مفكر إسلامي لـ”المجتمع”: نهوض الأمة مرهون بعودتها للمنهج الصحيح (1 /2)

أدار الحوار: هاني صلاح

أكد د. علي لاغا، الباحث في الفكر الإسلامي على الأمل في نهوض الأمة الإسلامية مجدداً شرط صحة المنهج الذي تقدمت به الأجيال الأولى من فجر الإسلام والجد والاجتهاد في الأخذ به وتطبيقه.

وأوضح الأكاديمي لاغا، والمدير السابق لمركز الأبحاث والتنمية في جامعة الجنان في لبنان؛ أن فجر أي حضارة كبت قادم لكن على المفكرين والخبراء أن يجهدوا ويكدوا بتقديم الحلول حتى تتسرع عملية التحول والعودة إلى المكان الأفضل في هذه المسكونة، وعلى هؤلاء أن تنسجم أفكارهم وعواطفهم وأقوالهم، وخطواتهم مع ما تقتضيه المرحلة.

وذكر أن أوروبا التي يراها الناس وكأنها جنة الله تعالى في أرضه كانوا حتى عام 1945م يدخلون في حروب يُقتل فيها في اليوم الواحد مئات الآلاف وتُدمَّر عاصمة أو أكثر، ومع ذلك فهم الآن مقصد كل المعذبين والراغبين في حياة أفضل.

وأشار الباحث في واقع المسلمين حول العالم، وعضو المجلس الاستشاري للموسوعة الكويتية للعالم الإسلامي، إلى أن مالك بن بني حدد ثلاثة عوامل مادية لاستئناف الحضارة ونهوضها؛ وهي: الإنسان، والتراب، والوقت؛ لذلك لا حاجة للبكاء على الأطلال، بل يجب التشمير عن السواعد والعمل بما يلزم والأيام دول، غالب اليوم مغلوب الغد والعكس صحيح.

جاء ذلك في الجزء الأول من حوار “الأمة الإسلامية.. أسباب التخلف ومسارات النهوض”، وهو الحوار الخامس على الموقع الإلكتروني لـ”المجتمع” بالتشارك مع “مبادرة حوارات الأقليات المسلمة على الفيسبوك”، والتي يجريها الصحفي هاني صلاح على الصفحة العامة للحوارات بعنوان “الإسلام والمسلمون في العالم”.

وإلى الحوار:

المشاركة الأولى: هاني صلاح، منسق الحوار، وتتضمن أربعة أسئلة (أرقام: 1 – 4):

1– نرى الأمة الإسلامية تعيش بدون رؤية واضحة لمستقبلها، ونشعر بأن المسلمين وكأنهم ينتظرون حدثاً خارقاً يُنقذهم مما هم فيه من تخلف وتراجع وهزائم وضياع.. فهل توافقنا على هذا الطرح؟

وما أسباب هذه الحالة من الضياع والتيه الذي نشعر به وكأن المسلمين أصبحوا أيتاماً على موائد أعدائهم؟

– تمهيد:

قبل الإجابة لا بد من تنبيه القارئ الكريم إلى أنني باحث يحاول إيجاد حلٍّ للمشكلات التي تعتري العالم الإسلامي، وفي عُرف الاكتشاف فإن المخترع مسموح له أن يخطئ عشرة آلاف مرة حتى يصل إلى المِعْلَمْ الذي يقصده، كما حصل إلى المخترع توماس ألفا أديسون (1847 – 1931م) صاحب الألف اختراع وأهمها المصباح الكهربائي، ومن مقولاته: “كل شخصٍ يفكر في تغيير العالم.. ولكن لا أحد يفكر في تغيير نفسه”، والتجارب التي لم تنجح عنده لا يقول: إنها فاشلة بل “تجارب لم تنجح”.

ومن مقولاته: “إذا فعلنا كل الأشياء التي نحن قادرون عليها لأذهلنا أنفسنا”، وأنه “نحن لا نعرف واحداً بالمليون من أي شيء”.

وأنا الذي أمضى من عمره نصف قرن في خدمة الناس، ومراقبة التحولات والقراءة والبحث؛ أحاول أن أقدِّم خدمة أكبر، فالخطأ مؤكد والنجاح والتوفيق مُحتمل، والمطلوب من يسدد ويبحث أكثر وتتضافر جهود أهل العلم والخبرة حتى تصل السفينة إلى برِّ الأمان وشاطئ الأحلام.

نحن لسنا بحاجة إلى من يقول: هذا خطأ فقط؛ بل عليه تقديم الصح أو البحث عنه على الأقل.

إن مقدمة السؤال أوحت بقول الله تعالى: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ {224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ {225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ {226} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ {227}) (الشعراء).

هذا واقع من يخوض مع الخائضين، ويترك لخياله حرية التهيؤ ويقول ما يرى وما لا يرى، دون خطة مسبقة، ومشروع حُدِّدت أهدافه ورُسمت معالم الطريق للوصول إليه.

إن أمة تعيش على مفاهيم غير قابلة للتطبيق والحياة والعقل في الكون، لا يمكنها أن تركز في عملها وتصل إلى غايات لم ينعقد عليها التخطيط من قبل، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات..” من معانيه الأساسية التخطيط المسبق، ومن ليس حاله كذلك سيبقى ضائعاً يدور حول نفسه، وعند الفشل تبدأ الخرافات وابتكار روايات تدعو إلى الانتظار على حد قول مالك بن بني في كتابه شروط النهضة: “ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تَغْرُبُ الفكرةُ يبزغ الصنم”، و”إن من الصعب أن يسمع شعبٌ ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب”.

