ارْوُوا أبناءكم حباً قبل أن..!

دق جرس الهاتف بعد الساعة العاشرة مساء، وأنا عادة لا أستقبل مكالمات بعد الثامنة، ولكنه كان ملحاً في الطلب عدة مرات!

– السلام عليكم دكتور (كان الصوت نسائياً مضطرباً لاهثاً).

– وعليكم السلام، نعم!

– معذرة لأن الوقت متأخر لكنني في كارثة.

– استعيذي بالله.. خيراً!

– ابنتي (تجهش بالبكاء)..

– اذكري الله، وهدئي من روعك، ما حكايتها؟

– عمرها 13 عاماً، متفوقة دراسياً، تحضر حلقات تحفيظ القرآن، فنانة تحب الرسم.

دخلتُ عليها غرفتها؛ فلاحظتُ ارتباكها وأخفت هاتفها، فاستغربت وشككت في الأمر فطلبت منها الهاتف فرفضت فأخذته عنوة وكانت الصاعقة.

– لا حول ولا قوة إلا بالله.

– وجدت صوراً فاضحة، ومحادثات مع شباب وصل الأمر مع أحدهم إلى تبادل كلمات الحب، وجلست كالمجنونة أسأل نفسي: ماذا ينقصها؟ نوفر لها كل ما يمكن أن تحلم به فتاة في سنها حتى سيارة بسائقها خاصة، ولا أكتفي بحضورها حلقات القرآن، بل تأتي إحدى المحفظات للمنزل لتدريسها..

– قاطعتها قائلاً: ماذا عن علاقتك معها ووالدها؟

– والدها (تنهيدة وزفرة ألم) كان الله في عونه، هو رجل أعمال، لديه عدة شركات بالديرة، ومشارك في الخارج أيضاً في 3 – 4 شركات لا أذكر، إذا كان بالكويت فلا يعود قبل الثانية عشرة، موزع وقته بين متابعة شركاته بالكويت وبالخارج، أما عن علاقته مع دانة فللأسف سيئة جداً، تتميز بالجفاء وتتجنب لقاءه، وقد يمر الأسبوع دون أن يتقابلا، حتى عندما يعود من السفر تتجنبه.

– لماذا؟

– هو طبعاً كأب حريص على مصلحتها وهو ملتزم، فدائماً يسألها عن تقدمها في الحفظ والصلاة، لدرجة أنني لاحظت أنها كذبت رعباً منه حتى لا يتهمها بالتقصير! هو يحب أولاده جداً ويتعب حتى يوفر لهم أعلى مستوى معيشة، فليس لديه أي وقت لعمل علاقات معهم، ولكن كل شيء وفره لهم، فهم يدرسون في أفضل المدارس الأجنبية بالديرة، وخوفاً على دينهم يُحضِر محفّظين بالبيت، يوجد صالة «جيم» بالفيلا.. كل شيء.. كل شيء.. حتى التعليمات فوق أسرّة كل الأولاد؛ ورد النوم، ورد الاستيقاظ، تعليمات دعاء المذاكرة فوق كل مكتب، حتى عندما أحضر لها الهاتف لم ينس أن يلقي عليها سلسلة من التنبيهات، أنا انتقادي له فقط أن طريقته فيها قدر من الحدة، لكني أعذره فليس لديه وقت للمناقشة معهم، هو يقول عن دانة: إنها متجمدة المشاعر بعكس باقي الأولاد (لها أخت 11 عاماً، والأخرى 9 أعوام، ثم أخ 7 أعوام)، وفي رأيي كل الأولاد لا يبادلونه الحب، لكن دانة صريحة وتقول لي: بصراحة أنا لا أحب أبي!

– ماذا عنك معهم؟

– أنا يا دكتور لا أجد وقتاً أنام فيه، عملي الوظيفي يستهلك تقريباً كل طاقتي، بالإضافة إلى أنني أدرس ماجستير؛ مما يتطلب مني حوالي ساعتين يومياً، وطبعاً متابعة الأعمال المنزلية والخدم خاصة المطبخ؛ لأنني أنا التي أطبخ، وعادة لا أجد وقتاً لمقابلة المدرسين الخصوصيين أو اللقاءات المدرسية، فأكتفي بمطالعة التقرير عن مدى تقدم الأولاد.. نسيت أن أقول لك: حتى أتابع دراستي فأنا مضطرة للسفر كل 3 أشهر إلى لندن لمدة أسبوع.

