نداء الفطرة والتميز الحضاري

في دراسة أعدتها مؤسسة “بي. إي. دبليو”، وهي مؤسسة أبحاث ودراسات أميركية، مقرها واشنطن، نُشرت مؤخرًا، حول تطبيق الشريعة الإسلامية في الدول العربية جاءت نتيجتها تقول: إن أكثر المؤيدين لتطبيق أحكام الشريعة هم في العراق (91% من إجمالي عدد مسلميها البالغ 31.12 مليون نسمة)، يليهم مسلمو الأراضي الفلسطينية (89%)، فمسلمو المغرب (83%)، فمسلمو مصر (74%)، فمسلمو الأردن (71%).

وجاء مسلمو لبنان في ذيل القائمة بـــــ 29% فقط.

والحقيقة أن المتابع للشأن الإسلامي لا يمكنه أن يغفل قراءة نتائج هذه الدراسة في ضوء سلسلة الهزات التي مُنِي بها الربيع العربي في المنطقة، والتي ما زالت توابعها تتوالى رفضًا لما آلت إليه الأوضاع من سوء في شتى مناحي الحياة. وقد تحدثت تقارير مشبوهة ومغرضة عن زعزعة ثقة شعوب المنطقة في الاتجاه الإسلامي عامة والوسطي خاصة، والانحياز لما يسمى بالتيارات المدنية بشتى مشاربها والتي تتخذ من تنحية الشريعة من الحياة المعاصرة شعارًا لها. وقد صُدِم أدعياء هذه التيارات صدمةً مروعة من العيار الثقيل من الانتصارات التي حققها التيار الإسلامي في تركيا، وما أسفر عنه ذلك من تضاعف أرصدته داخليًا وخارجيًا، خاصة بعدما فشل الانقلاب العسكري مؤخرًا.

تأتي هذه الدراسة أيضًا لتؤكد توجهات الفطرة الإسلامية النقية لهذه الشعوب التي مهما تراكم عليها من صدأ وما علاها من أتربة، فإنها تهفو دائما إلى الطهر والصفاء والنقاء (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {30}) (الروم)، كما تأتي نتائج هذه الدراسة لتؤكد قناعة هذه الأمة بأنه لن يصلح أمرها إلا بالعودة إلى النبع الصافي القرآن والسُّنة: “تركتُ فيكم أمرين لن تضلُّوا بعدهما: كتابَ الله جلَّ وعزَّ، وسُنَّةَ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ”، وهذا ما أكده إمام أهل السُّنة الإمام مالك رحمه الله بقوله: “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.

دار الإسلام دار العدل والحرية

إن القارئ المنصف في تاريخ الحضارات يعرف أنه لم توجد شريعة على وجه البسيطة عُنيت بنشر الأمن وإشاعة الطمأنينة في ربوع المجتمع كشريعة الإسلام التي حافظت على المقومات الأساسية لحياة الإنسان، فشدَّدت على المحافظة على الضرورات الخمس وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْمَالُ، وَالْعَقْلُ، وحدَّت حدودا رادعة -لا شفاعة فيها لأحد- لكل من تسوِّل له نفسه الاعتداء على واحدة من هذه الضرورات. فأضحى المجتمع مثاليًا راقيًا فاق المدينة الفاضلة التي تغنَّى بها الفلاسفة، وتخيَّلها المصلحون.

وأصبحت دار الإسلام ينعم فيها بالعدل والحرية والأمن كل من يقطنها دون النظر إلى عقيدته أو عرقه أو لونه، بل واطمأن كل من استظل بظلالها الوارفة إلى أنه لن يُظلم فيها أبدًا، ولو كان الظلم واقعًا من ذوى السلطان، وأنه لن يتردد في المجاهرة بالشكوى لأولي الأمر دونما تردد أو خوف من أن يلحقه أذي.

وخير تطبيق لذلك ما حدث في المجتمع النبويّ من قصة اليهودي زيد بن السمين الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالبراءة عدلاً وأدان السارق المسلم، وعلى هذا النهج من التميز المجتمعي الحضاري رأينا كيف كان تصرف الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المصريّ القبطيّ الذي شكا له تجاوز ابن أميرها عمر بن العاص الهاشمي القرشي، وكيف حكم للمصري بالقصاص من الأمير نفسه أمام أعين الناس جميعًا، ولولا تَأكُد الشاكي من عدل دولة الإسلام ما قطع الفيافي والقفار من مصر حتى وصل عاصمة الخلافة المدينة المنورة للحصول على حق ابنه من الأمير.

أعظم حضارة على وجه الأرض

لم تعرف حضارة في التاريخ كحضارة الدولة الإسلامية التي لم تكن عنصرية يومًا ما، إذ فتحت ذراعيها لكل مبتكر، ورحَّبت بكل مبدع، واحتضنت كل باحث ومكتشف دون النظر إلى دينه أو عرقه أو جنسه، بل وشجعت على الابتكار والاكتشاف، وقصد مناراتها الزاهرة كل محبٍ للعلم وتواقٍ للمعرفة، وتبوأ بعضهم مناصب علمية ومكانات مرموقة عند أولي الأمر وهو على غير دين الإسلام.

وما كان ذلك إلا بفضل جو الحرية الذي أتاحه الإسلام للجميع – كما يقول د. أحمد عبدالحميد عبد الحق- الذي يضيف: هذا فضلاً عن المكانة العالية التي كان يتمتع بها العلماء بين عوام الناس من جانب، ولدى الخلفاء من جانب آخر، حتى كان بعض هؤلاء العلماء يجالسون الخلفاء على أسرتهم، ويأكلون ويشربون ويسمرون معهم، بل كان بعضهم – مثل الخليفة هارون الرشيد – يُوضع أمامه الطعام فلا يقبل عليه إذا تأخر عن الحضور أحد العلماء الذين يجالسونه، ويتمهل حتى يأتي إليه.

