المستشرقون.. ونظرية التربية والأخلاق في الإسلام

لا يزال التراث الإسلامي، والمكون الأخلاقي والفكري للحضارة الإسلامية، يثير اهتمام الغرب، في ظل إدراكهم واعترافهم – الذي يظهر جليًّا في الكثير من كتابات المنصفين منهم – بالدور الذي مارسته المدارس الفكرية والعلوم التطبيقية التي أسس لها العلماء العرب والمسلمين، وانفردوا ببعضها انفرادًا كاملاً، مثل علم العمران والاجتماع، وعلوم البصريات، وغير ذلك.

ولعل أهم ميراث قدمته الحضارة الإسلامية إلى العالم، ودُوِّنَ باللغة العربية، هو ما تركته الحضارة الإسلامية في مجال الأخلاق والتربية، وهو المجال الأهم الذي تنهض على أسسه الحضارات كافة، مهما كانت انتماءاتها الدينية أو الأيديولوجية.

وإدراكًا لذلك، وفي القرون التي تلت بداية ما يُعرف بعصر التنوير في أوروبا؛ زاد الاهتمام في الغرب بفحص النظرية الأخلاقية التي وضعت الدولة الإسلامية – على اختلاف مسمياتها – فوق قمة هرم القوة والسيادة في العالم، لقرون طويلة.

وكان من بين أهم الأركان التي بَنَتْ عليها المدارس والمذاهب الأخلاقية الغربية أسسها، واستقتها من الحضارة الإسلامية، قيمة التسامح الديني والمساواة، والتي اعتبرها السير توماس ووكر آرنولد؛ أحد أهم مؤسسي مدرسة الدراسات الاستشراقية، في كتابه “الدعوة إلى الإسلام” الذي نشره عام 1896، العامل الرئيسي وراء انتشار الإسلام وتراجع المسيحية في فترة ما قبل العصور الوسطى، وحتى عصر التنوير الذي بدأ منذ القرن السابع عشر الميلادي.

وهو ذات ما ذهب إليه المستشرق ويلفريد سكاون بلنت، الذي ذكر بأن أحد أهم أسباب انتشار الإسلام، هو الجانب الأخلاقي.

وذكر في كتابه المهم “مستقبل الإسلام” الذي وضعه عام 1882م، ونشره في العام التالي، أن “الإيمان بالوحي السماوي الذي نزل على الأنبياء خاتمهم محمد”، وأن هذا الوحي “ليس عقديًّا فقط، بل وحي وممارسة وتطبيق وقاعدة كونية حياتية لكل البشر في السياسة والتشريع والمذاهب والأخلاق”.

ومن بين المستشرقين المعاصرين الذين أَوْلَوا هذه القضية اهتمامًا، البروفيسور سيباستيان جونتر، أستاذ كرسي العربية والدراسات الإسلامية في جامعة جوتنجن الألمانية (التي تعلم فيها)، الذي صدرت له مؤخرًا دراسة مهمة بعنوان “آراء العلماء المسلمين القدماء في نظرية التربية”، ونُشرت بالعربية في العدد (51) من فصلية “التفاهُم” المُحَكَّمَة التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية العُمانية.

وفي هذه الدراسة، يعيب جونتر على المستشرقين والعلماء الغربيين الحاليين، إهمالهم في القرن الأخير، لدراسة التراث الإسلامي في مجال الأخلاق والتربية.

وضم جونتر في دراسته هذه، منظومة التعليم في الدولة الإسلامية، في عصورها المختلفة، وأكد على أن اهتمام المسلمين بالتعليم، كان أمرًا أصيلاً في المنظومة التربوية والأخلاقية في المجتمعات الإسلامية في قرون نهضة الأمة الإسلامية.

كما دمج في هذه المنظومة كذلك، الفنون في الدولة الإسلامية والمجتمعات التي ضمتها، وخصوصًا الآداب المختلفة المكتوبة باللغة العربية (الفن في تعريفه الاصطلاحي، هو كل إبداع إنساني، ويشمل ذلك الآداب المختلفة، بجانب “الفن” بمفهومه الشائع لدى العامة، من رسم وموسيقى وفنون الأداء المختلفة، مثل المسرح).

