/tmp/lowin.jpg الأقطاب والأبعاد الثلاثة – مجلة المجتمع الكويتية

الأقطاب والأبعاد الثلاثة

 

ـ المدرسة لها دور خطير لأنها تستولي على الطفولة أصعب وأخطر سنوات الإنسان

ـ مشكلات الأسر في البيوت ليست وليدة يوم وليلة أو تصرفاً خاطئاً ولكن مكونات تراكمية وترسبات فكرية وذهنية

 

قالت: لنا عليك حق يا دكتورة كمستشارة لمدارسنا أن تعطينا من وقتك لقاء خاصاً لنا كزملاء.

قالت زميلة أخرى: نعم.. نعم.

وقال زميل: حقاً نحن نحتاج إلى استشارات لحياتنا الخاصة وبيوتنا.

قلت: فلنجعله يوم الحفل النهائي.

قالوا: موافقون.

قالت أخرى: فلنعدّ من الآن ليس للحفل فقط إنما أسئلتنا كلها.

قلت: كما تريدون، فللأصدقاء حقوق أيضاً.

وفي الحفل اجتمع الجميع حول بعضهم، تاركين للطلبة فترة راحة وترفيه، ثم بدأت إحدى الزميلات فقالت: جميعنا يتساءل: لماذا ساءت علاقتنا كآباء بالأولاد مع العلم أننا نحاول دائماً أن نوفر لهم حياة كريمة بكل الوسائل؟

أكّد أحدهم كلامها: فكما ترين يا دكتورة؛ أب لا يرجع البيت إلا وقد أنهكه العمل، وزوجة تساعد وتسد ما نقص من الآباء في تربية أولادهم، إلا أننا دائماً ملومون من المتخصصين والتربويين حتى من الأولاد أنفسهم.

قلت: لأنك لا تربي وحدك، فهناك ثلاثة أقطاب تشاركك في تربية الأولاد؛ الإعلام والمدرسة والمجتمع.

فالإعلام بمستواه الهابط من جهة، والخيالي من جهة أخرى، والذي يدعو للتخلف من جهة ثالثة.

ثم ثانياً المدرسة تأتي لتدعم ذلك بمناهجها المتخلفة التي لا تساعد على مهارات أو تنمية ذات أو بناء عقول.

فتدخل أحد الحضور قائلاً: وأكيد المجتمع كقطب ثالث لن يختلف كثيراً عن سابقيه الأول والثاني في وأد العقول والأفهام.

تداخل من بجواره في الرد قائلاً: نعم، وهذا بالفعل ملموس جداً في طبيعة المناهج التي ندرّسها للطلبة.

قالت زميلة: نعم ولا تطوير للمدرسين والمعلمين وأصحاب المهنة ليمنحوا طلابهم من عقولهم وثقافاتهم.

قلت: إن دور المدرسة خطير جداً؛ لأنه يستولي على أصعب وأخطر سنوات الإنسان ألا وهي الطفولة، فهي مرحلة تكوين قناعاته ومبادئه وقيمه وفهمه لدينه، وكذلك لرعاية موهبته وعقله، وذلك الذي لا يحدث ولا يتم.

قال: مهما حاول المعلم أن يؤدي دوراً مختلفاً مع طلابه ومؤثراً لن يستطيع تغيير منظومة ممنهجة لتخريج عقول فارغة ونفوس لاهية.

قاطعتهم زميلة أخرى قائلة: سيظل يلاحقنا الطلاب بمشكلاتهم حتى في هذا اللقاء الخاص بنا وللسؤال عما نريد ونجعله لقاء وجلسة خاصة بنا وأسرنا.

تدخل أحد الحضور: يا عزيزتي، ها نحن جميعاً نعمل في جميع المراحل هنا، فكما نحن معلمون فنحن آباء لهؤلاء الطلاب أيضاً، وما يجري عليهم يجري على أولادنا.

قلت: نعم، إن مشكلات الأسر في البيوت والآباء مع أولادهم ليست وليدة يوم وليلة، أو تصرفاً خاطئاً من هذا أو ذاك فقط، ولكنها مكونات تراكمية وترسبات فكرية وذهنية.

قال: وكيف غفلنا عن ذلك؟

قلت: الملهيات كثيرة، واللهث وراء مجريات الحياة العصرية لا ينتهي.

قالت: وماذا عن القطب الثالث، بعد الإعلام والمدرسة؟

قلت: المجتمع والبيئة المحيطة بتربية هذا النشء سواء الشاب أو الفتاة القطب الثالث، سواء كانت بيئة محلية؛ أي الأسرة والعائلة، أو خارجية مثل الشارع والعمل وغيره، ففي بعض المجتمعات اختفى الدور المقوّم لهذا الاعوجاج في الشخص من جهات خيرية ودور المسجد الواعظ وغيره، ليحتل الإعلام ذلك كله ويوجهه.

قال: لماذا تحملين الإعلام كل هذه النتيجة؟

وافق بعض الحضور على قوله ورد آخرون: ألا تدري ما خطورة فيديو واحد على طفل صغير مكثت تؤسس وتكوّن في قيمه سنوات ثم يأتي الإعلام يهز هذه القيم تدريجياً بما يقدم؟

رد قائلاً: الإعلام منذ أن خرج علينا وهو هكذا، ولم تكن النتائج سلبية كالآن.

قلت: بالفعل لسببين؛ الأول: انشغال الأهالي عن أولادهم بشكل كبير بسبب العمل الشاق والمتواصل لتوفير الحياة الملائمة التي قد ألزموا أنفسهم بمستواها باختيارهم أحياناً، أو الإهمال والكسل والإلقاء بهم أمام الشاشات لتتخلص منهم الأمهات أو لتريحكم كآباء من صداع رؤوسهم وكثرة طلباتهم وفرط حركتهم.