– ومن يتابع الأولاد في سفرك؟

– نحاول أنا ووالدهم ترتيب هذا الأمر، إلا أنه أحياناً يضطر للسفر ونتركهم لحالهم، لكن الحمد لله توجد شغالة كانت معي في بيت العائلة فهي محل ثقتي، وتعلم نظام الأولاد جيداً، تتولى الأمر في حالة سفرنا أنا وزوجي، لا.. اطمئن يا دكتور لا نتركهم لحالهم مع الخدم، هذه الشغالة لازم أن تكون معهم! وهي المسؤولة أيضاً عن باقي الخدم.

– تحب أن تعرف أي شيء آخر يا دكتور؟

– لا شكراً، وفيتِ وكفيتِ.

– إذن ماذا أفعل مع بنيتي؟ ولماذا فعلتْ ذلك؟

– أنت وزوجك السبب الرئيس.

– قاطعتني مستنكرة، بعد كل ما نبذله من أجلهم!

– نعم، والبنت مجني عليها، ولو بيدي لقدمتكما للقضاء ورفعت عنكما الولاية عن أولادكما، ومن المؤكد أن هذه ليست البداية، فالبنت لا يمكن أن تكون بدأت فجأة هكذا، فقد مرت بمراحل في غفلتكما عنها حتى تتجرأ على براءتها وتطلع على ما ذكرته، وتتبادل كلمات الحب مع شباب، وهي أكيد تعلم كيف تمسح أي نشاط غير أخلاقي من الهاتف حتى لا تطلعي عليه، ولكن الحمد لله لم تتمكن بعد هذه المرة.. دعيني أكن صريحاً؛ لأن الأمر جد خطير، ابنتك في الخطوات الأولى لعاقبة نسأل الله العفو والعافية مدمرة.

– انهارت مقاطعة في موجة هستيرية من البكاء، متى نزورك يا دكتور؟ فالحمد لله حضر والدها أمس من السفر، وأعتقد أنه لن يتأخر عن لقائك، وماذا نفعل معها؟

– لا شيء مطلقاً حتى نلتقي غداً إن شاء الله الساعة السابعة مساء؟

حضرا في الموعد، وكان واضحاً الثورة العارمة التي تتقد في صدر الأب، ولهفة الأم.. بادرني الأب:

– قبل أن أسألك: ماذا عليَّ أن أفعل لتأديب هذه البنت؟ أريد أن أعرف لماذا فعلتْ ذلك؟ وقد وفرت لها..

– قاطعته: لكنك لم توفر لها الأب بكل ما تعنيه الأبوة من حب وحنان وأمان.. والتي تمكنك من القيام بواجبك التربوي، فالتربية هي مجموعة شاملة ومتكاملة من المعارف والمهارات والقدرات، بهدف توليد الدوافع، وليس من خلال التعليمات المعلقة أو الأوامر الصارمة، ولكن من خلال توليد القناعات؛ بهدف بناء وتنمية:

1- السمو الروحي: وقد أوكلت ذلك لحلقات القرآن والشيخ الذي يأتي للمنزل لتحفيظهم القرآن.

2- العقل: وقد أوكلت ذلك إلى مدرسة ممتازة ومدرسين خصوصيين.

3- البدن: ولم تقصر الأم فهي التي تطبخ بالإضافة إلى «جيم» بالمنزل.

4- التربية الوجدانية: لم تجد من توكله ليحب أولادك!

إن التربية الوجدانية هي البنية الأساسية لكل الأنواع الثلاثة من التربية، يجب أن يشعر أولادك بحبك.

– قاطعني: ما في أب بيحب أولاده مثلي!

– نعم، ولكن المهم هل يشعر أولادك بحبك لهم، إنها مسؤوليتك أن تشعرهم بحبك لهم من خلال فيض من التعبيرات الوجدانية الرقيقة واللمسات الحانية ونظرات الحب والتقدير التي من خلالها تغوص في أعماقهم، إن لم يشبع أولادك بحبك فسيبحثون عنه في الخارج، وهذا ما حاولت أن تبحث عنه دانة.

– نعم يا دكتور أدركت الآن، عندما كانت دانة تتعلق بي في طفولتها وكنت أسرع بالهروب منها لانشغالي في بناء أول شركة لي.