إن بناءَ سكنٍ يلزمه مهندس يضع أدق تفاصيل أجزائه لكن بعدما تخيله كاملاً ورسمه على الورق، فكيف بمصير أمة ليست عندها خطة ولا مهندسون أكفاء على المستوى العالمي كي يضعوا لها المعالم ويرسموا لها الخطط ليس كما يتصرف من يقدم حديث “إنما الأعمال بالنيات” بعمل فجائي وإنما ببرنامج لعقود قادمة.

والخطة تحتاج إلى منهج، وهذا بدوره يجب أن يكون فاعلاً مع وجود خبراء يصححون مساره عند أقل انعطافة أو سوء تقدير.

إن الأمة التي لا نظام في حياتها، والشروحات التي تستعملها صحيح أنها موشاة بمسحة إسلامية، لكنها تعود لأمم سابقة هندوسية، أو زرادشية، إغريقية أو بيزنطية قديمة.. (هذا أمر ستتم معالجته في مكان آخر)، هذه الأمة تتجه إلى الشخص الذي تجسد فيه كل أحلامها وآمالها غير المركزة والواضحة، فهو بنظرها ملاك يجب أن يحقق كل المتطلبات وعندما يفشل، وهو كذلك، يتحول في نظر الذين عقدوا عليه كل أحلامهم إلى نحسٍ، وفي أحوال أخرى يبتكرون فكرة الانتظار، وقد يلقون بالتبعات على القدر والحظ أو يجلدون أنفسهم من أن الله تعالى قد غضب وسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب ويبدد ثرواتهم ويتملك أوطانهم.

نعم، صحيح ما جاء في مقدمة السؤال من أن الأمة ضائعة وتنتظر مخلصاً، لكن ما يحدث ليس فقط الانتظار فالتحليل النفسي للشعوب المغلوبة والمأزومة تدخل في رقصة موت، يقتل فيها الشقيق شقيقه ظناً منه أنه يتخلص ممن يتسبب له بمتاعبه ويسيطر على مقدراته ويحتل أرضه.

إن من نتائج ضياع شعب ما أن كل واحدٍ منهم سيحمل المسؤولية للآخر، كما حدث لأصحاب الجنة في سورة القلم: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ {30} قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ {31}) (القلم).

أما سبب ضياع الأمة فله تفسيرات منها:

يقول مالك بن بني في كتابه “شروط النهضة”: “من الملاحظات الاجتماعية أن للتاريخ دورة وتسلسلاً، فهو تارة يسجل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، وهو تارة أخرى يلقي عليها دثارها، ليسلمها إلى نومها العميق، فإذا ما أخذنا هذه الملاحظة بعين الاعتبار، تحتم علينا في حل مشكلاتنا الاجتماعية أن ننظر مكاننا من دورة التاريخ، وأن ندرك أوضاعنا، وما يعتورنا من عوامل الانحطاط وما تنطوي عليه من أسباب التقدم، فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا”.

هذه وجهة نظر مهمة جداً، فالأمة الإسلامية بقيت في صدارة العالم أكثر من 1200 سنة، ووفق نظر ابن خلدون فإنه لا بد من أن تترهل هذه الأمة، تماماً كما يحدث لأبناء الأثرياء.

وإلى جانب الظاهرة الاجتماعية آنفة الذكر، فإن من مسببات الركود والتخلف تداخل الحضارات والثقافات، وبما أن الدولة الإسلامية عبر تاريخها قد انتقلت من العرب عملياً في العهد العباسي حيث كانت السيطرة الفعلية للعنصر غير العربي؛ وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يفهم الإسلام بخلفيته الثقافية والمنهج الذي ألفه من قبل، جاء في كتاب “صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام” لجلال الدين السيوطي (ص 15): إن الشافعي قال: “ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس”، وأشار الشافعي بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن ونفي الرؤية وغير ذلك من البدع وأن سببها الجهل بالعربية والبلاغة الموضوعة فيها من المعاني والبيان والبديع الجامع لجميع ذلك قوله لسان العرب الجاري عليه نصوص القرآن والسُّنة، والخطأ حصل في أنه تم “تخريج ما ورد فيها على لسان يونان ومنطق أرسطاطاليس الذي هو في حيز ولسان العرب في حيز”، كل واحد في مكان آخر، وأنه “لم ينزل القرآن ولا أتت السُّنة إلا على مصطلح العرب ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال لا على مصطلح يونان ولكل قوم لغة واصطلاح، وقد قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم).

ويقرر الإمام الشافعي: “فمن عدل عن لسان الشرع إلى لسان غيره وخرَّج الوارد من نصوص الشرع عليه جهل وضل ولم يُصب القصد”، وأنه لهذا نرى كثيراً “من أهل المنطق إذا تكلم في مسألة فقهية وأراد تخريجها على قواعد علمه أخطأ ولم يُصب ما قاله الفقهاء ولا جرى على قواعدهم”.

وسوف أترك معالجة المنهج وتغييرُ منهج القرآن الكريم الذي أدى إلى انحطاط الأمة للسؤال الرابع إن شاء الله تعالى.

وأخلص من إجابة هذا السؤال إلى أن مرور حضارة بدورة من السنين الاجتماعية لا يعني أنها غابت ولن تعود.

