التصدع الداخلي

إن النفوذ الأجنبي – المتولد والمتفاقم عن التدهور الداخلي – أدَّى وما يزال إلى بزوغ خمس مشاكل رئيسية على السطح، هي أصل الأزمة الحالية التي تجتازها العديدُ من البلدان العربية:

• الأولى: مشكلة الهُوِيَّة؛ فمن نحن؟ وهل نريد أن نبقى كما نحن؟
• الثانية: مشكلة المرجعية؛ فإلى أي مرجعيَّة نستند؟ وأي أصول نعتمد؟
• الثالثة: وضوح الرؤية؛ إلى أي اتجاه نسير؟ وماذا نريد؟ وما هي المقاصد الأساسية لحركتنا وسيرنا؟ وكيف نخرج من واقعنا المرير؟
• الرابعة: المنهجيَّة؛ بأي منهج نستفيد من المرجعية، ووَفْق أي مساقٍ نحقق مناطها، وننزلها على الواقع؟
• الخامسة: المرحلية؛ كيف نحقق ما نريد في غدٍ يتَّسع مستطاعه على مراحل محددة، كل مرحلة تُبنى بخالص الجد، لغدٍ صادق الوعد؟

وتجمع بين أقطارنا العربية المصنَّفة ضمن البلدان السائرة في طريق النمو (وهو لفظ مهذَّب لوصف المتخلي عن الركب الحضاري أو المتخلف عن قاطراته) عناصرُ سلبية مشتركة، هي نتائج للمشاكل الخمس المشار إليها، فصار العديد منها من المسبِّبات لأزمات أخرى متفاقمة:

• تدهور الاقتصاد، ومن ثَمَّ زعزعة الكِيان السياسي.
• قصور البِنْية الصناعية.
• غياب آلية وذهنيات الإنتاج القادر على المنافسة.
• ضعف البِنْية التربوية والثقافية، وهشاشة مقاومتها للتطبيع مع الدخيل المستغل.
• ضعف المقاومة لتآكل الذات.
• تدنِّي الوعي الجماعي بالأصول المجتمعية والمقاصد الحضارية.
• صعوبة التنظير، وبالأحرى وجود عوائق جمَّة لإنجاز مشروع مجتمعي حضاري واعد.

لا أريد أن أذهب بعيدًا في تحليل الدوافع التاريخية للتيارات الفكرية السائدة، فلقد عانى وطنُنا العربي من الاستعمار والنفوذ الأجنبي المعاناة الشديدة وما يزال، لكن بكفاح الغَيُورين من الأمة وجهاد الأبطال استطاعت أقطارُنا أن تُبعِد جوانب هامَّة من ذلك النفوذ والاحتلال، وكانت وهي تخوض معاركها التحريرية والنهضوية على مقربة من استكمال الجواب العملي عن السؤال الأول: مَن نحن؟

لأن النضال والمقاومة سَمَحَا بالوَحْدة، فلم يكن يقاوم حقَّ المقاومة ويناضل حقَّ النضال إلا ابنُ البلد، المؤمن بأُلوهيَّة مَن لا مثيل له ولا ولد.

فلما جاء الاستقلال، بدأ الانشطار السياسي ليتبعَه تعزيز الفئوية الاجتماعية، وليتولد عن ذلك صراعٌ طبقي واجتماعي وسياسي، ما زالت بوادرُه موجودة بل متفاقمة، وما زال أنموذج صياغته وولادته يُعاد ويكرر لمزيد من تمزيق أوصال النسيج السياسي والاجتماعي للبلد، فجَّر العديد من التيارات الفكرية والفلسفية والثقافية والسياسية، المتشابكة حينًا والمتنافرة أحيانًا.

وكانت كافة القيادات الجهادية في نضالها قد انطلقت من مرجعية إسلامية، على الأقل في خطابها السياسي للتعبئة الجماهيرية والمقاومة المسلَّحة، كما أنها كانت تتصوَّر أن زوال المستعمر كشيءٍ مستهدَف بالأساس من جهادها كافٍ لفتح الطريق أمام غدٍ زاهر ومثمر، واعد بالخيرات؛ لكونها تتوفر على الطاقات المادية والبشرية والمعنوية التي لن تبرح أيديها المكبَّلة من طرف الأجهزة الاستعمارية فكَّ القيد عنها؛ حتى تجعل الوطن بالكد والجد جنةً ونعيمًا وملكًا كبيرًا.