– لقد تعودت على عدم وجودك في حياتها، وتيبست مشاعرها تجاهك بانزوائك عنها، ولم تعد تمثل بالنسبة لها شيئاً، وضاعف من عوزها الوجداني انشغال والدتها، رغم تأكيدي على عدم قدرة أحد الوالدين على تعويض غياب الآخر، كذلك مهما بلغ إغداقك المادي عليها فلا قيمة له.

– والحل يا دكتور؟

– أولاً: لابد من إعادة هيكلة وترتيب أولويات حياتكما بالكامل، وأن يكون لديكما القناعات الراسخة بقيمة وأهمية التربية، يقول المولى عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (التحريم:6)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول»، إن الاستثمار في الأولاد هو الاستثمار الحقيقي.

– قاطعني: لديَّ كل القناعات، وفعلاً شاعر بالمسؤولية لما وصلت إليه ابنتي نتيجة تقصيري تجاهها.

– قاطعته مصححاً: بل تقصيركما.

– نعم، وقررت ألا أقضي في العمل أكثر من 6 ساعات وباقي اليوم معهم، ولكن كيف؟

– العلاج يعتمد على بناء ورعاية جسور الحب والثقة، وهذا أساسي ولازم حتى تتفتح قنوات التلقي لدى الأولاد، فتأمن أنفسهم ويأنسوا بكما، لأنه بدون ذلك كل ما تقوله لا معنى له ولا قيمة، فأشعراهم بقيمتهم لديكما وارتوائهم من حنانكما وعطفكما ورعايتكما المعنوية لهم؛ ما يجعلهم يشعرون بالأمان الأسري، فيترفعوا عن أي عبث خاصة في مرحلة المراهقة، وهذا يساعد على بناء الثقة.

– بناء علاقة الحب معهم معروفة.. ماذا عن الثقة؟ أليست سمة شخصية؟

– بلى، لكنها تنمَّى أو تدمَّر، الثقة عدة محاور؛ أحدها أن يثقوا فيك، وهذا مهم جداً لأننا نعتقد أنه بإصدارنا الأوامر وإنذارنا لهم بالعقاب نبعدهم بذلك عن الوقوع في الخطأ، وهذا خطأ عظيم نقع فيه.

طبعاً سوف يخطئون، ولخوفهم من العقاب قد يكذبون أو يخطئون خطأ أكبر حتى يخفوا الخطأ الأول، وتزداد الهوة النفسية بيننا وبينهم، إن ثقتهم فينا تجعلهم يتقبلون – إلى حد كبير – ما نقول، كما أن ثقتهم فينا تجعلهم يلجؤون إلينا لطلب المساعدة مهما كان الخطأ الذي وقعوا فيه.

– قاطعني مستنكراً: يعني نتركهم دون عقاب ليفعلوا ما بدا لهم ثم يأتون لنصلح لهم أخطاءهم؟

– طبعا لاً! لكن حتى يكون العقاب أداة تربوية، يجب أن يقتنع الابن بأن ما فعله خطأ، ويعرف الضرر الذي يترتب على اقترافه، وأن يشارك في منهجية العقاب؛ أي يقترح هو العقاب الذي يناله لو اقترف الخطأ بحيث يكون تدريجياً.

وأود أن أنبه إلى أنه قبل أن نمنع يجب أن نعطي البديل.

– مهلاً يا دكتور، نعود لمحاور الثقة.

– المحور الثاني من الثقة هو ثقتهم بأنفسهم، من أهم أهداف التربية مساعدة الأبناء على بناء وتعزيز ثقتهم بأنفسهم.

– قاطعتني الأم: أنا دائماً أقول: «خلي عندكِ ثقة بنفسكِ».

– جزاك الله خيراً، هذا يهدم الثقة بالنفس!

– إذن كيف نساعد الأولاد على بناء ثقتهم بأنفسهم؟!

– من خلال تحسن الصورة الذهنية الذاتية لديهم، كيف يرون أنفسهم، ومن خلال كلمات التشجيع، والتحدث عن رؤيتنا الإيجابية عن مستقبلهم، في حالة ابنتنا دانة نقول لها: «نحن متأكدون أن ما فعلته خطأ عفوي عابر، نحن على ثقة من أنك على خلق، وتخافين الله، ولكنها نزوة شيطان استغل غفلة نفس، إننا نراك على حقيقتك؛ فأنت ابنتنا ثمرة فؤادنا، دانة الفتاة المسلمة القادرة على إدارة وضبط مشاعرها، وتوجيهها بما يتوافق مع دينها، نتذكر لك باسم الله ما شاء الله (ونذكرها بشيء إيجابي فعلته)»، كما يجب تصديقها.