إن أوروبا التي يراها الناس وكأنها جنة الله تعالى في أرضه كانوا حتى عام 1945م يدخلون في حروب يُقتل فيها في اليوم الواحد مئات الآلاف وتُدمَّر عاصمة أو أكثر، ومع ذلك فهم الآن مقصد كل المعذبين والراغبين في حياة أفضل، وفجر أي حضارة كبت قادم لكن على المفكرين والخبراء أن يجهدوا ويكدوا بتقديم الحلول حتى تتسرع عملية التحول والعودة إلى المكان الأفضل في هذه المسكونة، وعلى هؤلاء أن تنسجم أفكارهم وعواطفهم وأقوالهم، وخطواتهم مع ما تقتضيه المرحلة، وقد حدد مالك بن بني ثلاثة عوامل مادية لاستئناف الحضارة نهوضها: الإنسان – التراب – الوقت.

لذلك لا حاجة للبكاء على الأطلال، بل يجب التشمير عن السواعد والعمل بما يلزم والأيام دول، غالب اليوم مغلوب الغد والعكس صحيح.

2- بصفتكم عضواً في المجلس الاستشاري للموسوعة الكويتية للعالم الإسلامي، واطلاعكم على كثير من واقع الأقليات المسلمة حول العالم..

كيف تفسرون عدم الاهتمام الكافي من المسلمين في الدول الإسلامية العريقة خاصة العربية بهذه الأقليات؟

ومن وجهة نظركم.. كيف يمكن تلافي هذا التقصير في حقهم ولو في الحد الأدنى منه؟

– يوم كان علماء أوروبا تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يعملون ليلاً نهاراً للخروج من حالة الضعف التي يعيشون فيها، توسعوا بمساحة الأرض في ذات المكان من خلال تعدد طوابق البناء، وزرع الأرض الزراعية لأكثر من فصل في السنة، وتهجين البذور وبناء السدود، واكتشاف المعادلات بين المواد الموجودة في الكون فاكتشفوا الطاقة وبنوا الجسور والسدود المائية للاستعانة بها عند شح المياه، بينما الواقع في الدولة العثمانية كان عكس ذلك تماماً، فالاقتصاد يعتمد على المناخ، إن أمطرت تحسن الزرع وربوا مواشيهم وإذا جف المناخ تدهور اقتصادهم، وكان الناس يُشغلون عقولهم في الأمور الغيبية والشعر والتصوف أو تصحيح العقيدة عند فريق آخر، وكل الاقتصاد والجهد العسكري غارقاً في حرب طاحنة لـ200 سنة مع الصفويين في إيران، كما الثورات في أطراف الدولة ومشكلة الأقليات، التي استغلها أعداء المسلمين أيما استغلال وما زالوا.

وعبثاً تم الإصغاء لنصائح خير الدين التونسي الذي دعا إلى إعادة تشكيل المؤسسات السياسية على الشورى الملزمة والعمل على تنشيط الحركة الاقتصادية عبر التصنيع والإفادة من المواد الأساسية المتوافرة في العالم الإسلامي، وحذر من أن الممالك التي لا تنسج ولا تصنع الآلات الحربية وغيرها على منوال جاراتها ستقع غنيمة لها، أي الممالك الأوروبية.

هذا الواقع انعكس وبالاً على الأقليات الإسلامية في العالم، لقد تحمل هؤلاء عبء الهجمة الأوروبية المزودة بأحدث الأسلحة وكامل التنظيمات، بينما الدولة المركزية المسلمة منهمكة في أمور أخرى تماماً ولم يكن بمقدورها حماية المسلمين حيث هم أقلية، لا بل فإنها هي نفسها قد تم احتلالها في عمقها الأساسي البلاد العربية والتركية، وهكذا بقيت الأقليات متروكة لهمجية المحتل.

ولقد تبين من خلال الدراسات التي توافرت لموسوعة الكويت للعالم الإسلامي أن الأقليات المسلمة (الآن) في أفريقيا مثلاً كانت من قبل هي التي تمثل النخبة والسلطة، لكن اهتمام المؤسسات الأوروبية بافتتاح المدارس وتعليم غير المسلمين، فالمسلمون قاطعوا تلك الحواضر التعليمية، وبقي أطفال المسلمين في أحسن أحوالهم يتعلمون عند شيخ الكتاب القراءة والكتابة في أفضل حال، والمسلم الذي درس في المدارس الأوروبية انحاز إليهم وأعجب بحضارتهم، فأضحى الفارق كبيراً بين المسلمين وغيرهم، وأمعن المحتل؛ فرنسياً أو بريطانياً، أو إسبانياً، أو هولندياً.. بنهب الثروات وانزوى المسلمون ولم يكن قد تحضروا لاستيعاب هذا التغيير من قبل، وتدحرجت كرة الثلج، واتسع الخرق بحيث أصبح المسلمون أقلية وعمالاً عند جيرانهم وتبدلت الأحوال من النقيض إلى النقيض.

وبدلاً من التخطيط إلى نهضة في مركز العالم الإسلامي بحيث تعم فائدتها الأقليات المسلمة، اندفعت الجامعات الإسلامية بتخريج أفواج من المتخصصين في العلوم الشرعية وإرسالهم إلى الأمصار القريبة والبعيدة، وتم إرسال طلاب من المسلمين في أفريقيا وآسيا على الجامعات الإسلامية إلى أمل عودة هؤلاء وتحسين أوضاع المسلمين فكانت النتيجة:

أولاً: المنهج الذي تمت دراسته أشبه بالدراسات اللاهوتية عند غير المسلمين، عبادات، عقيدة، أحكام وكل الشروحات هي من العصر العباسي قناعاً لثقافة الشعوب التي سيطرت على الدولة وهي تحمل ثقافتها السابقة في الفهم، فعاد الخريجون إلى بلادهم التي ابتعثتهم يحملون كل مشكلات الاحتكاك بين الحضارة الإسلامية في صدر الإسلام والحضارات الأخرى، فكانت الفرق: المعتزلة، الأشاعرة، الماتريدية، الخوارج، الشيعة، السُّنة، السلفية القديمة مع ابن تيمية رحمه الله تعالى والتفسيرات الجديدة، إضافة على التباينات بين أفراد كل مسمى: الخوارج وفرقهم، الشيعة وفرقهم، السُّنة ومذاهبهم، السلفية واطراد اشتقاقاتهم، الصوفية وتعدد مشاربهم.