هذا بالإضافة إلى زيادة الانفتاح العصري والتكنولوجي وسهولة التواصل مع العالم الآخر بضغطة زر، وضعف الاهتمام من البيت، ثم ضعف الوازع الديني؛ برز الإعلام في توجيه فكر الأولاد بتقديم مواد هابطة وسيئة الخلق ومتدنية لأقصى درجة ممكنة في القيم والأخلاق العامة المتعارف عليها، وصار الشباب والأطفال والفتيات يقلدونهم، متخلين عن قيم سوّل لهم الإعلام أنها رجعية وتخلف.

قالت: معك حق، أبعد كل هذا ماذا سنجني غير المشكلات والصدامات؟

قالت زميلة: نعم، لقد صعبت علينا التربية في هذا الزمان.

رد بعض الزملاء ضاحكين: لا تتخذن هذا ذريعة للإهمال أو التقصير في حق الأولاد.

قلت: السفينة لها قائد ومعاونون، لا المعاونون ينجحون من غير القائد، ولا القائد يسايرها من غير معاونين، هكذا هي الأسرة والبيت.

ضحكت بعض السيدات في القاعة قائلات: أنصفتينا يا دكتورة.

ولنسألك سؤالاً آخر تتسع له صدور الجميع بعد السؤال عن الأولاد، دعينا نسأل: لماذا كثرت المشكلات بين الأزواج أنفسهم؟

قلت: لأسباب عدة؛ منها إيماني، وهذا هو الأساس، ثم فكري ثقافي، ثم سلوكي.

قال: كل هذا يا دكتورة؟ لماذا تزداد الحياة تعقيداً هكذا.

قلت: نعم، وكذلك أيضاً ثقتنا في بعض قلّت، فلا الزوجات يثقن في أزواجهن، ولا الآباء يثقون في أولادهم.

هاج بعض الزملاء قائلين: ولماذا لم تقولي: والأزواج لا يثقون في زوجاتهم؟

ردت إحداهن قائلة: لأن من الصعوبة بمكان أن تنجرف أو تنحرف الزوجة سلوكياً وأخلاقياً ولديها زوج وأولاد مهما كانت الحياة بينهما، قد تفكر في الطلاق والانفصال، ثم ضحكت وقالت: أو حتى الانتقام بالقتل مثلاً! لكن خيانة شبه مستحيل.

ردت أخرى: إلا في حالات نادرة كوسيلة انتقام أو العكس هي منحرفة من يومها لخلل سلوكي لديها من الأساس.

أيَّدت كلامها ثالثة: قد يضعف إيمان المرأة المتزوجة كأي إنسان، لكن تفكر في الخيانة فهذه الخطوة تعمل لها ألف حساب، أما الرجل من السهل عليه أن ينشئ علاقة وهو يسوّل لنفسه أحياناً أنه سيخطب تارة، وضعف إيمان تارة أخرى، أو سلوكه وأخلاقه هكذا تارة ثالثة.

استسلم الحضور لكلامها حتى عاود السؤال أحد الحضور: نعم صرنا فريسة سهلة للتقنية الحديثة والتكنولوجيا التي أسأنا استخدامها.

قلت: وهذا هو مربط الفرس في الأبعاد الثلاثة التي ذكرتها، فالإيماني مثلاً ومع الانفتاح هذا جعل مقاومة النفس لمراقبة بارئها تحتاج إلى مشقة وجهد وصراع مع النفس، سواء كانوا أزواجاً أو أولاداً أو بشكل عام؛ لأنها تحيط بنا من كل جانب.

أما البعد الفكري الثقافي؛ فلقد تناقلت الثقافات سيئها بحسنها، ولكننا قوم نقلد ونستخدم السيئ أكثر من الحسن، على الرغم من أن هذا البعد الثقافي قد يكون عاملاً مساعداً كبيراً وجانباً تطويرياً رائعاً على المستوى الشخصي والمهني من التعلم عن بُعد، وتعلم كيف تكون الحياة الجديدة بعلومها الحديثة وغيره بضغطة زر دون عناء أو جهد.

ثم يأتي البعد السلوكي؛ وهو الذي يترجم صدق البعدين الأولين، ومدى الإصرار والعزيمة على فعل التصرف السليم والصحيح المبني على قناعات سليمة وقبلها عقيدة صحيحة.

قال: إذاً حل إجابة هذا السؤال الصعب والذي حير الجميع هو ضعف إيماني، ساعد في ذلك البيئة المحيطة بمتطلباتها من لهث وراء توفير مستوى معيشي راقٍ، وتكالب الجميع علينا كالفريسة من إعلام، وتجاهل التعليم العمل على تنمية مهارات الإنسان، ومجتمع لا يراقب وليس له دور سوى المساعدة على الإفساد أكثر من الإصلاح، في لحظة غاب فيها وعينا نحو تربية متوازنة بين المادة والنفس والعقل.

ضحكوا جميعهم قائلين: هكذا أنت كعادتك توجزين وفي الوقت المناسب، خاصة ووقت الحفل قد انتهى، وعام دراسي أيضاً قد مضى، لكن نتمنى وجودك دائماً وسطنا يا دكتورة كل عام، فلقد سعدنا بالنتائج هذا العام من الطلبة لتحسن حالتهم النفسية ومعالجة مشكلاتهم ومناقشة أسرهم.

ابتسمتُ قائلة: وأنا كذلك، ونصيحتي الأخيرة: التزموا صحبة طيبة تعينكم على حسن الالتزام والطاعة، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً {28}) (الكهف).

Exit mobile version