قراءة في كتاب “صراعات الجيل الخامس”

– الدول الكبرى لن تستطيع أن تستمر في هضم مصالح الشعوب الصغيرة ولا في ظلمها وابتزازها

– نظرية أجيال الحروب الأربعة التي فصَّلها اختصاصيو الإستراتيجية في نهايات القرن العشرين شارفت على نهايتها

– التخلف الناتج عن الهوة المعرفية بين الأمم والشعوب ذهني صرف إلا أنه يؤثر في مستقبل بلد بكامله

– المشكل الذي تعيشه أمتنا ثقافي حضاري ولا يمكن لحلوله أن تُشترى مثلما تشترى السيارات وأدوات التجميل

– أخطر ما حصل خلال العقدين الماضيين إجازة واشنطن لنفسها محاربة الإرهاب حيثما تشاء على الساحة الدولية

– نحن في عالم مترابط تنخفض فيه سلطة الدولة بشكل تدريجي وترتفع نسبة المخاطر

بيانات الكتاب:

اسم الكتاب: صراعات الجيل الخامس.

المؤلف: إميل خوري.

الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.

سنة النشر: الطبعة الأولى 2016م.

عدد صفحات الكتاب: 358 من القطع الكبير.

 

يقدم هذا الكتاب – لمؤلفه إميل نعمة خوري – نظرية جديدة في الفكر الإستراتيجي، تشتمل في بعض أوجهها على طرق التمرد، بعد أن أصبحت الإمبراطورية تؤثر، بامتداداتها وثقل حضورها، على حياتنا اليومية في كل مكان، فكيف يمكن للدول والشعوب أن تدافع عن مصالحها ما دامت الإمبراطورية مسيطرة على السياسة الدولية بهذا الشكل الطاغي؟ وكيف غيرت العولمة من طبيعة الصراعات؟

إن إحدى أصعب المسائل في رأي الكاتب؛ هي فهم تركيبة الإمبراطورية، بهيكلها العظمي وشرايينها وأعصابها، وخاصة دماغها، وقد قام بتوثيق مطالعاته حول هذا الموضوع بشكل يبين أهم مكوناتها، وقد أظهر المؤلف في هذا الكتاب أن الإمبراطورية تمتد بشبكاتها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية على كل قارات الأرض، لكن ظهر أيضاً أن لكل نقطة قوة في مفاصلها نقاط ضعف تصاحبها، فكلما طالت وتشعبت هذه القدرات صاحبتها نقاط الضعف.

ويستنتج المؤلف أن الإمبراطورية وهبت غريمها بلا مقابل لائحة عالمية من الأهداف التي لا تستطيع أن تدافع عنها، فكل شرايينها وأعصابها بامتداداتها على ملايين الكيلومترات معرضة للوخز أو التجريح، أو ربما التعطيل وحتى الإلغاء.

ويرى المؤلف أن نظرية أجيال الحروب الأربعة التي فصلها اختصاصيو العلوم الإستراتيجية في العقد الأخير من القرن العشرين شارفت على نهايتها، وأن جيلاً جديداً من الأنظمة الفكرية أصبح جاهزاً للصراع والتحدي للإمبراطورية؛ أي للتمرد عليها، ويخلص للقول بأن الذي يحمي العملاق ليست قدرته وإنما ضعف غريمه.

ويرى المؤلف أن التمرد ليس عملية عشوائية أو سهلة خاصة مع مثل هذا الغريم، إذ يخلص إلى القول: منذ أقل من نصف قرن، كان التمرد فناً، وأصبح اليوم علماً، وكان التمرد عاطفة وغضباً، وأصبح اليوم عقلاً وأعصاباً فولاذية باردة، وكان التمرد مفخرة اجتماعية، وأصبح اليوم نشاطاً سرياً، وبالرغم من ضعفه وقلة موارده، فعلى المتمرد أن ينتصر في مبارزاته مع الإمبراطورية، وأن يتفوق عليها.

محتوى الكتاب:

يضم الكتاب مقدمة وسبعة فصول وملحقين؛ الأول عن فلسطين، والثاني اشتمل على جملة من المصطلحات والآراء والمفاهيم، وجاءت الفصول على النحو التالي:

الفصل الأول: أجيال الحرب الأربعة.

