التأهيل الشرعي لأبناء الحركة الإسلامية.. المشكلة والحل

 

ـ مساحة العلم الشرعي موجودة بين أبناء الحركة لكنهم ليسوا شيئاً واحداً في ذلك

 ـ سيطرة المفهوم الغربي في أسلوب الإدارة هو السبب في ندرة وجود فقهاء مجتهدين

 ـ التخصص الحقيقي هو عمل جامعة لا عمل جماعة

 ـ الحركة الإسلامية ليست مؤسسة تعليمية وقد بدأ الاهتمام بالتأصيل من جديد

 

تعاني الحركة الإسلامية من نقص يعتبر من المفاصل في سيرها، ويؤثر تأثيراً مباشراً على حركتها وقراراتها التي تبدو فقيرة جداً إليه؛ ألا وهو ندرة وجود الفقهاء المرجعيات فيها الذين يتصدون للفتاوى الكبرى وقضايا الأمة بصوت مسموع ومنهج متبوع، ويُسهمون في اتخاذ القرار بناء على فقههم وفهمهم للشرع الشريف وعمق إدراكهم لواقع الأمة، ولا يعني هذا أنهم معدومون، لكنهم موجودون بقلة أو بندرة إن أردنا الدقة في التعبير.

حين نتأمل الواقع نجد أنفسنا أمام مفارقات عجيبة، فالراصد للواقع العملي الفقهي والدعوي معاً يجد فجوة ليست صغيرة بين الفقيه وساحة الدعوة، وبين الداعية ومجال الفقه، فقلما تجد داعية يملك عقل الفقيه، أو فقيهاً يحمل روح الداعية، إنما الفقيه معزول عن الواقع والحياة، والداعية بعيد عن محراب العلم الشرعي الرصين، في حين أنه لا تنافر بينهما في التصور الشرعي، بل كلاهما يستدعي الآخر ويستوجبه، فلن يجدد الدين في عقول الأمة إلا فقهاء يحملون أرواح الدعاة، ودعاة يملكون عقول الفقهاء.

فإلى أي حد تهتم الحركة الإسلامية بالعلوم الشرعية في مناهجها التربوية، وهل هذا الحد من الاهتمام يكفي في تخريج فقيه مجتهد؟ ولماذا نلاحظ ندرة وجود الفقهاء من بين أبناء الحركة؟ وهل منهم من هو أهل للفتيا والاجتهاد؟ وما الأسباب التي تقف دون تحقيق هذا الأمر؟ وما السبيل إلى المخرج من هذا المأزق؟

حملنا هذه الأسئلة وغيرها، وطرحناها على ثلة من العلماء الأثبات الذين يجمعون بين العلم الشرعي والعمل الحركي والهم الدعوي؛ لكي يشخصوا الداء ويصفوا له الدواء، فجاءت إجاباتهم على نحو يضع النقاط فوق الحروف، ويميط اللثام عن طبيعة هذه المشكلة، ويضع أيدينا على الأسباب الكامنة وراءها، ويرفع أمامنا معالم الخروج من هذا المأزق.

العلم الشرعي في مناهج الحركة: أول ما ينبغي الحديث عنه هنا هو مساحة العلم الشرعي في مناهج الحركة الإسلامية، فيرى أ.د. أبو اليزيد أبو زيد العجمي، أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وكلية الشريعة بجامعة الكويت (سابقاً)؛ أن مساحة العلم الشرعي في مناهج الحركة موجودة؛ لأنهم يدرسون أجزاء من تفسير وحديث وعلوم قرآن، وغير ذلك، لكن السؤال هنا يجب أن يكون: إلى أي مدى تسهم هذه الأجزاء في تكوين عقل عنده فقه شرعي في مسائل الدعوة والحركة، فهي موجودة بالفعل، أما من ناحية إسهامها في تشكيل عقلية فهي لا تسهم بشكل فعال، قد تسهم في معرفة الأحكام، أما قضية الاستنباط والتأصيل فهي قضية حتى لو اهتمت الحركة بمفرداتها فإنها لا تضمن النتائج المرجوة؛ لأن أبناء الحركة ليسوا شيئاً واحداً في الأمور الشرعية، فبعض المنتمين للحركة لم يعرف ذلك إلا من خلال المناهج التربوية الثقافية الموجودة، إلا إذا كانت للفرد قدرات خاصة، وتخصص معين يتعهد فيه نفسه، لكن المناهج بشكل عام لا تصنع فقيهاً، ولا فرداً له ملكة فقهية.