لكن هل تحقَّقت صورُ المستقبل الزاهر التي ظن أن الأزمنة التالية حُبْلى بها؟ أم أن شروط بزوغها لم تكن متوفرة؟

فالحقيقة الناصعة أنه لم يتحقق من ذلك إلا القليل؛ ذلك أن الاستعمار كان نتيجةً لوضع، لا سببًا أساسيًّا لبزوغ ذلك الوضع، ونحن اليوم في أزمتنا الخماسية أشد ضررًا في جوانب، وأحسن حالًا في جوانب أخرى.

قد كان هنالك وعيٌ – ولو قليلًا – بظلم المستبدِّين وجَوْر المستعمِرين، وكان هنالك فكرٌ توَّاق لإزالة الاستبداد، لكن التواصل معه اليوم بفعل الغزو الفكري الأجنبي، وتقوقع الفكر الداخلي – انقطع؛ لضعفٍ في التنظير، وأخطاء في التسيير، وتغييبٍ للشورى من جهة، وضعف إعمال للمراجعةِ وإتقان فنون التعبئةِ والمواجهة من جهة أخرى، فجلَب انعدامُ الثقة في التعامل بين الجهات المفروض فيها التعاون والتكافل والتآزرُ – التنازعَ والفُرقة والاختلاف الذميم، وهذا ساهم أساسًا في تفاقم البعد الثالث للأزمة المجتمعيَّة، وغموض وتضارب الأفكار حوله: إلى أين نسير؟ وأي مقصد نريد؟ بل ولَّد هذا أسبابًا أخرى لتفاقُمِ الأزمة، كان من سوءاتها العمد إلى منحِ الامتيازات الوظيفيَّة والاجتماعية لفئاتٍ اجتماعية لاستعادة كَسْب الثقة، وضمان الانتماء والولاء.

كان هناك شوقٌ عميق للوحدة، ولكن تعميق الانتماء القطري بمَعْزل عن محيطه وجذوره، وإضفاء القداسة على الدولة، ووَلَع الفقير بالانتماء لنوادي الأغنياء، وبُعْده عن الانتساب لجموع الفقراء – كلُّ ذلك وغيره من العوامل الثقافية والفكرية والتربوية أضعَف الحسَّ الوحدوي، والإيمان بضرورته وإمكانيَّته، بل حدَّ من تنميته في مستقبل قريب.

نستخلص كذلك أننا دائمًا نُعِيدُ التفكير في المشروع الحضاري، ولا نُنجِز منه إلا البدايات، ثم يتوقَّف الانخراط فيه، مثال ذلك برامج مَحْو الأمية.

عدمُ الاستفادة والرعاية والصيانة للمنجز بشريًّا وماديًّا وسياسيًّا، التراجع في المواقف، التخلِّي عن المشاريع، عدم الالتفات للمكونين والمتخرجين، بعثات علمية، قد كانت تكفي واحدة لإخراج رجال الإصلاح وتفجير الأوراش.

كان هناك إيمان بإمكانية القضاء على الوسائط الأجنبية في الاستيراد والتصدير، واليوم يبحث عنها ولا تعد محنكًا اقتصاديًّا إلا إذا كَثُرت لديك هذه الوسائط، وأصبح بيدِها كلُّ شيء.

اليوم أصبحنا نسمع عن الحداثة كمصيرٍ، والتعددية والاختلاف واحترام المواطنة وحقوق الإنسان كمرجعيَّة، والإنسان العالمي المنفتح كهُوِيَّة.
أين العمق التاريخي؟
أين البعد الحضاري؟

لا يختلف عاقلان أننا نعاني من مشاكل عديدة:
• تنامي الفقر.
• تفاحش البطالة.
• تكدُّس الثروة.
• ظلم اجتماعي متفاقم.
• شلل إداري متزايد.

لكن هناك فيما يُدعى بالعهد الجديد مكتسبات لا يُستهان بها:
• مكتسبات في مَيدان حقوق الإنسان.
• تعزيز الخطاب حول دولةِ الحق والقانون، والإشارة لمفهوم جديد للسلطة.
• طيُّ صفحات من الماضي الأليم، وعودة أبناء الوطن المنفيِّين.
لكن ضعف الذات يجعلها لا تستفيد من هذه الحركات الإصلاحية إلى نهايتها، هناك شوقٌ إلى الانتقام ممَّن يُنعتون بالمسؤولين عن تدهور الأوضاع، وهذا ما يدفع المتَّهمين إلى أن يتحركوا للحصانة والمناعة.