هكذا بدلاً من أن يواجه المسلمون سواء في عمق وجودهم أم الأقليات الهجمة المستمرة عليهم وردم الفجوة الحضارية بينهم وبين الحضارة الحديثة بكل وسائلها وتقديماتها وتنظيماتها، انخرط المسلمون في صراعات داخلية، تناسوا فيها زمانهم وعادوا إلى ألف سنة ويزيد لحسم اختلافات وصراعات وثارات بعضها حدث شيء منه، والأكثر مما جادت به قرائح المؤرخين والحكواتية والشعراء.. وهكذا حلَّ بالمسلمين ابتلاء من الصعب الحد من مضاره لمئات الملايين من السنين إن لم تحدث وقفة جذرية، ينتقل فيها جهد المفكرين المسلمين من أحداث التاريخ إلى معالجة الحاضر.

ثانياً: بعض الجامعات أو المؤسسات التعليمية بُنيت لنصرة مذهبها أو توجهها وليس لتحسين حال المسلمين، مضافاً إليها أن جلّ طلاب الشريعة لم يتم التدقيق في أوضاعهم الاجتماعية وتربيتهم وقدرتهم على الفهم والاستيعاب، فتخرج هؤلاء وعادوا إلى مجتمعاتهم قنابل متفجرة، وكأنهم يريدون أسلمة الناس من جديد، لا بل فإن المسلم الذي ليس كما يريدون هو العدو والكافر، بينما يجدون سهولة في التعامل مع غير المسلمين.

ثالثاً: في أحسن الأحوال، وتلافياً لظلم الحكام أحياناً، ولعدم إغضاب المحتل ثانياً، تم التهرب من معالجة المشكلات إلى وعظ فضائي لا يلامس الأحوال، وراج أدب الدعاء والتبتل والحض على الزهد في الدنيا والتخلص منها، متناسين أن الله تعالى خلق البشرية لمهمة إعمار الكون، وأن الآخرة هي نتاج الفعل في الدنيا، وأنه بعد الموت ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى، وكي يتسلح هؤلاء الوعاظ بمصداقية فإنهم تركوا الصريح من القول وذهبوا إلى التأويل، وعلى سبيل المثال: يقول تعالى: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {69} وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ {70}) (الزمر).

وقوله: (وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {121}) (التوبة).

وقوله: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً {49}) (الكهف).

وقوله: (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {43}) (الأعراف).

وإخباره تعالى أن مصير الإنسان يتقرر يوم الحساب في الآخرة بمقدار الذر عندما توضع الحسنات في كفة والسيئات في الأخرى: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ {6} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ {7} وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ {8} فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ {9}) (القارعة).

بدلاً من حض المسلم على التفاعل مع الحياة واقتحام مصاعبها وتسخير سننها، ينصرفون إلى التأويل ظناً منهم أنهم يعظمون الله عز وجل ولا يُلزمونه بنتائج الموازين يوم الحساب، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإنهم أي الوعاظ يقدمون الحديث الشريف: “سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يُدخِلُ أحداً الجنة عملُه” قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: “ولا أنا إلا يتغمدني الله بمغفرة ورحمة”، وفي رواية: لن يُنجِّي أحداً منكم عملُه” فينصرف الشراح إلى إفهام المستمعين إلى الاستنساب من الله تعالى يوم القيامة، مما يؤدي إلى تراخي المسلم مع أن السطر الآخر من الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: “إلا أن يتغمدني الله برحمة، سدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدُّجلة، والقصد تبلغوا”.

هذا الحديث، كما غيره “الإيمان بالقضاء والقدر” من الأفضل شرحه على أن الرحمة من الله تعالى أن خلقكم وأعطاكم الفرصة لتعملوا في الدنيا ما يُربحكم جنة الخلد، وهكذا، فالقضاء والقدر يجب ألا يُحصر عند حصول المصيبة، بل يتم شرحه على أن قضاء الله تعالى وقدره عليك أيها الإنسان أن تُفعِّل كل قدرة لديك وأنت في كامل وأحسن أوضاعك، الصحة قبل المرض، والعلم، والغنى، والحياة.. هكذا يتم إفهام المسلم أنه سيحاسب على كل ثانية يعيشها، وأن مولده معلوم ونهايته مكتوبة، وما بينهما بعد بلوغ الحلم عليه مهمة يجب أن يؤديها على أكمل وجه.

رابعاً: قصور بعض المؤسسات الخيرية أو فاعلي الخير عندما يبنون مسجداً أن عليهم بناء مؤسسات استثمارية تابعة للمسجد مثل بناء شقة للإمام المجاز وعدة محلات تجارية بعضها للإمام ومحل يستثمر لخدمات المسجد، وهكذا يتأمن دخل ثابت يحفظ كرامة إمام المسجد ويحول بينه وبين طلب العون دائماً، فيظهر بأنه فقير أو الأضعف، وهذا له تأثيره السلبي على نفسيته وعلى رواد المسجد.

