كيف صنع الإسلاميون الهوية في تركيا؟

تركيا اليوم ليست تركيا الثلاثينيات والثمانينيات، وليس السبب في ذلك هو فوز حزب ما في الانتخابات، ولكن تركيا أعادت اكتشاف هويتها السياسية بعد عقود من الإكراه على السير في طريق غير طريقها، غير أن هذا التحول الكبير في الهوية شارك فيها الإسلاميون بكثافة وبكافة أطيافهم.

وفي هذا الكتاب “الإسلاميون والسياسة التركية: دراسة في الهوية السياسية الإسلامية في تركيا” تأليف د. محمد حقان يافوز، تناول متوسع لدور الإسلاميين في بناء الهوية السياسية التركية، والمؤلف أكاديمي تركي متخصص في العلوم السياسية، واستغرق منه هذا الكتاب سنوات قضاها في تجميع مادته من خلال الكثير من المقابلات مع الفاعلين في الحركات الإسلامية التركية، وفي متابعة ورصد أنشطة الإسلاميين الأتراك.

ولعل أهم ما يميز تجربة الإسلاميين الأتراك أنهم استهدفوا منذ البداية المجتمع محاولين إحداث تغيرات ثقافية جذرية في وعيه، وكانوا على يقين أن الثقافة مفتاح لا يستعصي عليه باب مغلق، وهو ما أتاح لهم مجالاً واسعاً من الحركة قادت بعد جهد واع إلى وصولهم لسدة الحكم مستندين إلى قوى كبيرة في المجتمع ليس من السهل تنحيتها، لذا كان هدفهم الأول الروح والعقل وليس صندوق الاقتراع وكرسي الحكم.

كذلك فإن الإسلاميين الأتراك نسجوا من أخطاء علمانية كمال أتاتورك الإقصائية التسلطية طريق عودتهم من جديد إلى ساحة الفعل السياسي، حيث اقترنت علمانية أتاتورك المتطرفة بالفساد والاستبداد، لذا ربط الإسلاميون الأتراك الإسلام بقيم الحداثة والديمقراطية، وبذلك كان الإسلاميون حلماً يراود كثير من الأتراك في النهوض وإنشاء دولة الديمقراطية والتقدم والإنسان، وهي أحلام استطاع الإسلاميون تجسيدها بأفكارهم قبل تحويلها إلى مشروع سياسي بعد فوزهم بالسلطة عام 2002م.

الكمالية.. وأخطاء بناء الهوية

نشأت الجمهورية التركية عام 1923م، ومنذ ذلك التاريخ كان المسار العلماني التركي شديد الغلو، ومعانداً للهوية الإسلامية، فالكمالية كانت تقدم حقائق مطلقة لا تسمح بالنقاش أو الجدل أو الاختلاف، ورغم أنها قامت بتحديث حقيقي في تركيا فإنها لم تستطع تحديث نفسها، فأصبحت سلطوية استبدادية، بعد فشلها في المزاوجة بين الديمقراطية والحداثة، وذلك بسبب إيمانها الكامل بصدارة الدولة في عملية التغيير، واعتقادها أن الهوية تهدد تجربتهم العلمانية، لأنها تجلب الإسلام من جديد تحت دعاوى الهوية.

ويؤكد حقان أن تاريخ تركيا المعاصر هو صراع بين الكمالية والديمقراطية، فالنخبة العلمانية بررت تسلطها وعرفت نفسها من خلال موقفها المعادي من الإسلام الذي وصفته بالرجعية، وأدى ذلك إلى تسييس مبكر للإسلام، وساعد على تحويله إلى مصدر إلهام للكثير من المهمشين والحالمين بالديمقراطية، خاصة مع انخراط النخبة العلمانية في الفساد والدكتاتورية.

وفي ظل محاربة الكماليين للإسلام، تنامى غضب شعبي، قام حزب الشعب الجمهوري (الكمالي) الحاكم بتهدئته، فأصدر عام 1947م قرارات اختص بعضها بالسماح بحضور الدين في بعض المقررات الدراسية، وإنشاء عدد من مراكز الأئمة، والسماح لعدد محدود بأداء فريضة الحج.

لكن جاء العام 1950م ليعطي مساحة حضور أوسع للإسلام بعد انتصار الحزب الديمقراطي المنافس على الكماليين، وهنا تنبه الأتراك إلى قوة وتأثير أصواتهم الانتخابية، فاستخدموها لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، فلم تعد السياسة منذ ذلك التاريخ عملية إدارية تنفيذية، ولكنها صارت مرتكزة على فكرة المشاركة، وهنا بدأ الإسلام يظهر مجدداً في المجال العام، خاصة بعد إلغاء قانون منع الأذان باللغة العربية عام، وظهور موجة عداء لكمال أتاتورك، عبرت عن نفسها في هجمات الصوفية على تماثيل أتاتورك واعتبارها وثنية، وحكم وقتها بالسجن على كمال بيلافوغلو، زعيم الطائفة التيجانية 15 عاماً.

