي يلتقط الصورة في تحولاتها وأوضاعها المختلفة، التي قد تبدو للوهلة الأولى متناقضة، وحاشا لله، ولكن بإعمال الرؤية الشمولية يتبيّن تناسقها وتكاملها.

مثلاً الآية التي تقول: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285}) (البقرة)، والتي تقول: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً {152}) (النساء)، تقابلها الآية التي تقول: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) (البقرة: 253)، وللتوصل إلى الحكم الأخير يجب أن نلاحظ مستويات ثلاثة:

1- بالنسبة لله سبحانه وتعالى لا تفريق بين الرسل.

2- ولكن ذلك لا يمنع من تفضيل بعضهم على بعض.

3- أما بالنسبة للإنسان؛ فإن عليه ألاّ يفرّق وإلا وقع في خطيئة اليهود والنصارى، بينما المسلم يساوي بين الجميع.

إن العديد من الآيات والمقاطع القرآنية تتعامل مع مستويين وتتوجه إليهما بالخطاب في الوقت نفسه، دون أن يتمخض عن ذلك أي تناقض أو تداخل أو التباس وحاشا لكتاب الله:

– الخاص والعام.

– الآني والدائم.

– المرحلي والأبدي.

– التكتيكي والإستراتيجي.

– النسبي والمطلق.

– الطبيعي والميتافيزيقي.

– الفاني والخالد.

– التاريخي واللا تاريخي.

– الجغرافي والكوني.

– البيئي والعالمي.

– الجزئي والكلي.

مفاتيح فهم القرآن

إن المفتاح قد يكمن في متابعة «أسباب النزول» التي تحدّد الظرف المرحلي؛ الزمني أو المكاني أو التاريخي.. الذي اقتضى تنزل التعاليم والتعقيبات القرآنية، ولكن هذه التعاليم أو الأحكام ما تلبث أن تتجاوز المرحلية المرتبطة بسبب النزول إلى المطلق الذي يسري على كل زمن ومكان.

والمفتاح قد يكمن كذلك في الآية التي تقول: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ {60}) (الأنفال)، فهو

يقدّم مطلق القوة الضرورية لكل زمان ومكان – على إطلاقهما – وفق القدرات التسليحية والصناعية، على «رباط الخيل» الخاص بعصور معينة.

والشاهد كذلك قد يتمثل في الآيات العلمية التي تتضمن معنى مرحلياً أو عاماً واضحاً يناسب مدارك العصر الذي نزل فيه القرآن، وتتضمن – في الوقت نفسه – كشفاً سيتولى الزمن بحكم قانون تراكم الخبرة، إعلان مصداقيته.

والشاهد قد يتمثل حرفياً بالآيتين الكريمتين اللتين تعلنان، بشكل ضمني، عن وجود الخط الثنائي هذا في القرآن الكريم على المستوى الزمني التاريخي: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53}) (فصلت)، (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (يونس: 39).

وقد يتمثل الشاهد بصيغ ومفردات عديدة أخرى، بعضها ينصبّ على العالم الحسّي المنظور وبعضها الآخر يمضي باتجاه الروح والغيب، بعضها يحكي عن الماضي وبعضها يطل على المستقبل القريب والبعيد، بعضها يخاطب الجماعة الإسلامية الأولى وبعضها كل جماعة مسلمة في كل زمن ومكان.

وقد يتمثل الشاهد في تعامل القرآن مع الأرباب فبعضها وقتي كالتماثيل والأصنام وبعضها دائم كالفراعنة والطواغيت، بعضها جامد وبعضها حيوي متحرك.

وجه الإعجاز

التقابل الذي قد تتوزعه الآيات – وهذه مسألة معروفة – قد تتضمنه في وقت واحد الآية الواحدة، أو المقطع القرآني الواحد، وهذا هو وجه الإعجاز الذي يشير إلى المصدر الإلهي للعلم القرآني، ذلك العلم الذي يلم بكل صغيرة وكبيرة، والذي تلتقي في نسيجه في اللحظة الواحدة ثنائيات شتى قد تبدو مستحيلة بالإحالة إلى البيئة أو المرحلة التي تنزل فيها القرآن، وما تنطوي عليه من مستويات حضارية أو وعيية.

ولكن المعضلة سرعان ما تتلاشى إذا تذكرنا أن الله سبحانه وتعالى العالم بكل شيء، والذي: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء {5}) (آل عمران) والذي: (قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً {12}‏)(الطلاق)، هو الذي يتوجه بالخطاب عبر رسالة ما أريد لها أن تكون دين عصر أو أمة، وإنما دين كل زمن وكل أمة على مدار الأماكن والأزمان.

ويجب أن نلاحظ أن هذه الثنائية لا علاقة لها البتة من قريب أو بعيد بمحاولات الصوفية والباطنية والفرق التي اعتمدت التأويل في أنشطتها التفسيرية، واستخدمت الرموز والدلالات التي تسند توجهاتها، وأرغمت الآيات على أن تقول – أحياناً – غير ما أرادت أن تقوله، وادّعت بأن لكتاب الله ظاهراً وباطناً، وأن أولهما للعامة والدهماء، وثانيهما للنخبة من أولي العلم واليقين!

فتلك مسألة أخرى لا نريد أن نستنزف الطاقة في متابعتها ومناقشتها وتبيان عناصر الخطأ والتضليل في معطياتها، ويجب التأكيد كذلك على أن هذا المقال ليس محاولة في التفسير، لا من قريب ولا من بعيد، وحاشا لله، وإنما هو مجرد ملاحظة قد يفندها ذوو العلم والتخصص وقد يؤكدونها، وهي في كل الأحوال محاولة لفتح نافذة أخرى في التعامل مع كتاب الله تعالى، وفي متابعة أوجه إعجازه التي لا تنقضي على كثرة الردّ!

والذي يجعل المرء يميل إلى الاقتناع بوجود ثنائية الخطاب في كتاب الله جملة أمور:

1- أنها لا تشمل سوى إشارات محددة ولا تمضي لكي تغطي المعطى القرآني كلّه.

2- أن هناك شواهد واضحة تماماً في تضمنها البعدين معاً، كما رأينا وسنرى.

3- أن القرآن نفسه يعلن في أكثر من موضع عن أن مدارك العصر الذي تنزل فيه، على الأقل بالنسبة لفئات مترددة شاكة، لم تكن كافية لإدراكه، وأنه سيأتي الزمن الذي ستتكشف فيه أبعاد جديدة قد ترغمهم على قبول الحقيقة القرآنية والتسليم بها.

4- أن محاولات معاصرة كثيرة في سياق التفسير العلمي للقرآن وعلى رأسها محاولة «موريس بوكاي» في كتابه القيم «التوراة والإنجيل والقرآن في ضوء المعارف الحديثة» تأتي مصداقاً لهذا كلّه.

 

(*) مفكر إسلامي وأكاديمي عراقي.

Exit mobile version