وقال الكاتب في هذا الصدد: إنه ثمَّة آثار وأمثال وحِكَم عدة تظهِر علو شأن المعرفة والتربية في الإسلام، علاوة على الشعر والنثر والآداب في الشرق الأوسط، وهو محتوى شديد الوضوح في المؤلفات العربية في القرون الوسطى.

وفي إطار دراسته التي توسع فيها في رصد المكون الأخلاقي والمنظومة التربوية في الأدبيات الإسلامية، ولدى علماء المسلمين، وشمل فيها التعليم والآداب، تناول بالنقد والتحليل مجموعة من أهم الكتب التي وضعها علماء المسلمين في عصور الدولة الإسلامية المختلفة.

واختار في هذا الصدد، كتابات خمسة من أهم علماء ومفكري الأمة، ممن عاشوا في الفترة ما بين القرن الثامن وحتى القرن الحادي عشر الميلادي، وهي الفترة التي توازي العصور المظلمة في أوروبا، وفترة سيادة الدولة العباسية.

وراعى فيهم أن يمثلوا مختلف أقاليم الدولة الإسلامية، من المغرب العربي، وحتى بلاد ما بين النهرين وآسيا الوسطى.

فركَّز في البداية، على التعليم وتطور المناهج في عصور الإسلام المتقدمة، من خلال كتاب العلامة، محمد بن سَحْنُون القيرواني الذي عاش بين القرنَيْن الثامن والتاسع الميلاديَّيْن، والمعروف باسم: “آداب المُعلِّمين”.

وكان من بين أهم ما لفت انتباه المستشرق جونتر في تراث ابن سَحْنُون، هو كيف أنه، وهو الفقيه المالكي – أي في الأساس والأصل عالم شريعة – قد وضع في كتابه هذه، وكتب أخرى له، منظومة متكاملة في التعليم، يمكن أن يتم تطبيقها في العصر الحديث.

وقدم المستشرق في رؤيته هذه، نظرة على نظام التعليم في المدارس الإسلامية في هذه الفترة، ورأى فيها إطارًا تعليميًّا متطورًا؛ حيث إنها بجانب العلوم الشرعية، شملت الآداب المختلفة، واللغة، بالإضافة إلى الحساب والأخلاق، وقال: إنها من العلوم التي كان يتلقاها حتى التلاميذ في المرحلة السِّنِّية التي توازي المرحلة الابتدائية في وقتنا الراهن.

كما تناول تجربة العلامة والفيلسوف المسلم الأشهر، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الذي عاش في ذات الفترة التي عاش فيها ابن سَحْنُون تقريبًا.

وركز جونتر في نظرته على أعمال الجاحظ، على ما طرحه من أساليب جديدة في التربية والتعليم والآداب.

وقال: إن الجاحظ استبدل منهاج الحفظ والتلقين، بمنهاج آخر متطور، يقوم على أساس الاستنباط والتعليل، وهو ما يوازي المدرسة العقلية في الفلسفات اليونانية والإغريقية القديمة.

وبينما ركَّز ابن سَحْنُون في كتابه “آداب المُعَلِّمين”، على الخصال المطلوب توافرها في رجل التربية والتعليم، مثل الصبر والتواضُع وحب العمل مع الأطفال؛ فإننا نجد أن الجاحظ في كتابه “كتاب المُعَلِّمين”، يؤكد على ضرورة مراعاة تطوير المَلَكَات العقلية للأطفال، من خلال منظومة من المناهج تشمل حتى الرياضات الذهنية والبدنية المختلفة، مثل الجدل والكلام، والرمي، وكذلك الفنون والآداب المختلفة.

ولاحظ أن هناك أوجه تشابه بين ما قدمه ابن سَحْنُون والجاحظ في كتابَيْهما، فيما يتعلق بمرتكزَيْن أساسيَّيْن، الأول، هو تطوير القدرات الشاملة للإنسان منذ مراحل التعليم الأولى، والثاني هو المرتكز الأخلاقي.