ومع تصاعد المد اليساري في تركيا في الخمسينيات بدأت الدولة تغير نظرتها للدين، فلجأت إليه كنوع من الترياق لمواجهة الحركات اليسارية والشيوعية، ومع عام 1960م أصبحت الكمالية أيديولوجية للأمن القومي التركي للمحافظة على نقاء الدولة الأيديولوجي ضد الهويات الأخرى، وأدى هذا إلى عداء هويات متعددة مع الكمالية، وظهور قوى اجتماعية ترغب في اختراق الدولة من خلال مؤسسات الدولة نفسها، فزادت عزلة الدولة عن المجتمع، وأخذت تعبيرات الغضب الاجتماعي في تلك الفترة تستعير مفرداتها من القاموس الإسلامي.

والمفارقة أن العلمنة في تركيا، وبشكل غير مقصود، قامت بإعادة صياغة الهوية الدينية والثقافية التي كان من المفترض أن تقضي عليها، وكان نجاح النخبة الجمهورية بقيادة تورجت أوزال في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في الثمانينيات محفزاً على دخول قوى اجتماعية كانت تعاني من الإقصاء إلى حقل المشاركة السياسية، وكان بعض هؤلاء من ذوي الخلفيات الإسلامية، وكانت تلك نقطة التحول في إعادة صياغة المشهد السياسي والفكري في تركيا.

ومنذ الثمانينيات أصبحت الكمالية هي النظام الأمني الذي ينتج عدم الأمن للمواطنين من خلال عزلة الدولة عن الأفكار الجديدة، وخلقت تجربة تركيا في التغريب شرعيتين متنازعتين، برلمان منتخب، ونخبة عسكرية وبيروقراطية غير منتخبة ومسيطرة.

الإسلاميون الأتراك والمجتمع

يؤكد حقان أن الحركات الإسلامية التركية لم تكن حركات تقاوم الدولة وتسعى لاحتوائها، ولكنها كانت حركات أكثر تركيزاً واستهدافاً للمجتمع، فعملت على تدعيم المجتمع المدني من خلال إعادة رسم الحدود بين الدولة والمجتمع، ومحاولة صنع ميثاقها الفكري والأخلاقي الخاص، ليس سعياً للحلول مكان الدولة العلمانية القائمة، وإنما نحو إعادة تكوين صورة الحياة اليومية للأتراك، فهي التي صاغت كثيراً من تصورات الطبقة الوسطى لتجعلها متوافقة مع الحداثة؛ لذا صنعت فاعلين جدداً من المفكرين ورجال الأعمال والعلماء والفنانين، فظهرت هويات وأساليب حياة جديدة عبرت عن نفسها في المجال العام؛ وهو ما دفع الإسلام إلى صدارة النقاش العام، ونتيجة لهذه الإستراتيجية أصبح التمايز قائماً بين الإسلاميين وغيرهم في الحضور في الطبقات الفاعلة في المجتمع، تلك الطبقات أخذت ترسم مساحات وعي مختلف حول تصورها عن الحياة والسعادة، وأخذ الأتراك يعيدون تعريف هويتهم السياسية.

ويحسب للإسلاميين الأتراك أنهم لم يشغلوا الجدل العام في تركيا حول استعادة الخلافة أو الدولة الإسلامية أو تطبيق الشريعة، ولكنهم دفعوا بمساحات الجدل العام نحو بناء الهوية المرتبطة بالحداثة والديمقراطية والتقدم وتحسين مناخ الحريات ومعاش الناس، فاجتذبوا الكثير من الأتراك إلى أفكارهم التي كانت تستبطن الإسلام في طرحها.

الإسلاميون وصناعة الوعي

يؤكد حقان أن الإسلاميين الأتراك نجحوا  نجاحاً متميزاً في صياغة الوعي الثقافي التركي، فقدموا طبقة جديدة من الإعلاميين والباحثين والمفكرين يختلفون تماماً عن العلماء الدينيين التقليدين في تركيا، وهو ما أتاح لهم القدرة على التنافس مع العلمانية التركية المسيطرة، فوجود الإسلاميين كمتعلمين ومثقفين في الجامعات وفي السوق وتكون برجوازية إسلامية في المجال العام أدى إلى إضعاف الدعاية الكمالية في تقديم الإسلام كمعاد للحداثة.