الفصل الثاني: المزيد عن حروب الجيل الرابع.

الفصل الثالث: انحسار سلطة الدولة وإعادة تخصصها.

الفصل الرابع: تشريح الإمبراطورية: دماغها، شرايينها، وأعصابها.

الفصل الخامس: التكنولوجيات المتاحة في صراعات الجيل الخامس.

الفصل السادس: صراعات الجيل الخامس.

الفصل السابع: ملاحظات ختامية.

تاريخ الحروب وتطورها

يسرد المؤلف في مقدمة الكتاب موجزاً لتاريخ الحروب فيقول: إن الفكر العسكري كان يصنف الحروب بين المتخاصمين، في أواسط الستينيات من القرن العشرين، على واحد من نهجين؛ إما نهج الحرب الكلاسيكية، وإما نهج حرب العصابات، ففي الحروب الكلاسيكية يواجه جيش نظامي جيشاً نظامياً آخر، مثلما حصل في كوريا (1953م) في التحالف الأممي الذي قادته الولايات المتحدة ضد الصين وكوريا الشمالية، وفي حرب السويس (1956م)، عبر التحالف البريطاني الفرنسي «الإسرائيلي» ضد مصر، أو الحرب «الإسرائيلية» على دول الطوق العربي (1967م)، أما حروب العصابات فهي عندما يتمرد شعب على سلطة محتلة فيحاربها ويواجهها بالعنف، مثلما حصل في حرب التحرر الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي (1954 – 1961م)، وحرب التحرر في فيتنام من الاحتلال الأمريكي (1955 – 1975م) وغيرهما.

وهناك شبه إجماع في أوساط الفكر الإستراتيجي الأمريكي مفاده أن الحروب مرت بثلاث مراحل سابقة، وأنها دخلت اليوم مرحلتها الرابعة، التي اصطلحوا على تسميتها حروب الجيل الرابع، ولا شك أن ما نشهده من صراعات اليوم في سورية والعراق وليبيا، وقبلها في مصر وتونس، والصراعات التي سجلتها الثورات المتألقة الألوان (الصفراء في الفلبين عام 1986م، واللازودية في تشيكوسلوفاكيا عام 1989م، والوردية في جورجيا عام 2003م، والبرتقالية في أوكرانيا عام 2004م، والزنبقية في قرغيزستان عام 2005م، وثورة الأرز الخضراء في لبنان عام 2005م، وثورة الجينز في بيلاروسيا عام 2006م، تعكس مظاهر حروب الجيل الرابع)، وتشير إلى نتائج مثل هذا التفكير المكثف.

ويرى المؤلف أن الحلف الأطلسي طور طرائق خلاقة لإضعاف الغريم، مثل تحريك الجماهير ضد حكوماتها في اعتصامات سلمية متمردة، أو تحريض الجماعات المحلية ضد بعضها، أو تسليحها وإطلاقها في عمليات محلية بينية، في مجتمعات كانت تتعايش في كل هذه الفئات من قبل، ويرى المؤلف أن صراعات الجيل الرابع التي لا تزال تعصف بمناطق كثيرة من العالم بما فيها منطقتنا العربية، قد وصلت بدورها إلى حدود إمكاناتها.

صراعات الجيل الخامس

يرى المؤلف أن كل العناصر تهيأت لدخول عصر صراعات الجيل الخامس، وأن على ذوي المسؤولية الاستعداد لها، فقد تغيرت طبيعة أنظمة الحكم، ومعها التكنولوجيات التي تسارع وقع التقدم فيها، وصار بإمكان مجموعات صغيرة أن تتحدى دولاً أكبر منها، بكلفة زهيدة وفاعلية مؤثرة.

والأهم من ذلك كله أن البشر أنفسهم قد تغيروا، فصارت قدراتهم أوسع ومعارفهم أعمق ومطالبهم أكبر، وأن كسب رضا الشعب لم يعد بالسهولة نفسها مثلما كان في السابق، ولم يعد ظلم الناس ممكناً مثلما كانت عليه الأوضاع حتى اليوم، فقدرتهم على الرد عالية، حتى لو كان الظالم دولاً عظمى، هذا الصنف من القدرات يتخطى آفاق صراعات الجيل الرابع، ويأخذنا حتماً إلى جيل جديد من الصراع لم يعرفه العالم من قبل.