بجانب هذين النموذجَيْن، تناول المستشرق سيباستيان جونتر في دراسته المهمة هذه، ثلاثة نماذج أخرى – كما تقدَّم – من القرون من التاسع وحتى الحادي عشر الميلادي؛ حيث درس أفكار كلٍّ من الفارابي وابن سينا وأبي حامد الغزالي.

فقدم قراءة في “رسالة البرهان” للفارابي، وكتاب “السياسة” لابن سينا، و”إحياء علوم الدين” للغزالي، الذي وصفه بأنه “أحد أعظم بُناة الفلسفة التعليمية الإسلامية وقيمها الأخلاقية”.

وقال: إن ذلك يعود إلى أن فهم الغزالي للتربية وللتعليم كان على أساس أنهما “إرشادٌ للفتيان وليست تأديبًا لهم”، وقال: إن ذلك “بات مبدأً تربويًّا ذائعًا في مؤلفات القرون الوسطى في التعليم الإسلامي”.

وأشار الكاتب الألماني إلى أن الفلاسفة والعلماء المسلمين، بشكل عام، ومن خلال النماذج الثلاث السابقة، كان من الواضح عليهم التأثُّر بالفلسفات القديمة الوضعية، وخصوصًا اليونانية، ولكن مع صبغها بالصبغة الإسلامية اللازمة مراعاة لاعتبارات الشريعة في تقييم أفكار هذه الفلسفات، والتعامل معها.

وقال: إن كلاًّ منهم بالرغم من أنه قدم تفاسير عدة لنظرية التربية، وللعملية التعليمية، وخصوصًا مع الأطفال؛ حيث اعتبروا المرحلة التي نطلق عليها في الوقت الراهن، المرحلة الابتدائية، هي أهم مرحلة تعليمية؛ كلٌّ من زاويته (الفارابي كان في الأساس مفكرًا وفيلسوفًا، وابن سينا كان طبيبًا، والغزالي كان مفكرًا وفقيهًا)؛ فإنهم اتفقوا على حاكمية مسألة التربية الأخلاقية وتهذيب الأخلاق لدى النشء في إنجاح العملية التعليمية وإصلاح حال المجتمع.

وهنا نقف وقفة مهمة مع ثلاثة أمور كان لها الكثير من الأهمية لدى جونتر.

الأمر الأول: هو أنه أكد أن الشريعة الإسلامية، سواء القرآن الكريم، أو الحديث النبوي الشريف؛ كانت الرافد الأهم والأصيل الذي استقى منه العلماء الخمسة الذين اختارهم كنماذج لدراسته، نظرياتهم وتطبيقاتهم في مجال التعليم، والتربية والأخلاق بشكل عام، وأنها لم تمنع عنهم الأخذ من الفلسفات القديمة، وخصوصًا اليونانية.

النقطة الثانية: هو تركيز جونتر على أن التدوين تم باللغة العربية، حتى لدى ابن سينا الذي كانت لغته الأصلية هي الفارسية؛ إلا أنه دوَّن أفكاره في هذه المجالات باللغة العربية.

الأمر الثالث: كان أنه أكد أن أفكار هؤلاء العلماء وغيرهم من علماء المسلمين، كان لها أبلغ الأثر في تطوير أنظمة التعليم والتربية في الغرب نفسه، ونقل الغرب من العصور المظلمة، إلى عصر التنوير.

وضرب على ذلك نماذج من علماء التربية والأخلاق الغربيين، مثل المعلم إيكهارت (عاش في القرن الرابع عشر الميلادي)، وفيليب ميلانكتون (القرن الخامس عشر الميلادي)، وكانا أكثر تأثُّرًا بالفارابي، والمصلح التشيكي المعروف، يوهان أموس كومينيوس (القرن السابع عشر)، والذي يُطلَق عليه اسم “أبو التربية المعاصرة”.

ودلالة النقاط الثلاث؛ هي أنها ترد على أباطيل عدة في وقتنا الراهن، تتشارك فيه أصوات عربية ومسلمة – للأسف الشديد – تقول بأن الشريعة الإسلامية واللغة العربية، أحد أسباب وعوامل تخلف الأمة، وتدعو إلى القطيعة الكاملة مع التراث الإسلامي، وهو ما أكدت الدراسة على خطئه.

المصدر: موقع “بصائر تربوية”.

Exit mobile version