“قيامة أرطغرل”.. بين الحقيقة التاريخية والرسالة الضمنية

– سيرة «أرطغرل» الممتدة عبر المسلسل بها رسائل معينة تجاه محنة العالم الإسلامي

– لا قيمة لأرض مفتوحة بلا عمارة والشهادة في سبيل الله أكبر نجاح للغازي

– هناك رسائل شديدة الوضوح حول أهمية القيم والمبادئ والفروسية في وجدان شباب المجتمع

 

لقد أصبح الفن جزءاً لا يتجزأ من حياة المجتمعات قاطبة، وتأثيره في تغيير ثقافة المجتمعات وتقديم الأولويات وتأخيرها أصبح لا شك فيه، الفن صناعة تنفق عليها أنظمة أمولاً طائلة لاختراق الشعوب أو توجيهها وجهة ما، وتعمل على نشر ثقافات بعينها داخل الشعوب المحكومة.

حين برز فن التمثيل فإن العموم الغالب من الدعاة والعلماء قد وقفوا منه موقفاً حازماً ينحى إلى القول بحرمته، أو إقصاء الناس عنه سداً للذرائع وتجنباً لمشاهدة العورات، ولقد أعطاهم الفن من المشاهد والمواقف ما يساعدهم على آرائهم التي حملها مريدوهم عنهم.

لقد أصبح من الواجب المحتم اليوم البعد عن النزاع حول حِلّ الفن وحرمته، وضرورة السعي والعمل على تفتيت منظومته المترامية، إذ غدا هذا في الأوضاع الراهنة غير ممكن.

حين ننظر كيف تحول الشعر من قول شاعر الجاهلية:

فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ

فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ    

إذا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ

بِشِقٍّ، وَتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَوَّلِ

إلى أن جاء حسان بنفس الكلام ونفس القوالب الشعرية صبها في سياقات مختلفة وأهداف أخرى، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم له: «أجب عني اللهم أيده بروح القدس» (رواه مسلم)، لعلمنا أن تحويل الفنون لتكون خادمة لرسالة الدين ودرعاً حصينة وسلاحاً في وجه من يهددون الحصون شيء له سابقة.

كما أن الواجب اليوم أن ننظر للفنون ونحن نسمع لكعب رضي الله عنه وهو يقول بين يدي رسول الله وقد جاء معتذراً:

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلا أغن غضيض الطرف مكحول

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة

لا يشتكى قصر منها ولا طول

فتبسّط النفس سمة لا تفارق الطباع.. بالطبع ليس التعرض هنا لمسألة البت والفصل في التمثيل، بيد أن تحريك الأنظار تجاه الفن وتحويل نهره الآسن إلى ماء قراح أو طهور أصبح ضرورة لازمة.

في الشهور الماضية عرضت الشاشات المسلسل التركي «قيامة أرطغرل»، وكان عملاً باهراً، لا يمكن لأحد أن يغفل حجم الاهتمام والمشاهدة الذي حظي به، فهناك الملايين تتابع حلقاته بشغف وتتحدث عنه في مجالسها الخاصة، بيد أنه خضع لانتقادات عديدة من بعض من تابعه.

الإطار التاريخي والفكري

لا بد ونحن نسعى لبيان بعض الوجوه التي ينبغي أن تقال حيال هذا المسلسل من أن نضعه في إطاره التاريخي والفكري، وألا نغفل عن أمور يمكن لمن تأملها أن تزول لديه الإشكاليات التي أثارها المسلسل في نفسه، فالمسلسل عمل فني له متطلباته الفنية، التي تتجاوز أحياناً حدود الضبط الصارم للحوادث التاريخية، فلجوء كاتب المسلسل لبعض ما يخل بهذا هو من باب الضرورة التي استساغ مثلها الأدباء من الشعراء، حين نظموا أشعارهم ووقعوا من خلال بعض الأبيات في خلل نحوي أو بلاغي أو عروضي، الأصل ألا يقع فيه الشاعر، فلقد حاول اللغويون أن يجدوا مسوغاً لرفع «مجلف» في بيت الفرزدق الذي يقول فيه:

وعضَّ زمانٌ يا بنَ مروانَ لمْ يدع

منَ المالِ إلا مسحتاً أو مجلّفُ

قال ابن قتيبة: أتعب أهل الإعراب في طلب العلة، فقالوا وأكثروا ولم يأتوا بشيء يُرتضى، ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه، وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه هذا البيت، فشتمه وقال: عليَّ أن أقول وعليكم أن تحتجوا.

فشخصية الفنان والحدث الذي يجسده قد تتعارض مع قواعد الضبط التاريخي والقواعد الصارمة لقبول الأحداث، وما هي إلا من باب الضرورة التي تلحق بنظم الشاعر لقصيدته ليستقيم له بناء القصيدة، كما أن قصارى ما يطالب به الكاتب للعمل الفني ألا يحوله لأداة لتزوير التاريخ نفياً لما هو ثابت أو إثباتاً لما هو منفي.

