إعلامنا.. وحروب الجيل الرابع!

من المعروف في علم السلوك أن شرط تحقق الفعل بشكل صحيح أن يتوافر فيه عنصران؛ الوعي والسعي معاً، الوعي وحده عالم من المثاليات رائع وجميل، ولكنه يظل معنى مجرداً في الذهن لا وجود له في عالم الواقع، كما أن السعي بلا وعي عمل عشوائي يبدد الجهد والطاقة ويهدر القدرات في غير محلها وبلا أي فائدة تذكر، ومن ثم فكل سلوك خاطئ ناتج في الأصل من فكرة خاطئة، فإذا صححت الأفكار صححت السلوكيات ببواعثها ودوافعها معاً.

ولذلك فقد اهتم بهذا الأمر علماء التربية والباحثون من علماء النفس والاجتماع وغيرهم، كما اهتم به أيضاً زعماء السياسة في الدعاية لبرامجهم والدعوة إلى تنفيذها وترويجها بين الجماهير، وبنفس القدر من الاهتمام كان موقف الدكتاتوريات والمستبدين لتطويع شعوبهم وصياغة أفكار الجماهير وفق مراد الطاغية في استمرار سيطرته على عقول الناس.

لهذه الأسباب فقد اشترك لينين الاتحاد السوفييتي سابقاً في تأسيس صحيفة “البرافدا” في عام 1912م في سانت بطرسبرج، لتكون ناطقة باسم الحزب الشيوعي، وكانت من أكبر صحف العالم توزيعاً خلال الفترة السوفييتية، واستعان هتلر بجوبلز، خبير الدعاية، لينفذ برنامجه في حشد الشعب الألماني خلف هتلر في حروبه، واهتمت الثورة الإيرانية بقيادة الخميني في حشد الشعب الإيراني ضد الشاه عن طريق شريط الكاسيت، ونجحت الثورة بهذا الأسلوب في القضاء على أعتى وأقسى وأقوى نظام أمني وهو نظام “السافاك”.

نلحظ هنا أن أثر آلة الدعاية في النماذج السابقة كان أقوى من بندقية الحراسة للنظام، ومن كل وسائله في حماية وجوده واستمراره في السيطرة على عقول الناس ووجدانهم، رغم كل ما يمتلكه من وسائل القمع والترويع، ومن هنا نشأت فكرة الأذرع الإعلامية المصنعة داخل أجهزة الأنظمة، التي أصبحت أداة مهمة من أدوات الطاغية ليس فقط في تبرير طغيانه وتوطيد حكمه، وإنما أيضاً في سلب اختياراتك ووضعك أمام خيار واحد لا تستطيع أن تختار غيره، حيث تعمل تلك الأذرع في أكثر من ميدان على غسل الأدمغة وشيطنة الخصوم وتطويع المعارضة وتخويف المجتمع بمصير دول تفككت أو في سبيلها إلى التفكك، ومن ثم فلا يكون أمامك إلا أن تقبل راغماً بوجود الطاغية وبقائه، عملاً بقاعدة “إن بعض الشر أهون من بعضه”، وبقاء الطاغية مع تحقيق الأمن والأمان أفضل من التطلع إلى الحرية مع احتمالات الفوضى وانفلات الأمن وضياع الأمان؛ ومن ثم فلا حاجة للثورة ولا معنى لهل ولو على أي طاغية مستبد.

هكذا تبدأ عملية غسيل المخ وتوجيه الغالبية نحو القناعة المزيفة بفكرة خاطئة، أو بكذبة فاجرة تمنح الناس مبرراً لقبول المذلة والتكيف مع الباطل لمجرد أنه غلب وساد.

إعلام الطاغية يعتمد أساساً في نجاحه على حالة اللاوعي التي تسيطر على ثقافة الجماهير المتلقية للرسالة الإعلامية؛ لأنها عامل أساس في تشكيل شبكة الخداع الجماهيري، فغياب وعي الجماهير وبساطة وسذاجة رؤيتها للقضايا السياسية يساعد على خلق بيئة حاضنة وقابلة للخداع، ومن ثم يتم ترويج الكذب، فكلما كانت ثقافة الجماهير بسيطة وسطحية؛ تم توصيل الرسالة بنجاح، ولذلك فالمبدأ السائد “جَوّعْ شعبك يتبعك”، و”جَهّلْ شعبك يعبدك!