خامساً: على واضعي مناهج التعليم في الكليات الإسلامية العمل على ربط الكلية بالمجتمع والسوق معاً، فيتم التعرف على المؤسسات التي تحتاج إلى موارد بشرية في البلاد التي سيعمل فيها الخريج ويتم تدريسه مواد تساعده على معرفة نفسيات الناس ووضعهم الاجتماعي وعاداتهم وتقاليدهم، كما أنه يمكنه العمل في مؤسسات اقتصادية مثل المحاسبة، والتسويق، والإعلام، والعلاقات العامة، أو تدريس مواد مثل اللغة العربية إضافة إلى العلوم الشرعية.

وهكذا يتم إخراج الأئمة والخطباء من الانزواء في واقع ليس مناسباً، كما أنهم يدخلون على المجتمع وهم على علم ودراية بكل أوضاعه فلا يُحدثون فيه صدمة، فالدعوة الإسلامية ليست ثورية ولا جذرية أو إقصائية، بل تعتمد التدريج والصبر وطرح النموذج الأفضل حتى يتحول الناس إليه تلقائياً، وإن ما حدث في أفريقيا من اصطدام وصراع بين الدعاة الجدد وأهل البلاد من المسلمين الذين اعتادوا على مفاهيم توارثوها أباً عن جد، أو أملتها عليهم ظروف التخلف والجهل على حد قول مالك بن بني: “وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية، فإن الجهل في حقيقته وثنية، لأنه لا يغرس أفكاراً، بل ينصب أصناماً” (شروط النهضة).

إن القرآن الكريم لم يُنزل حكماً واحداً قبل 14 سنة على الأقل، بل إن العهد المكي كان يركز على صياغة العقل والوجدان عند المسلم، وهكذا فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فإنه من حق أي مجتمع أو أي مسلم أن يأخذ الوقت كي يصحح مفاهيمه إن كانت غير صحيحة، وعلى الداعية أن يكون حكيماً وخلوقاً ولطيفاً وعلى مستوى عالٍ من القيم وتعشيق الناس بسلوكه.

وأخيراً إن تلافي التقصير يكون بتصحيح المنهج بكامله، فالمنهج غير المنتج لا يُولّد جديداً ولا يُسمن أو يغني.

يجب إعادة منهج القرآن الكريم وصدر الإسلام وإقصاء ما دخل على الفهم والشرح، وتسبب في تخلف الأمة.

3- ما رؤيتكم لأولويات الأقليات المسلمة خاصة الأصيلة منها والتي تعيش على أراضيها منذ مئات السنين ولكن لظروف التاريخ أصبحت جزءاً من دولة أخرى غير مسلمة، وخاصة أن غالبيتها مرت بفترات اضطهاد وأصبح كثير منها تنعم حالياً بمساحات غير مسبوقة من الحريات والحقوق؟

– أولاً تحية وتقدير إلى هؤلاء، إن من يتعرف على الظروف التي مروا بها من القتل والاضطهاد والتهجير يدرك عظمة هؤلاء وقوة إيمانهم وحبهم لأوطانهم.

وأما عن الأولويات يمكن اقتراح بعض المعالم:

أولاً: العمل والتربية لأجيالهم كي يكونوا حاجة للمجتمع الذي يعيشون فيه ومعه، لذلك يجب أن يكونوا الأكثر علماً، والأكفأ مهنياً، متوحدين (هذا شأن كل الأقليات)، لا يشتغلون بصغائر الأمور، ولهم في تجربة المسيحيين الذين عاشوا في كنف الدولة الإسلامية بعد تحول شعوب الدولة البيزنطية في غالبيتهم الساحقة إلى اعتناق الإسلام.

وفي هذه المناسبة أذكر تجربة الأرمن الذين نزحوا، على لبنان، كان الأرمني (قبل أن يتحولوا حديثاً إلى أثرياء ومحازبين) الأكفاء على الإطلاق، إذا أردت شراء أو إصلاح ساعتك فإلى الأرمني، المصور أرمني، صيانة السيارات أرمني.. وعندما تقول ذهبت إلى الأرمني يعني الأفضل.

سألت مرة أحدهم لماذا تمتازون بالكفاءة دائماً أكثر من غيركم قال لي: بابا أنت عندك أملاك وأنا مهاجر إذا لم أكن الأكفأ حرفياً كيف أعيش؟

ثانياً: على المسلمين التخلي عن فكرة الصراع مع السلطة، والتعاطف مع عمقهم الإسلامي إلى الحد الذي يضر بوجودهم ويسيء للعلاقة مع شركائهم في الوطن، وعن أدبيات مقارعة الظالمين.. إن هذا الفكر الراديكالي (الثوري) ليس من الإسلام الذي هو دعوة وبناء وتعشيق الآخرين بالمسلمين المميزين في كل مجالات حياتهم.

ثالثاً: عدم السماح بتعليم أولادهم الشريعة الإسلامية في مؤسسات ثانوية أو جامعية لا يعترف القيمون عليها وفي مناهجهم بكل المسلمين، أو يعتبرون أنفسهم الفرقة الناجية وعليهم أسلمة المسلمين وفق تصوراتهم هم.

إن المسلمين أمة واحدة، وتعدد المذاهب يعني الشروحات وهذه أمور يجب ألا تكون محل نزاع، وعلى طالب الشريعة دراسة المذاهب المقارنة ويتقبل الناس على مذهبهم، أحنافاً كانوا أو شافعية أو مالكية أو على مذهب الإمام أحمد بن حنبل كما على مذهب الإمام جعفر الصادق (لعله يعيد الناس الثائرين بدون وعي إلى رشدهم).