أما أ.د. يحيى إسماعيل حبلوش، أستاذ الحديث وعلومه بجامعتي الأزهر والكويت (سابقاً)؛ فيفرق بين مُرادَيْن قائلاً: إذا أريد بالجانب الشرعي علوم الشريعة فنستطيع أن نقول: نعم هناك مساحة ما لهذا الجانب؛ لأنه على الأقل هو المسوغ الشرعي لوجود الحركة وانتظام العمل، أما إذا كان المراد من السؤال هو جانب المشروعية فالجواب على ذلك يتوقف على وضوح البرامج التي عليها تتأسس تلك الحركات.

بينما يرى الشيخ محمد الحسن وِلْد الدَّدو الشنقيطي، رئيس مركز تكوين العلماء بموريتانيا، والعالم المعروف، أن الحركة الإسلامية ليست مؤسسة تعليمية، ولا تقوم بهذا الدور، ورغم هذا فقد بدأ الاهتمام بالتأصيل من جديد وهو في إطار محدود، وبدأت بعض الحركات الإسلامية في تكوين مجموعة من العلماء، وما زال ذلك دون المستوى المطلوب.

الحركة الإسلامية وندرة الفقهاء: وعن ندرة وجود فقهاء مجتهدين داخل الحركة يرجعه د. يحيى إسماعيل إلى سيطرة المفهوم الغربي في أسلوب الإدارة، هذا المفهوم الذي يجعل صوت عالم الشريعة مساوياً في القدر والقيمة لصوت غيره من غير العلماء، فغاب بذلك الأسلوب تمايز التمثيل الشرعي الذي يتأسس على تلك القاعدة: «الفضيلة العلمية مقدمة على الفضيلة العملية»؛ فكان الحضور الغالب هو للفضيلة العملية، وهي على شرفها لا تتقدم شرعاً على الفضيلة العلمية؛ حيث إن أثر الفضيلة العملية لا تتجاوز كثيراً حدود أصحابها، بخلاف الفضيلة العلمية التي لا يستغنى عنها العامة والخاصة، كما يرجع ذلك أيضاً إلى ندرة الجانب الفقهي في البرامج العملية؛ هذا الجانب الذي يفرض وجود علماء قائمين على رعايته في الحركة، ومن ثم الحرص على بروز العلماء فيها، وكذلك ضعف التمثيل النوعي للعلماء في مجالس الإدارة.

أما د. أبو اليزيد العجمي فيرى رؤية أخرى؛ لأن الحركات – كما يقول هو – تهتم بالتوسع الأفقي أكثر ما تهتم بالتوسع الرأسي؛ فهي تدرّس للناس فروعاً شرعية، لكن لا تلتقط مَن عنده ملكة فقهية فتتبناه عبر الدراسات وعبر التفرغات ليكون فقيهاً، وبناء عليه تجد أناساً يتكلمون في الفقه ويفهمون فيه، لكن لا تجد فقيهاً يتحدث في الأمور الاجتهادية، وهذا لا يعيب الحركة، لكنْ جزء من النقص الذي لا يُنكَر عند الحركة أنها لا تربي فقيهاً، ولا محاوراً تُدرِّس له أساليب الحوار.

في حين يذهب الشيخ الددو إلى أن الحركات ليست بدعاً في المجتمع أو منفصلة عنه، بل هي جزء منه، والمجتمع كله يشكو من هذه القلة.