وأكثر من ذلك أن خلفاء المسلمين وأمراءهم لم يكونوا ينتظرون حتى يتوافد هؤلاء العلماء على قصورهم المفتوحة لهم، وإنما شرعوا في دعوتهم من سائر الأقطار التي دخلت في حمى الدولة الإسلامية، مثل: العراق والشام وفارس ومصر والهند وأفريقيا والأندلس، فيحضرون إليهم مكرمين، هذا في الوقت الذي كان أندادهم من العلماء في أوروبا يُحقَّرون ويُضطهدون، وتطاردهم محاكم التفتيش في كل مكان؛ فَتُوقع بكل مبتكر منهم سوء العذاب، دون أن يجدوا من ينصفهم أو يدافع عنهم، وقد شجع هذا التحفيز وذالكم التكريم والتقدير العلماء من غير المسلمين على اختلاف مللهم (الصابئة والمجوس واليهود والنصارى) على أن يتسابقوا لتقديم ما عندهم، وشحذ عقولهم للتفكير والاختراع والإبداع، وصاروا منذ أن ضُمت أقطارهم للدولة الإسلامية يشاركون جنبًا إلى جنب مع العلماء المسلمين في ترسيخ الحضارة الإسلامية، ولم يألوا جهدًا في تقديم العون لها.

هكذا بلغت الحضارة العربية الإسلامية أوجها تحت مظلة شرع الله، وهكذا قدمت للإنسانية أعظم حضارة على وجه الأرض جمعت بين التقدم الروحي والمادي.لكن لما ابتعد المسلمون عن شرع الله، حلَّ بهم ما رأينا فتقطعت بهم السبل وصاروا لقمة سائغة لكل طمَّاع، ولما أفاقوا وجدوا أنفسهم تحت نير الاستعمار الذي حاول أن يغير من صبغة هذه الأمة، واتجه بعض من وسموا أنفسهم بالتنويريين وقد صُبغوا بصباغ  المستعمر إلى الانفتاح على الغرب واستيراد تجاربه علها تنهض بالبلاد،وقد بلغ بهم الارتماء في أحضانه أن حاولوا تغيير المفاهيم والأفكار حتى سمُّوا الاحتلال والغزو (خاصة الفكري) انفتاحًا وتنويرًا.

فمرت هذه الشعوب بتجارب شتى فُرضت عليها قصرا باسم الحداثة والتنوير والقومية والليبرالية، أبعدتهم عن جوهر الدين الحنيف فماذا كانت النتيجة؟ التفرق والتشرذم والانحطاط الفكري والحضاري والتأخر العلمي والتقني.. والدخول في نزاعات وحروب ما إن تنتهي حتى تبدأ، وصارت ثروات بلادنا مطمعًا لكل مستعمر في القديم والحديث، وأضحت أمم لم تشرق عليها شمس الحضارة إلا متأخرًا تسبقنا بمراحل، وصرنا مستهلكين ننتظر ما تجود به علينا عقولهم من مخترعات ومنجزات، ونكتفي نحن بكوننا مصدراً للمواد الخام دون أن نُعمل عقولنا كما اعملوها.

رسالة سرور وفرح

يأتي تقرير هذه الدراسة ليكشف عن توجه الفطرة وسلامتها من الزيف، لأنها صنع الله الذي أتقن كل شيء، وهو نداء قوي للعودة إلى دين الله وشرعه الحنيف، وعودة حميدة إلى أن تكون لنا الريادة والتميز الحضاري كما كنا.

يأتي هذا التقرير ليؤكد من جديد الرغبة الحقيقية من شعوب الأمة في النهوض والقيام من الكبوة لممارسة الدور الحضاري الذي يُنتظر من بني الإسلام، والتمرد على هذا الواقع الأليم الذي صرنا به أضحوكة العالم رغم كــثرة عددنا ووفرة مواردنا وتنوع ثرواتنا. فقد خسر العلم كثيرًا بانحطاط المسلمين، ولم تكن الخسارة محصورة في المسلمين دون غيرهم.

يأتي هذا التقرير ليؤكد على بلوغ هذه الشعوب مرحلة وصل فيها السيل الزبى، ولم يبقَ في قوس الصبر منزع، وقد ضاق الجميع بفِرَى دعاة التنوير والمستغربين الذي تبرؤوا من تراثهم، ورأوا فـيه سببًا في التخلف وقيدًا يحول دون الإبداع.

يأتي هذا التقرير ليفجع هؤلاء جميعا من النخب المنافقين وأدعياء القومية وأذناب الانحلال والمدنية في مصابهم الأليم الذين عملوا كثيرا  وبِدَأبٍ على طمس الهُوية وتضييع المعالم.

يأتي هذا التقرير ليبعث برسالة سرور وفرح لكل محب لشرع الله، وكل راغب إلى الله، وكل مُؤمِل في خيرية هذه الأمة التي من أخص ما اتصف به حبها للخير وأمرها به، وبغضها للمنكر ونهيها عنه: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ {110}) (آل عمران).

يأتي هذا التقرير ليبشِّر بقرب استجابة دعاء الصالحين من أبناء هذه الشعوب: “اللهم ائذن لدينك أن يعود، ولشرعك أن يسود، و قرآنك أن يحكم و يقود.”وما ذلك على الله بعزيز.

باحث في علوم اللغة – قطر.

Exit mobile version