هناك وضع دولي يفرض شِرْعته ومنهاجَه عبر العَوْلَمة والخصخصة، والحرية الاقتصادية، والإباحية الاجتماعية، فيُطالِب بتغيير قوانين التعليم والشغل والتدبير والإدارة، ويلحُّ على إخراج أنموذج جديد من المواطنة يستجيبُ للمتطلبات الدولية، خدوم لها، مطيع لأوامرها، بعيد عن أية مقاومة لمسارها.

ويبقى الداء أننا مشروع مفتوح لكل الأوراش، لكننا كثيرًا ما نعود في كل ورشة إلى الانطلاق من الصفر؛ لأن جنون اتهام الآخر، أو الاستجابة لمتطلبات الجماهير تحت الضغط، تولِّد هذا النوعَ من التدبير السياسي الذي ينزع منه المؤقَّتُ والمهمش كلَّ الطاقة والوقت، ليبقى الضروري واللازم على رفوف الانتظار.

على الصعيد السياسي ما زالت المشاكل التي كانت لدينا غداةَ الاستقلال تلعب دورها، وما زالت الشورى بمفهومها الواسع لم تدخل عندنا من الباب الواسع، بل حتى الأحزاب السياسية تفتقر في داخلها – بنسب متفاوتة – إلى العمل الشوريِّ والممارسة الديموقراطية.

هناك من الأحزاب من أجَّل مؤتمر العام، وهناك مَن يترقَّب الشيء الساخن في مؤتمره القادم؛ هذا شيء يدل على الحياة، لكِنْ في العديد من مراحلِ هذه الحياة تكرار ومعاودة، وكرٌّ وفرٌّ، وانقسام وإعادة ترتيب لمغانم أو مكاسب تحتل الأولوية، ثم ينظر ماذا يحققه كسبها من الأهداف والمقاصد الجماعية؟
فهناك تعثُّر في المجال السياسي، تَذَبْذُب في المجال الاجتماعي، انسياقٌ لرغبات النفوذ الدولي في المجال الاقتصادي، وتبعيَّة في المجال الثقافي.

هل من مستقبل زاهر؟
نعم، المستقبل إرادة، والمستقبل إصلاح، والمستقبل حرية.
على جميع الجهات – بما فيها السلطات العليا – أن تقومَ بالمراجعة وإزالة كلِّ دَخَن بوعيٍ ومسؤولية وجُرْأة على العودة للحق والقانون.
• ترسيخ الإيمان بمرجعية القانون.
• تعميق روح المواطنة الصالحة.
• الجدِّية في موضوع محو الأمية: السياسية، والدينية، والثقافية.
• عدم الارتجال في مجالات إعداد الناشئة؛ مثل التربية والتعليم.
• تطوير اللغة السياسية وشكل التعامل السياسي بين الأطراف المختلفة.
• محاربة المال الحرام.
• محاربة الآفات المجتمعيَّة الفاتكة بالعقول والطاقات؛ مثل: الخمور، والمخدِّرات.
• محاربة الرشوة والامتيازات الفئوية والسياسية.
• محاربة الزنا، وقنوات الخلاعة والدعارة، ودُور القمار.
• إصلاح القضاء، والتخفيف من مساطره البيروقراطية، وتوسيع رقعته، والرفع من هيبته.
• اختلاف أوجه الإصلاح.
• اختلاف أولويات الإصلاح.
• مقاومة التجديد وخوف الفئات المستفيدة من سَحْب البِساط من يدِها أو مساءلتها عن وضع لم تكن وحدَها دافعة له.

كيف سيخدم المستقبل التنمية؟ رأينا عبر هذا المثال أن المستقبل في شكل أمانيَّ لا يأتي بشيء، بل يوهم أننا نحقق بعض الشيء، المستقبل مشروع واضح المعالم، فإن لم يكن كذلك، فأضغاثُ أحلام، وباقة أمانيَّ، لا يخلو من فائدة، لكن ليست مستقبلًا ممكنًا.

 

المصدر: موقع “الألوكة”

Exit mobile version