الحركة وأبناؤها المجتهدون: وإذا كان هناك اعتراف عام واتفاق بين هؤلاء العلماء على أن الحركة تشكو من قلة الفقهاء فيها، فإنهم يرون – مع هذا – أن الحركة لا تخلو من وجود فقهاء بلغوا درجة الإفتاء ورتبة الاجتهاد، ويرى الشيخ محمد الحسن الددو أنه يوجد بالطبع في كل الحركات علماء مؤهلون للاجتهاد في بلادهم؛ لأن المجتهد إذا لم يوجد يقوم مقامه أمثل المقلدين.

ويذكر د. أبو اليزيد العجمي منهم: عجيل النشمي، خالد المذكور، صلاح سلطان، فيصل مولوي، يوسف القرضاوي، وعلي القره داغي، وغيرهم.

أما الشيخ يحيى إسماعيل فيعدد منهم مع حفظ الألقاب والمقامات: من مصر: عبد الستار فتح الله سعيد، وأحمد علي طه ريان، ومحمد السيد جبريل، ومروان مصطفى شاهين، وسعيد أبو الفتوح البسيوني، وعطية السيد فياض، ومحمود عبدالرحمن، ومن الأردن: همام سعيد، ومحمود عبيدات، ومن العراق: حارث الضاري، وحسين جبوري، ومن لبنان: فيصل مولوي، ومن المملكة العربية السعودية: عبدالعزيز الشريف، ومحمد موسي الشريف، ومن الكويت: عجيل النشمي، وخالد المذكور.

العلم الشرعي بين الحركات الإسلامية: والناظر لساحة الحركات الإسلامية ومدى اهتمامها بالعلم الشرعي يجد أن هناك مثلاً الدعوة السلفية لها اهتمام خاص بالعلم الشرعي وتحصيله، خاصة في علوم العقيدة والحديث، في حين لا تهتم حركات أخرى بنفس درجة الاهتمام، وعن سر ذلك يرى د. العجمي أن عندهم فهماً يقضي بأن الاشتغال بالعلم هو الأساس الأول، وبناء عليه يرون أن هذا هو الطريق لتصحيح العبادة والاعتقاد والمعاملات، ومن أجل هذا يعكفون على ذلك، وهو جيد وليس معيباً، وعلى كل الجماعات أن تأخذ بهذا، لكن عليهم أن يأخذوا بأبواب أخرى من الفقه، مثل: الأولويات والموازنات وإدراك الواقع، فالجمع بين هذا التراث العلمي وانعكاساته في الواقع أمر مطلوب، بل واجب، ومن ثم فالعكوف على العلم فقط دون الجوانب الأخرى أمر منقوص.

أما الشيخ الددو فيرى عدم جواز التعميم في هذا، فرغم اهتمام السلفيين الأساس بالجانب العقدي وجانب الحديث والمصطلح؛ لكونه يؤيدهم في الرد على المذاهب، فإن التعميم غير وارد هنا، فليس السلفيون جميعاً كذلك، وليس غيرهم غير مهتم بالعلم.

في حين يقول الشيخ يحيى إسماعيل: كلٌّ ميسر لما خُلق له، وإن كنتُ أرى أن السؤال على هذا الشكل مبالغ فيه؛ ذلك أن التخصص الحقيقي هو عمل جامعة لا عمل جماعة.

أسباب المشكلة عند الحركة الإسلامية: إذا كانت المشكلة بهذا الحجم وتلك الخطورة، فما الأسباب الكامنة وراء قلة وجود الفقهاء المؤهلين للفتيا والاجتهاد داخل أبناء الحركة؟

أما الشيخ يحيى إسماعيل فيرد هذا إلى أمر خارج الحركة، وهو أن الأمة الإسلامية لا تزال تعاني من ضعف الإرادة السياسية في مجموعها؛ حيث إن إرادتها لا تزال مرهونة بيد أعدائها الذين يكرهون الإسلام ويحاربون حقيقته وأهله.