ودوره تعليم الناس وفق مذهبهم وإذا كان عندهم ما يُعتبر فعلاً غير شرعي يعمل على تصحيحه بهدوء وروية ومحبة.

رابعاً: على المسلمين عامة والدعاة أقلية كانوا أم أغلبية ألا يكون همهم الهدم والتدمير لكل ما يخالف دينهم أو تطلعاتهم ولينصرفوا إلى بناء النموذج المسلم، والمؤسسة المسلمة التي تفوق المؤسسات الأخرى تفوقاً وجودة، وليتذكروا قول الله تعالى: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً {81}) (الإسراء).

وفي وصية لأحد الحكماء لتلميذه “يا بني لا تُشغل نفسك في هدم الباطل بل اشغل نفسك في بناء الحق”.

إن الحق والباطل لا يُخرج أحدهما الآخر من الوجود بل يعلو صرح الحق فيصبح بناء الباطل منخفضاً والعكس صحيح.

خامساً: التعود على قبول الآخر بمساحة الاتفاق: 10%، 20%، 50%، 70%، 95%، وإبعاد فكرة إما الاتفاق 100 % أو الاختلاف ولو على 1% إنَّ عدل الله تعالى يوم الحساب الترجيح بمقدار الذر، فقط في المجتمعات الجاهلة إما أن تكون أنت أنا أو أرفضك.

قال لي مرة أحد الحكماء: لو كان لي 5% مع إبليس لن أتخلى عنها، هذا فكر نير ويعيدنا إلى الحقبة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم يوم كان الصحابي يصلي بقرب الكعبة وعليها أمام ناظريه ومن حوله 365 صنماً.

إن ذلك الرعيل الذي عاش تلك الحقبة بين ظهراني المشركين وأصحاب الديانات الأخرى كان ولا زال أفضل جيل وأنجح جيل في حمل الإسلام إلى العالم.

سادساً: يجب الإفادة من التحولات العالمية والأجواء السياسية، والتوجه نحو منح الحريات الشخصية وعدم الإقدام على أي فعل بالقول أو العمل أو التعاطف يمكن أن يشين بهذا الجو الجديد المتوافق مع روح الشريعة الإسلامية التي أسُّها الأمن والأمان، قد لا يدرك الكثيرون أن الأصل في الشريعة الأمان ومساعدة الضعفاء والله تعالى يمتن على الناس: (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ {4}‏) (قريش).

سابعاً: الإصلاح الاجتماعي كالجرح يبرأ من تحت ويتجه إلى سطح الجلد، والفساد في المجتمع يحول دون قيام حكومة نظيفة وعصامية، الحاكم بالأغلب من طبيعة غالبية الناس، لذلك يجب التفكير بإصلاح ومحاربة الفساد من القاعدة، فليس بمقدور حاكم ممارسة الفساد في مجتمع سليم.

ثامناً: إن الحراك الاجتماعي يستوجب وجود معارضة للفريق الحاكم، لكن على هذه المعارضة أن تكون إيجابية مثلها مثل أمواج البحر تلقي الموجة الأولى أحمالها فتكون وراءها موجة محملة تعقبها.

على المعارضة أن تحضر المشاريع الأفضل، وتجهد في سد الثغرات وليس كالمعارضة التي نشهدها في العالم العربي (طبق الأصل عما كان يحدث في العصر العباسي) لا تترك للذين في الحكم فرصة تحقيق أي نجاح حتى تثبت أنها البديل، إن البديل هو من يفعل الخير أكثر والحريص على النجاح إن كان على يده أو يد من ينافسه، إن للمنافسة مشروعيتها كما للاتصال والانفصال، لقاء على الله تعالى وافتراق عليه (أي بطاعته أولاً وأخيراً) وليعلم الناس كلهم أن البقاء للأصلح.

4- ذكرتم بأن منهج الفكر هو الذي يرسم حياة كل أمة، فما إشكالية الفكر الراهن؟ وما رؤيتكم للتصحيح المطلوب والأهم؟ كيف يمكننا تحقيق ذلك؟

– أبدأ من نهاية السؤال، إن الفشل المستمر للمنهج الذي يعيشه المسلمون منذ مئات السنين والتراجع في كل المجالات، والويلات التي تسبب بها هو نفسه سيكون الحافز على إقصائه والتفكير بالمنهج الذي مِعْلَمهُ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143)، وقوله: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139}) (آل عمران)، وقوله الوعد: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {55}) (النور).

عندما لا يصل المسلمون إلى هذا الوعد فما السبب؟ هل الله تعالى العادل أخلف في وعده أم أن المسلمين لم يستأهلوا تحقيقه لأنه لم تتحقق الشروط المتوجبة؟

سؤال طرحه الأمير شكيب أرسلان في كتابه “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”، قال: إن الله تعالى لا يخلف وعده، فالعلة بالجماعة التي لم تستأهل هذه المرتبة.