كما أن هذا المسلسل هو في الأصل للمشاهد التركي والرجل التركي، فلا يلام من حصره في إطار الثقافة والمكان والعادات التركية.

مسألة أخيرة: أن الفارس والقائد التركي «أرطغرل» ليست حياته وجهاده غاية ينشدها القائمون على العمل، بل سيرته الممتدة عبر وقائع المسلسل كانت لإرسال رسائل معينة تجاه محنة العالم الإسلامي من جهة رعاة المسلسل، فإن سيرته لو كانت غاية فعنوان المسلسل يبعث الطمأنينة في قلب المشاهد منذ أول مشاهده، ففي كل موقف يتعرض له هناك يقين لدى المشاهد أنه سيتخلص منه ويخرج سالماً، لأن قيامته لم تتم بعد، حتى في أشد الظروف التي تعرض لها كالحبس والحكم بالإعدام، فالرسائل التي يبعثها هي الغاية، وليس ما يجسدها من وقائع، وإذا حاولنا أن نقف على تلك الرسائل فإننا نجده قد نجح بقوة في الحديث حول القضايا التالية:

أولاً: أهمية وجود الدولة في صيانة الحق، وأهمية دوران المجموعات القبلية وتمحورها حول الدولة، وعدم الخروج عليها ما كانت الدولة صالحة، حيث كانت قبيلة «سليمان شاه» (قايى) دائماً في حسها نظام القائد علاء الدين السلجوقي ودولته، لا تخرج عنها، ولا تحاول الثورة عليها، كما أنه جعل الخيانة أشد ما يعصف بالدولة وبالمكونات الصغيرة التابعة لها كالولايات والقبائل ذات العدد.

ثانياً: وضع المرأة في الدولة: أبرزَ المسلسل بشكل لافت للنظر مكانة المرأة في المجتمع – خاصة القبلي – وكانت أحداث المسلسل صناعة مشتركة بين الرجل والمرأة، فلم يتمحور حول الرجل فقط، بل شاركت المرأة في كل الأدوار والأطوار؛ بدءاً من رأس القبيلة إلى العاملة البسيطة، فهي ربة البيت، وهي القائدة البصيرة بالمكائد، وهي وسط النفير تقاتل بجسارة وحرقة حين يكون الهجوم عاماً على المجتمع من قبل خصومه، ثم هي الجاسوسة في وسط القبيلة، وفي قلب القصر، يجيد الخصوم توظيفها.

ثالثاً: قيمة العدالة ودور القضاء والأعراف في ترسيخها: لقد تكرر ذكر العدالة ومجتمع العدالة على ألسنة أبطال المسلسل بصورة لافتة، فهي غاية يجب السعي في اللحاق بها وترسيخها، كما نبه إلى أن العدالة هو مقصود إقامة الدولة.

رابعاً: الغزو والفتوحات: أبرز المسلسل أن مهمة الجندية في المجتمع لا تقتصر على التصدي فقط للخصوم المعتدين، وهو ما يعرف بجهاد الدفع، كما أن التوسع من خلالها ليس لكسب المزيد من الرقاع والبقاع، بل هي عمارة لكل شبر تطؤه أقدام الغزاة الفاتحين، وأنه لا قيمة لأرض مفتوحة بلا عمارة، وأن الشهادة في سبيل الله أكبر نجاح للغازي، بل جعل نفوس النساء تتوق لها كما الرجال، فالكل يسعى لها لا فرق بين المرأة والرجل في موقعه.

خامساً: مكانة الاقتصاد: أبرز المسلسل أهمية البناء الاقتصادي متجاوراً مع البناء العسكري والنظامي في تثبيت أركان الدولة، وأن ميدان الاقتصاد واحد من ميادين الجهاد، فالفقر أكبر عدو للنظام، ولا قيمة لدولة فقيرة.

سادساً: فكرة الأمة الواحدة: أكدت أحداث المسلسل وكلمات أبطاله فكرة الأمة الواحدة من المشرق للمغرب، وأن أبرز معالم هدمها هو الخيانات التي تنبع من أصحاب التطلعات الفارغة للمال أو السلطان.

سابعاً: مكانة العلم: اتخذ المسلسل من ابن عربي الشخصية الدينية المحورية في المسلسل نافذة لبيان قيمة استقامة العلماء، وكون استقامتهم أكبر معين للنظام القائم على الاستقامة والمضي في الطريق بلا كلل، ودور هؤلاء الصالحين في تبصر طريق الحق، لقد ساق ابن عربي حكايات كثيرة من القرون الأولى ومن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كمثال للاقتداء والتأسّي، كما أكد أهمية القراءة والتعلم وكونهما ضرورتين لمعرفة الصواب.

ثامناً: أكدت أحداث المسلسل ضرورة تقدير حجم خطورة العدو، وأهمية الاستخبارات وزرع الجواسيس داخل بناء العدو، وكونه سلاحاً مهماً في التعجيل بسقوطه.