الجوع والجهل هنا كلاهما لاعب أساس في خدمة حكم الطاغية، وصناعة الأزمات سبيله ووسيلته لتحقيق غفلة الجماهير وانشغالها باحتياجات البيت وأزمات السكر والزيت.

بجانب الخداع والتمويه يعتمد إعلام تأبط شراً الإلهاء هدفاً وخطة في كيفية تصريف طاقات الغضب المحبوس في مناوشات إعلامية مكشوفة تمثل ما يعرف بمانعة الصواعق.

يشهد الواقع بكفاءة هذه الأذرع بعدما حققت في عالم الكذب إنجازات غير مسبوقة، واستطاعت في عامين أن تخدر شعباً عدد سكانه تجاوز 90 مليوناً، وذلك بسرقة أذني المواطن والإلحاح على سمعه وبصره صوتاً وصورة، وقد ذكرتنا هذه الملهاة بما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في مسرحيته مصرع كليوباترا.

اسمع الشعب “ديون” كيف يوحون إليه

ملأ الجو هتافا.. بحياتيْ قاتليه

أثر البهتان فيه.. وانطلى الزور عليه

يا له من ببغاء.. عقله في أذنيه!

شماعة أهل الشر!

وهكذا تسود أخلاق القطيع، فإذا حاولت الخروج عليها فالاتهام جاهز والوصف حاضر وأجهزة القمع كفيلة بالقيام بالواجب، وصاحب هذه المحاولة إما من أهل الشر الذين يريدون إسقاط الدولة، أو من أهل الشر الذين يريدون أن تتحول مصر إلى سورية أو العراق أو اليمن، وكلا الوصفين لا ينطبق إلا على الإخوان.

فإذا تحدثت مع زميل لك عن غلاء الأسعار فأنت منهم، وإذا تحدثت عن حجم الفساد والمفسدين في أم الدنيا فأنت منهم، وإذا تحدثت عن الشرفاء الذين يحاولون مقاومة الفساد ولا يستطيعون فأنت منهم، وإذا توجهت بسلامة نية عن نقد قانون التظاهر فأنت منهم، وإذا جاز لك في موقف ولو كان مناقشة في مجلس عزاء أن تنصف مظلوماً ممن سجنوا بغير جريمة فأنت منهم، وإذا تحدثت عن الحريات المصادرة فأنت منهم، وإذا تحدثت عن حالة الحيرة السياسية وضياع البوصلة فأنت منهم، وإذا تحدثت عن الشلل الاقتصادي، وشِلل المنتفعين من الأزمات فأنت من أهل الشر.

وكان ضمن المهازل في حالة اللامنطق هو الشماتة من مرشحة الرئاسة هيلاري كلينتون ووصفها بأنها “إخوانية” من أهل الشر لأنها تحدثت عن حالة الحريات في مصر.

نموذج آخر لشاب شريف كان عصياً على الإغراء والابتزاز، ورفض أن يكون للبيع، وبدلاً من منحه أشرف وأعلى وسام وطني وتتويجه ملكاً لقلوب الجماهير من عشاق الرياضة في الوطن العربي والعالم كله، وضع النجم الساطع ذو اللسان العف والخلق الكريم الرياضي الشريف صاحب المواقف النبيلة الكابتن محمد أبو تريكة على قائمة “الإرهاب”! بعدما برأته المحكمة الإدارية، فاستأنفت الحكومة لدى محكمة الجنايات في مظهر كاريكاتيري لتدين أشرف أبناء الوطن بتهمة الإرهاب، تماماً كما استأنفت للتنازل عن الجزيرتين تيران وصنافير، وكان المشهد فريداً من نوعه في تاريخ الدنيا حيث بلد يحكم القضاء بملكيته لجزء من أرضه فيستأنف بحجة أن إبرام الاتفاقيات لا يختص بها القضاء؛ لأنها من أعمال السيادة، فيحتج بالسيادة ليتنازل عن سيادته على أرضه، أشار إلى هذا التناقض الفقيه الدستوري الحكيم البشرى بقوله: إن موقف الحكومة كان يدعو للرثاء بأن تتمسك بفكرة أعمال السيادة وهي تتنازل عن سيادتها على جزء من أرض مصر، ووضعت نفسها في موقع لا تحسد عليه، مشيرًا إلى أنها أثبتت أنها غير أمينة على ملك الدولة والأمة وذلك بحكم قضائي.