التكنولوجيا والسلطة

يرى المؤلف أن السلطة القوية المركزية الواضحة المعالم، التي كانت تتمثل بالملك أو الأمير أو الإمبراطور في القرن التاسع عشر ذهبت إلى غير رجعة، كذلك حال السلطة الخارقة التي كان يتمتع بها القادة الكبار – مثل «روزفلت»، و«تشرشل»، و«ديجول»، و«كندي» في القرن العشرين – كلها تلاشت ثم اختفت من ساحات السلطة الحديثة، والذي حصل منذ تلك الفترة أن طبيعة السلطة تأثرت بالتحولات التي أتاحتها التكنولوجيا؛ مما جعل تلك السلطة أقل سطوة وأكثر محدودية.

ومن نتائج هذا التحول أنه يتيح فرص التمرد على السلطة، إلا أنه أيضاً يتيح لها ولغرمائها إشاعة الفوضى في الدول الأخرى، ولهذه الإمكانيات مفاعيل إستراتيجية، فقد ثبت من نجاح تقنيات حروب الجيل الرابع أن قدرة السلطة الدكتاتورية تقلصت بشكل بين، كذلك فإن سلطة رؤساء الدول الكبرى لم تنجُ من هذا التأثير، مثلما رأينا في مظاهرات احتلال «وول ستريت» في الولايات المتحدة، واستفزازات المعارضة في موسكو، أو حتى مظاهرات هونج كونج.

العولمة والفاعلون الجدد

يشير المؤلف إلى حقيقة مهمة؛ وهي أن التكنولوجيا التي استحضرت العولمة وسهلت على بعض الدول بسط نفوذها خارج حدودها، سمحت، في الوقت نفسه، لمجموعات تأثير مختلفة بالتمكن من مستوى النفوذ نفسه (الفاعلون الجدد من غير الدول)؛ مثل اللوبيات والمؤسسات المالية والصناعات الحربية وغيرها، فقد استطاعت السيطرة على أسواق لم تكن موجودة من قبل، وعلى جانب الصناعات الكلاسيكية التي تعود العالم عليها كصناعات النفط والحديد والنسيج فقد استطاعت شركات جديدة السيطرة على قطاع المواصلات والمعلومات وغيرها.

ومن جملة خصوصيات هذه الشركات أنها فتحت أبواب دول كثيرة، وتغلغلت فيها، وسيطرت على معلوماتها ومواصلاتها، وأصبحت جزءاً من وسائط السلطة التي تملكها الدولة، تحتاج إليها دولتها أكثر من حاجتها هي إلى الدولة، ومن نتائج هذا التمكن استلابها (مراكز التأثير هذه) قدرة القرار؛ أي السلطة من الدولة، وذلك في ميدان اختصاصها؛ فأصبحت مشاركة في الحكم دون أن تنتخب أو تعين، لا يعارض تأثيرها أحد.

فالقرارات التي تؤخذ في الكونجرس الأمريكي والبرلمان الأوروبي مثلا يصوغها في أكثر الأحوال مركز تأثير معين؛ مثل لوبي النفط أو لوبي المواصلات الهاتفية، وأصبحت القرارات التي يتخذها البرلمان بمبادرته وصياغته واستقلاليته حالات استثنائية.

العالم في خطر

يرى المؤلف أن التخلف الناتج عن الهوة المعرفية بين الأمم والشعوب ذهني صرف، إلا أنه يؤثر في مستقبل بلد بكامله، يكفي أن تكون القيادة غير واعية لتطورات العالم المحيط بها حتى تصبح عرضة للأشراك والفخاخ المنصوبة لأغبياء السياسة، لم يعد هناك مجال للخطأ، فثمن الخطأ ضياع كرسي الحكم، وبسرعة قياسية.