إذا الخلل بالمسلمين أين هو؟ في عدد الصائمين، المصلين، الحجاج، الذين يؤدون زكاتهم، في عدم تقديم الشهداء والتضحيات.. أين المشكلة؟

الحقيقة أنه ليس مما تم ذكره يصلح ليكون سبباً كافياً لعدم تحقيق وعد الله تعالى، بل بالشروحات التي يتعبد المسلمون بها الله جل وعلا، هذه الشروحات التي لم تُفرد مساحة كافية لإرشاد المسلمين إلى كيفية تسخير كنوز الأرض وصرفتهم لعلاقة مباشرة بين المسلم والله تعالى، يتقرب إليه بالدعاء والتبتل والصلاة والصيام والحج دون أن يطاول الكون وما حوى والفضاء وما أظل؛ إن هذه الشروحات الإغريقية القديمة التي أشرت إليها في السؤال الأول نقلاً عن الإمام الشافعي ليست صالحة لإحياء أمة لم تزل تتراجع منذ أكثر من 1200 سنة، تراجعاً بطيئاً ثم انهارت عندما أشعل علماء أوروبا شموعهم من قناديل الأندلس واجتاحوا العالم الإسلامي كله، وبدلاً من أن يستيقظ النائم من كبوته تخيلوا أنه يمكن العلاج بالذي كان هو الداء.

في لقاء كان يرأسه باني مجد ماليزيا المعاصر مهاتير محمد، قال: عندما استقلت ماليزيا عن بريطانيا عام 1956م كان متوسط دخل الفرد 350 دولاراً أمريكياً؛ يعني أقل من دولار واحد في اليوم، ثم قال: فكرنا بدولة إسلامية، رأينا أنها تحتاج لشعب مسلم، وهذا يحتاج إلى أن تؤمن له حاجته، والزراعة وحدها لم تكن كافية لذلك كان لا بد من التصنيع وهذا يحتاج إلى خبرات وشركات غير مسلمة، وقررنا خوض هذا الميدان، نحن ربحنا وهم ربحوا واليوم نحن نصدر خبراء.

لكن هناك مشكلة هو لم يذكرها، وهي أن الاقتصاد بيد غير المسلمين، فالمسلم لا يحب العمل، لقد فهم أن الحياة سجن وأن كل هدفه الانتقال إلى العالم الآخر.. وهناك ستكون سعادته.. هذه الشروحات هي التي أعاقت المسلمين عن المشاركة في تطوير حياة الناس وبناء كيان أو كيانات مهابة وقادرة على إشباع شعبها.

وأخلص إلى المِعْلَم الحق (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ {117}‏) (هود)، وبظلم معناها بشرك، أي أن الناس لو أصلحوا شؤون حياتهم فإن شركهم لن يكون سبباً في هلاكهم، وأن الله تعالى ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة.

التصور للفكر الإسلامي الصحيح:

إن الرعيل الذي تلقى المنهج مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف مناهج الإغريق ولا البيزنطيين بل منهج القرآن الكريم، فما ملامحه؟

بكلمات موجزة: إن منهج القرآن الكريم في بناء المعرفة واستعمال العقل إنما هو مبني على المحسوس والمشاهد المتذهن، والقصص هي تعييش لحدث مضى وإحياؤه كأنه ماثل مشاهد، إنه تعليم بالإيحاء.

وإذا قلنا: إنه منهج تجريبي لن نكون قد تجرأنا على هذا الوصف، فالقرآن الكريم لا يسمح باستعمال العقل إلا من خلال الكون، إنه مخلوق على قياس هذا الكوكب وليس له قدرة على تذهن أو تصور العالم الآخر ويأخذ الخبر الصادق دونما سؤال كيف ولماذا؟

في كل مرة يتساءل المشركون أو غيرهم مثل الأنبياء إبراهيم وموسى عليهما الإسلام عن أمر غيبي يردهم الله تعالى إلى النظر في مخلوقاته، وكذا الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها.

وأكثر من ذلك فالله سبحانه وتعالى يقسم بمخلوقاته وسترد بعض الأمثلة التي تكفي لشد الانتباه إلى منهج القرآن الكريم الذي حمله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة، وبذلك المنهج فهموا دورهم وفي عقدين من الزمن كانوا حملة مشاعل الهداية إلى أقاصي الأرض.

المثل الأول:

سورة الواقعة، هذه السورة المكية تكفي لمعرفة دور العقل والمساحة التي خُلِقَ للعمل من خلالها، فالسورة ككل السور تغرس الإيمان في مشاعر الإنسان ووجدانه إضافة إلى عقله، فهي تبدأ بمشهد يوم القيامة وكيف أن كل ما يراه الإنسان ثابتاً سوف يتحول كالعهن المنفوش (القطن) كما جاء في سورة القارعة، وفي الواقعة: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً {4} وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً {5}) (الواقعة).

وبعد ذلك، أي بعد الخبر الغيبي ينتقل المشهد إلى مصير البشرية، أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ثم “المقربون” وعرض صورة حية لوضع كل فريق منهم، فالمقربون وأصحاب اليمين في أحسن حال وأما أصحاب الشمال فهم يعيشون في وضع يصعب تصوره من العذاب، وأنهم كانوا يتساءلون وهم في الدنيا: (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ {47}) (الواقعة)، فالجواب أتاهم مما يرون ويحسون ويتعايشون معه، لقد تم تذكيرهم بخلقهم الأول، ثم طُرحت عليهم أسئلة، وبالطبع كانت بالتسليم عن اقتناع: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ {58} أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ {59} نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ {60} عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ {61} وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ {62} أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ {63} أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ {64} لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ {65} إِنَّا لَمُغْرَمُونَ {66} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ {67} أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ {68} أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ {69} لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ {70} أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ {71} أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ {72}) (الواقعة)، والجواب أنت يا رب، بعدها قال تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ {74}) (الواقعة)، ثم أقسم بمواقع النجوم، إنه لقرآن كريم، ثم بعد ذلك عاد المشهد ليثبت عجز الإنسان وأن الأمر بيد الله عزّ وجل، وعرض إلى لحظات الموت وتحدى المنكرين ليوم البعث؛ فلولا إن كنتم غير مدينين، ترجعونها إن كنتم صادقين، ثم أعادهم إلى المصير للمجموعات الثلاث: “المقربون” أصحاب اليمين، أصحاب الشمال، وختم: “إنَّ هذا لهو حقُّ اليقين”.