بينما يرى د. العجمي الأسباب كثيرةً، منها: تنوع ثقافات المنتمين للحركة، واهتمام الحركة بالتوسع الأفقي أكثر من الرأسي، وبالكم أكثر من النوع، وكذلك صعوبة العلم الشرعي لمن لم يحصله عبر المدارس والمجالس.

أما الشيخ محمد الحسن الددو فيرى أن السبب يكمن في أن المدارس النظامية لا تعطي من الوقت ولا من المادة العلمية ما يكفي لمجاراة أهل النظائر وتحقيق الوعد النبوي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه…» (الحديث)، وكذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين: «إن بين يدي الساعة أياماً يظهر فيها الجهل، ويرفع فيها العلم…» (الحديث).

معالم الخروج من المأزق: تبين مما سبق طبيعة المشكلة وأسبابها المتنوعة، وكذلك اتضح خطورتها على مستقبل الحركة إن لم تستدرك أمرها وتعيد تأهيل أبنائها، وتهتم بالنابهين منهم، فكيف نخرج من هذا المأزق؟ وما معالم الحل لهذه المشكلة؟

أما د. يحيى إسماعيل فيرى أن الخروج من هذا المأزق لن يكون بغير إيقاظ الأمة المستهدفة وجمع طاقاتها وتوجيه إرادتها نحو نصرة دينها وفق برامج يقوم على إعدادها ومراقبة تنفيذها قياداتٌ علمية وعملية جهادية على جميع المستويات، ولا بد من التفكير أولاً في تجميع الجهود المبعثرة والتنسيق بينها والقيام على توجيهها، وذلك عن طريق لجان وطنية وعالمية تؤسس لذلك، وتكون بعيدة عن مؤثرات السياسات العالمية المسيطرة الآن، ومثل هذا الأمل ليس بالمستحيل تحقيقه؛ خاصة ونحن في زمان يسر الله فيه للجميع سبل التواصل والاتصالات، وصار بالإمكان الآن تشكيل مجلس إلكتروني مهمته وضع الخطط المناسبة لهذه الغايات العظيمة وتجميع الجهود الممكنة للتنفيذ، ومن ثم تمحيصها بعد دراستها ووضع الخطط المناسبة للتنفيذ والمتابعة، مع الاستفادة من الجهود والأعمال المتماثلة، ووضع الخطط لصيانته مما حلَّ بغيرها.

أما د. أبو اليزيد العجمي فيرى أنه لا بد من مراجعة المناهج واختبار مدى قدرتها على إعطاء المتربي وتأهيله لنوع من الفقه والثقافة الشرعية؛ ولا ينبغي الاقتصار على المناهج المعدودة، بل يجب أن يحفز ويشجع المنتمون للحركة على القراءة الخاصة عبر جلسات مع علماء ومراجعات علمية، فيفتح هذا الباب الراغبون والقادرون، مع متابعة الحركة لهم.

ويعني هذا أنه ينبغي وضع برنامجين: عام وهو الذي في المناهج، وخاص وهو صناعة قيادات قادرة على حمل أمانة العلم الشرعي، وتتعهدهم بوضع برنامج للقراءة الذاتية، يتعلم كيف يقرأ وكيف يستنبط، ويكون هناك ما يسمى بالقياس والتقويم الدوري والمستمر، ولو أخذ بهذا وكان في كل جماعة مجموعة بهذا الشكل من الممكن أن تجد الحركة نفسها في وقت قصير تملك عدداً يشكل نواة للفقهاء المجتهدين المؤهلين للفتوى.

أما الشيخ محمد الحسن الددو فيرى أن الحل يكمن في الرجوع إلى ما كان عليه سلفنا الصالح من الاهتمام بالعلم قبل العمل، وتكوين المؤسسات التي تسد الثغرة، وتعتني بتخريج العلماء الربانيين، وإرفادهم بما يحتاجون إليه من العلوم المعاصرة.

Exit mobile version