كما كانت هناك رسائل شديدة الوضوح حول أهمية القيم والمبادئ والفروسية في وجدان شباب المجتمع، ودور الخيانة في توهين عرى الدولة، وضرورة الانتباه لأصحاب النفوس الرخيصة التي تبيع أمتها بعرض قريب، ظهرت مظاهر عديدة للشعائر داخل المسلسل، فتصدير الكلام بالبسملة والمشيئة والدعاء والصلاة الجماعية والفردية، والتعاون الأسري، والحرص على التلفظ بالشهادة عند الموت أو إعدام المسلم بتهمة الخيانة، وزيارة القبور، كما كان من أهم الجوانب الإيجابية الرسالة التي أرسلها بشأن توحد الأمة عند الجهاد وتركها للخصومات والصراعات الداخلية، فالقائد «غومش تيكين» الذي جاء ليسيطر على القبائل بالأساليب الرخيصة حين خرجت القبيلتان لملاقاة المغول كان من أوائل الزاحفين الرامين بأنفسهم داخل مفازة المغول، كما لم يغفل جانب زرع نماذج المثل العليا في نفوس الأطفال.

ورغم هذا، فالجوانب السلبية والرسائل غير السديدة كانت حاضرة في المسلسل، فمن ذلك:

1- دور القناعات في رسم طريق العدالة وتحويل مسارها، نشاهد تدخلاً سافراً في إنقاذ الوزير «شهاب الدين»، والقائد «أرطغرل»، اللذين ثبتت التهمة عليهما ثبوتاً قاطعاً أمام المحكمة، رغم كونهما غير متهمين وتهمتهما كانت تلفيقاً لئيماً من الخصوم، لكن الإعذار لهما شيء، وحكم القاضي شيء آخر، فحكم القاضي يمثل حكم الشريعة وهو واجب النفاذ، وهي مسألة مبسوطة في مظانها في كتب الفقه والأصول يشير لها العز بن عبدالسلام الذي كان يعذر الحلاج، أحد فلاسفة الصوفية الغلاة؛ لكنه قرر أن قتله كان صواباً حيث قال: «أعلم أن قتله قيام بالحدود ووقوف مع الشريعة، فإن من جاوز الحدود أقيمت عليه الحدود»، فالقناعات ينبغي ألا تتدخل في تعطيل الأحكام، لاختلاف نظر الناس للحق والحقائق، ولو فتح هذا الباب لما وقف عند ضابط، فنظرة الناس للعدالة متباينة.

2- أعطى المسلسل للمرأة دوراً لم يكن سائغاً أبداً، وهو دور الأم «هايماه» في صدارة المجلس وقيادة القبيلة بهذا الشكل، الذي لا يتوافق لا مع العرف القبلي الذي قد يرضى برأي المرأة من وراء ستار، ولا مع الحكم الشرعي المستقر عند جمهور أهل العلم.

3- نظرة المسلسل لقضية التعدد على أنها حل يلجأ له الرجل حين يتيقن عجز زوجته على الإنجاب، فهذا هو المبرر للزواج والتعدد، ولو أنه نقل صورة من بيوت الشهداء، ومعاناتهم نفسياً ومعيشياً لخرج من هذه المشكلة بنجاح بين المتابعات من النساء الرافضات لفكرة التعدد طبعاً لا ديناً.

4- كان دور ابن العربي يمثل إطاراً للنظرية الصوفية التي تعتمد على استشفاف الحقائق من خلف الأستار، وهذا واضح في نظراته للوزير «ناصر»، والقس «كلاوديوس»، والقائد المغولي الذي عالجه من الطعنة النافذة في جسده وغير ذلك في كثير من المشاهد والمواقف.

5- استدعى المسلسل سيرة الخضر ركوناً إلى رأي من قال بحياته كأبي نعيم، والنووي، والعيني، لكنه جعله مخلصاً من الشدائد في بعض المواقف الصعبة، وهذا غير سديد.

6- القوة الخارقة التي أعطاها المسلسل للجانب الإسلامي، فبضع أفراد منه يمكنهم منازلة عشرات الأفراد ويتمكنون من قتلهم جميعاً، وأسْر من شاؤوا منهم.

7- في إحدى حلقات المسلسل تدعو الأم «هيماه» قائلة: «اذهب تظللك عناية فاطمة عليها السلام»، وهو إدراج لا معنى له، ويدخل في حد المخالفة العقدية التي لا ضرورة منها.

وأخيراً، فجوانب المسلسل الإيجابية كبيرة جداً، وأثره في نفوس متابعيه ملحوظ، والكتابة عنه على وسائل التواصل لا تخطئها العين، لكن بقي أن نعرف هل كان للمسلسل أثر على نفوس فريق العمل الذي قام به، خاصة الممثلات والممثلين؟

لعلنا نعثر في بلادهم على من يقوم لنا بتجلية هذا الجانب.

Exit mobile version