– قاطعتني الأم مستغربة: نصدقها.. ولا نتأكد من تصرفاتها؟! أنا عادة أسأل كل واحدة منهن على انفراد عن أخواتها ماذا فعلن؟

– هناك فرق بين المتابعة والتجسس، فيمكن المتابعة بالملاحظة وتقييم النتائج، أما التجسس فهو لا يهدم فقط الثقة بالنفس، بل يدمر العلاقة مع الوالدين.

أما المحور الثالث من الثقة فهو الثقة في العلاقة بيننا وبينهم؛ فتعدد العلاقات مع أولادنا من خلال مناقشتنا لكتاب قرؤوه، أو معرض نزوره معاً، أو لعبة محببة لهم نمارسها سوياً، أو المشاركة في تخطيط كيفية قضاء الإجازة الصيفية.. تزيد من ثقتهم في علاقاتهم بنا، ومن خلال تفاعلهم مع هذه العلاقات المحببة إليهم، يعبرون عن ثقتهم في علاقتهم بنا، تتم التربية الحقيقية والمتابعة المانعة للخطأ وليست المعالجة للخطأ بعد وقوعه، المهم وما أؤكده هو أن نبتعد كلية في هذه المرحلة عن الأوامر، ونعتمد على توليد الدوافع.

وأقترح عليكما هذا البرنامج (الذي أراه أيضاً عاماً يجب أن يحرص عليه كل أب وأم):

على الأقل الاجتماع على وجبة طعام تكون فرصة للدردشة، مع الحرص على إعطائهم مساحة وحرية للكلام والانطلاق.

بناء علاقة خاصة مع كل منهم، بحيث يجمعك حديث خاص سواء في المنزل أو من خلال دعوة للتريض أو جلسة بالنادي بهدف الإحساس بقيمة الابنة لديك، وأن تعبر عن مدى اعتزازك وحبك لها، وأن تتعرف على ما يدور بخاطرها من خلال فتح المجال لها بالانطلاق بالحديث، واحذر كل الحذر..

– أحذر ماذا يا دكتور؟

– احذر أن تنتقد أو تعلق تعليقاً سلبياً على ما قد تبوح به البنت من أسرارها.

– بادرت الأم متسائلة: لكن كيف نتعامل مع الموقف الآن، ودانة لم تغادر غرفتها من أمس؟

– البنت متوجسة، شاعرة بالوحدة والخوف والعداء تجاهكما، ولا بد من كسر الحاجز النفسي بينكم من خلال انسياب فيض من المشاعر المتدفقة حتى تعوض الشح الذي عانته، لذا فعند عودتكما تدخلان عليها غرفتها وتناديانها بأعذب الكلمات، ويأخذ أبوها بيدها ويحتضنها، وتدعوها للعشاء في الخارج، حاول ألا تلقنها بل تستنطقها.

– ماذا تقصد يا دكتور؟

– نتوقف عن الأسطوانة المحفوظة من المواعظ، لقد ملّ الأولاد دورنا هذا..

– إذن ماذا نفعل؟

– نتساءل: هل أنت راضية عما فعلت؟ لماذا؟ هل خطأ دانة التي تصلي وتحفظ القرآن، وذات الأخلاق نثق أنه خطأ عارض يجب أن ننساه بل ونلغيه من ذاكرتنا.. بذلك نساعدها على إعادة ترميم صورتها الذهنية عن نفسها واكتسابها الثقة في التحكم في نزواتها ونقرب المساحة النفسية بيننا؟

– جزاك الله خيراً يا دكتور، نوعدك بإعادة سماع اللقاء ومتابعة تنفيذه ونتابع معك إن شاء الله.

– كلمة أخيرة: إن الأوقات التي نقضيها في صحبة ومشاركة الأولاد لها فائدتان عظيمتان؛ الأولى: توثيق علاقتنا بهم فنتعرف عليهم ونتفهم شخصيتهم.

والثانية: أنه من أفضل فترات التربية؛ لأن قنوات التلقي لديهم تكون متفتحة، فتنساب القيم التي نريد التزامهم بها بيسر فترسخ في وجدانهم.

اللهم احفظ ذريتنا وذريتكم وذرية المسلمين أجمعين.

Exit mobile version