ويشير حقان أن المدارس ووسائل الإعلام أدت دوراً مؤثراً في تسييس الهوية الإسلامية، فقد كان توافر المال للكماليين عائقاً أمام قدرة الإسلاميين على المنافسة، إلا أن الإسلاميين تجاوزوا هذه العقبة عام 1980م حيث نشأت طبقة رأسمالية إسلامية في أعقاب السياسات النيوليبرلية للرئيس تورجت أوزال، وتمكنت طبقة رجال الأعمال الإسلاميين من صنع بدائلها الخاصة في مجال الثقافة والإعلام، فظهرت نخبة ثقافية وإعلامية أعادت حضور الإسلاميين في الساحة التركية، حتى الطرق الصوفية التركية كونت مجلات، ووسائل إعلام خاصة لضمان قدرتها على التواصل، فمع عام 1994م وجد في تركيا (525 قناة إذاعية وتلفزيونية خاصة) كان نصيب الإسلاميين منها (19 قناة تلفزيونية) و(45 قناة إذاعية)، وكان بعضها لها حضور شعبي كبير.

وفي عام 1983م سيطر الإسلاميون في تركيا على سوق النشر من حيث عدد الكتب المطبوعة، وكانت تلك الدور تحقق أرباحاً كبيرة، تعيد ضخها مرة أخرى في الكتاب، فنشأت مجموعة من المفكرين الإسلاميين قادرة على الكتابة المميزة خارج إطار سيطرة الدولة، وهؤلاء أعادوا بناء وصياغة الهوية السياسية الإسلامية في تركيا.

وقد كثف هؤلاء المفكرون بعضاً من نضالهم من أجل حرية التعبير والصحافة وحرية الرأي، وظهرت مواقف مبكرة للإسلاميين في مجال الانفتاح الفكري وحرية التعبير ونصرة قضايا الحريات، فأعادوا وضع الإسلام كمكون أساسي للهوية التركية، خاصة وأن كتاباتهم كانت تعالج القضايا السياسية المعاصرة، من منظور حضاري يستبطن الرؤية الإسلامية، وهو ما أتاح لكتاباتهم الانتشار وسط الطبقة المثقفة من الجامعيين، ومن الغريب أن صار لقب مفكر إسلامي ترمز لأولئك المفكرين المنادين بالحداثة ويمتلكون مهارات نقدها.

لقد أدت محاولات الإسلاميين للتحول الواعي ذاتياً إلى معاصرين وحداثيين إلى إنتاج صورة جديدة للمفكر داخل الحركة الإسلامية التركية، وتمكن هؤلاء من محاولة تقديم إجابات ومعالجات في اشتباك محتوى الإسلام مع القضايا السياسية والاجتماعية المعاصرة.

كان الإسلام بالنسبة للمفكرين الإسلاميين ليس مخزناً للقيم الروحية فقط، ولكنه شريك أيديولوجي في بناء الهوية التركية الحديثة، ورأوا أن تحويل عقل ووعي البشر العاديين يمكن أن يحول المجتمع، وهذا الفهم يعاكس فهم المصلحين الأتراك في عصر التنظيمات العثمانية الذين كانوا يرون أن تحويل المجتمع يتم من خلال إصلاح النظام الإداري.

ويلاحظ أن المفكرين الإسلاميين تمكنوا من خلال إنتاجهم الأدبي والفكري أن يتجاوزوا عمليات أدلجة الإسلام الضيقة، وتمكن هؤلاء من غرس مشاعر إنسانية في نفوس الأتراك تستند إلى جذر ديني، ورسمت تصوراً لمجتمع أكثر إنسانية من المجتمع العلماني في ظل سيطرة الكماليين على السلطة، لقد أجبر الاضطهاد هؤلاء المفكرين الإسلاميين على التأكيد واكتشاف الجوانب الروحية والإنسانية في الإسلام، والإيمان بقدرة الفرد على التغيير المجتمعي.

ومع انتشار هؤلاء في الصحافة والإعلام بدأت مواجهات فكرية للعلمانية والإلحاد على مستوى الفكر، وأدت الصحافة دوراً في الحفاظ على الهوية السياسية الإسلامية وإعادة صياغتها ببعد فكري، فصار الإسلام مصدر إلهام وديناميكية، وكانت رسالة هؤلاء “الإسلام هو حضارتنا”، وأتاح لهم ذلك إعادة صياغة التاريخ العثماني باعتباره روح الحضارة الإسلامية، فلم يعد التاريخ العثماني قصة دولة انتهت، ولكن قصة حضارة مستمرة، وقصة مجتمع يجب أن تُحكى، ومزج هؤلاء باقتدار التراث بالحداثة وأدخلاهما في تكوين الهوية السياسية التركية بمهارة فائقة.

المصدر: “إسلام أون لاين”.

Exit mobile version