إلا أن العالم أصبح في الوقت نفسه أكثر عرضة للخطر، فقد أصبح بإمكان دويلات صغيرة أن تتمكن من فهم التكنولوجيا وأن تتحكم في بعض أوجهها، وربما أصبحت هذه الإمكانية متاحة أيضاً لمجموعات سياسية أو عسكرية، أو حتى إجرامية، فأنابيب النفط والغاز معرضة للتعطيل حالما تقرر أي مجموعة من هذه المجموعات تخريبها، وكذلك فإن تداعيات قطع خطوط الألياف البصرية أو تعطيلها دراماتيكية وفتاكة، والأكيد أيضاً أن كلفة إحداث الأعطال لا تقارن بكلفة الضرر الذي تسببه ولا بكلفة إصلاحه، وهي بلا شك لا تقارب كلفة محاربتها.

وهذا ما يؤكده المؤلف في الفصل الرابع؛ إذ يشير إلى أننا في عالم جديد مترابط، تنخفض فيه قدرة الدولة وسلطتها بشكل تدريجي، وأكيد ترتفع نسبة المخاطر فيه بسبب ازدياد هشاشة الحكم في دوله، وأهم من ذلك أن هيبة الدولة التي تملك حصرية العنف في البلد قد نقصت، ومصداقية عنفها وهيبتها قد تقلصت.

ويشير إلى أن التكنولوجيا تمثل تقدماً عظيماً، وأنها في الوقت ذاته تحمل معها أخطارها، وليس من الواضح حالياً ما إذا كانت هناك طرائق لتفادي هذه الأخطار أو احتوائها، لا في الدول الصناعية ولا المتخلفة، وهذه هي طبيعة صراعات الجيل الخامس التي عرضها المؤلف في الفصل السادس من الكتاب.

والأخطار هذه متعددة؛ فأنظمة الحكم الهشة في الدول الأقل تقدماً معرضة للتأثير السلبي والإيجابي بشكل لم تعهده من قبل، فهي لا تستطيع الاستمرار في إهمال هذه الاعتبارات كلها، ولا أن تتجاهل مطالب الناس، ويرى المؤلف أن إمعانها في الجهل (الناتج عن التخلف)، أو التجاهل (الناتج عن الاستهتار بالمشكلات) يخفف من قدرة أنظمة الحكم على الاستمرار، كذلك فإن الدول الكبرى لن تستطيع أن تستمر في هضم مصالح الشعوب الصغيرة ولا في ظلمها وابتزازها، ما دام بين هذه الشعوب من يستطيع أن يستفيد من تسهيلات التكنولوجيا، وهي متاحة بسهولة للتمرد على الظلم.

إلا أن الخطر الأكبر يكمن في التنظيمات الإجرامية التي تمتلك إمكانيات مادية هائلة في كثير من الأحيان، وترغب في توسيع إطار عملها وحمايته، فهي قادرة على ابتزاز الدول الكبرى والمثابرة على تقطيع نفطها وغازها ومواصلاتها وأليافها البصرية حتى ترضخ لمطالبها، ومثل هذه التنظيمات موجودة للأسف على الساحة الدولية.

التنظيمات السياسية

وفي الفصل السابع، يتوقع المؤلف أن تصبح التنظيمات السياسية المستقبلية انتقائية بدل أن تكون شعبية كما نعرفها اليوم، تستهدف حشد الأصوات أو تنظيم المظاهرات، وسيكون أعضاؤها في مستويات ثقافية عالية، كما أنها قد تكون في كثير من الأحيان عابرة لحدود الدول وقادرة على اختراقها.

وقد تكون هذه التنظيمات «حركات تحرر» ضد الاحتلال أو الظلم، أو حركات تمرد ضد الدكتاتوريات المحلية، أو قد تكون أيضاً «أدوات تدخل» تستعملها الدول ذات الطموحات الإمبريالية أو بكل بساطة مؤسسات الإجرام العادية.

وختاماً؛ يقول المؤلف: إن القناعة التي اجتمعت في ذهنه تشير إلى الصعوبة الشديدة في الانتقال من حالة التخلف إلى حالة أخرى أفضل شأناً، فالمشكل هو مشكل ثقافي حضاري، ولا يمكن لحلوله أن تشترى مثلما تشترى السيارات وأدوات التجميل.

والخلاصة التي يحشدها المؤلف في فصول الكتاب هي محاولة إثبات أن العين لديها القدرة على مقاومة المخرز إذا تسلحت بالعلم والتكنولوجيا والمعرفة والقيادة والمثابرة على ذلك، والتخلي عن اليأس والانعتاق من ثقافة الاستسلام.

Exit mobile version