هل لقارئ أن يلحظ ولو للحظة واحدة خروج العقل من دائرة الكون كي يتثبت من مسألة غيبية يسأل عنها؟ ثم أرأيتم كيف يستسلم العقل أمام الأدلة المشاهدة أمامه.

إن هذا المنهج مغاير تماماً لما وصل إليه مسلمون في الحديث عن إثبات وجود الله تعالى وصفاته والجنة والنار والملائكة.. وكل الأمور الغيبية بالوصف والتشخيص والأدلة المستندة على ما تم استيراده من أمم سابقة كالإغريق وغيرهم ممن ذكرناهم من قبل؟ والعقل لا يحكم إلا بما عنده منه صورة مسبقة أو مشابهة أو مقاربة.

ولمزيد من الأمثلة في سورة البقرة الآية (258) حيث أحرج إبراهيم عليه السلام الذي حاجه مدعياً أنه يحيي ويميت أن يقتل هذا ويترك الآخر حياً، فقال له إبراهيم: (فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) (البقرة:258).

وفي الآية (259): (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {259}‏) (البقرة).

والآية التي بعدها: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {260}) (البقرة).

وفي سورة “الأعراف”: (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ {143}) (الأعراف).

وفي سورة “الحج”: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) (الحج: 5)، وبعد ذلك المشهد الذي يضع السائل أمام الحقيقة الماثلة، يشده إلى التراب الجاف الصحراوي؛ (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {5}) (الحج).

ثم يصل إلى المُسلَّمة التي على العقل إدراكها بعد كل ما سبق (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {6} وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ {7}) (الحج).

وفي سورة “ق” السؤال: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ {1} بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ {2} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ {3} قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ {4} بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ {5} أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ {6} وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {7} تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ {8} وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ {9} وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ {10} رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ {11}) (ق)، والمشهد القرآني يصعق السائل أولاً نحن نعرفكم ونعرف أنكم تدفنون في التراب ولدينا إحصاء كاملاً عنكم، والتكذيب بالحق جاء بعد أن بلغهم الأنبياء والرسل رسالة ربهم، ثم بدأ الحوار: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ {6} وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {7} تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ {8} وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ {9} وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ {10} رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ {11}) (ق).

وبعد أن استفيض أكثر في منهج القرءان الكريم، كما أننا لو أحصينا القسم الإلهي لوجدناه محصوراً بالمخلوقات، فكيف دخل على المسلمين منهج ترحيل العقل من العالم المشهود إلى عالم الملكوت؟ وأنى لهؤلاء الادعاء بأن هذا منهج إسلامي صحيح.

نحن نتعبد الله تعالى بكتابه، والأدلة الدامغة أن كل نجاحات المسلمين كانت قبل تبني منهجاً لا يتفق مع الفكر الإسلامي إطلاقاً، والنتائج على مدى ألف ويزيد من السنين أثبتت أنه فاشل وعقيم وأكسب المسلمين ذلاً بعد عز..

لماذا إعادة طرح منهج القرآن الكريم؟

الانعطافة الأخطر:

تحت عنوان “اكتساب المعرفة لا من التعلُّم ولا من الطريق المعتاد”، جاء في (ص 25) من المجلد الثالث لـ”إحياء علوم الدين”، دار الكتب العلمية بيروت: “اعلم أن من تكشف له شيء ولو الشيء اليسير بطريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفاً بصحة الطريق، ومن لم يدرك ذلك بنفسه يجب أن يؤمن به فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جداً، ويشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات”.

وفي نهاية رحلة الشك التي سطرها الغزالي في كتابه “المنقذ من الضلال” قال: “فأعضل هذا الداء، ودام قريباً من شهرين.. حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض..”

وأن العودة إلى اليقين “ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف: موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيق رحمه الله الواسعة” واستند على آية (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ) (الأنعام: 125).

وهو بذلك لا يجد حاجة للمجاهدة والعمل والدعوة، كما أنه في “الإحياء” (ص 21): “فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب بل بالزهد في الدنيا والتبرؤ من علائقها وتفريغ القلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى..”.

هذا إذا أضيف إلى ترجيحه الإلهام كطريق لكسب المعرفة زهد المسلمون في الكسب الذي هو أحد طريقي كسب المعرفة، وفي تشبيه له في البئر الذي تستخرج المياه من أعماقه بعد حفره فهي أعذب من تلك التي تأتي إليه بواسطة الجداول، أي أن علم القلوب أنظف من العلم المكتسب بالدراسة والتعلم.

مع أنه في (ص 19) من المجلد الثالث نفسه نعى على من لا يرى إمكانية الجمع بين العلوم العقلية والعلوم القلبية، ونتيجة لعدم تفهم ما أورده الغزالي اتجه المسلمون إلى ترك الدنيا والتجؤوا إلى العلاقة المباشرة مع الله سبحانه وتعالى خاصة وأنه يذكر إمكانية اطلاع الولي، العارف بالله، على اللوح المحفوظ.

لقد انصرف الفكر الإسلامي إلى تخيل عالم الغيب وصفات الله تعالى وذاته، ونسي الدنيا التي من أمسك بها كانت له الدنيا إن لم يكن مؤمناً، والدنيا والآخرة معاً للمؤمنين.

Exit mobile version