وتساءل الفقيه الدستوري: كيف يكون التنازل عن سيادة مصر على جزء من أراضيها من أعمال السيادة؟!

وكيف تدفع الدولة بسيادة إجراء يجرد مصر من سيادتها على جزء من أراضيها؟!

وكيف توجه الحكومة سيادتها ضد القضاء المصري فى موضوع يتعلق بإجراء اتخذته يتضمن التخلي عن سيادتها؟!

وكأنه كتب على مصر في السنوات العجاف وأعوام الرمادة أن تتنازل عن سيادتها وتزيد عليها بأن تطرد شرفاءها وتصفهم بالإرهاب حتى لا يبقى على “المذود إلا شر البقر”، كما يقول أهل الريف المصري بذكائهم الفطري.

الموقف من الكابتن أبو تريكة والإصرار على إهانته وبهدلته يذكرني بحكمة صاغها قلم العالم والأديب د. مصطفي السباعي يرحمه الله تعالى يقول فيها: إن لله سيوفاً يقطع بها رقاب الظالمين، منها أخطاؤهم.

وآخر الصيحات في عالم “موضة الكذب” أن يكتشف إعلامنا عن طريق حروب الجيل الرابع أن هناك مؤامرة كونية تشترك فيهنا مخابرات الولايات المتحدة و”حماس” وتركيا وقطر وفلاديمير بوتين وإيران و”حزب الله” وتنظيم “داعش” لتهريب الرئيس محمد مرسي من سجنه في شهر يناير من هذا العام!

وأن هناك بنداً سرياً في الاتفاقية النووية بين أمريكا وإيران على تهريب محمد مرسي!

أرأيتم ماذا تفعل أجهزة حروب الجيل الرابع وقدرتها التي فاقت عفريتاً من الجن على كشف المؤامرات الكونية، وجاءتك بكل الأسرار وتشكيلات أطراف المؤامرة قبل أن يرتد إليك طرفك؟!

أرأيتم أيها السادة القراء كيف تكون التحليلات التي تخترق الاتفاقيات السرية وتستخرج منها الأسرار لتذاع على فضائيات أم الدنيا؟! ثم هل سمع أو رأي أحدكم أجمل من هذه الخلطة السياسية وكيف تصنع؟! إنه الإبداع يا عالم!

وإذا كان بول جوزيف جوبلز، ‏الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر، قد حاز لقلب أكبر كاذب في العالم، فهو لو ظل حياً حتى العصر الحديث لتنازل بتواضع شديد عن هذا اللقب لمجموعة “إعلام تأبط شراً”، ومنهم قطعاً هذه السيدة الظريفة لمقدرتهم على خداع الناس والكذب عليهم وبحجم لم يحدث له مثيل من قبل، والفرق الوحيد الذي يتميز به جوبلز عليهم هو المهنية والاحتراف حيث كذبهم مفضوح وبلا أي احتراف.

تسريبات أخرى كثيرة ومسيئة ما زالت تجري كما تجري مياه النيل خلف سد إثيوبيا.

وهكذا يغيب الحياء عن تلك الوجوه الكالحة، وتضيع بوصلة الحياة، ثم يعاني المجتمع حالة من الردة لا عن الدين، وإنما عن العقل والمنطق ليعيش خرافة حروب الجيل الرابع حين تشرحها خبيرة كشف الأسرار السيدة المذيعة الظريفة في وطن قد تحول إلى شبه دولة، ويعيش الكذبة الكبرى، ومن ثم يصبح التاريخ والجغرافيا والمواطن في خطر.

Exit mobile version