مراجعات الإسلاميين.. دراسة في تحولات النسق السياسي والمعرفي

تأتي هذه الدراسة للكاتب والباحث المغربي بلال التليدي، المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، لتدخل مراجعات الإسلاميين وتحولاتهم الفكرية والسياسية إلى مشرحة التحليل، ولتتعاطى مع أبعاد ظاهرة المراجعات في توترها وديناميتها وأنماط علاقاتها التفاعلية، وتجتهد في بحث جميع العلميات التي تمر منها هذه التحولات، مع تقديم نموذج تفسيري يجمع أجزاءها، ويقدم الإجابات عن النتائج التي تركتها الدراسات السابقة.

يحاول المؤلف الكشف عن أعطاب تلك الدراسات من خلال الخطاطات الفكرية والمدونات الأساسية لأصحاب تلك المراجعات في الحركات الإسلامية، محاولاً الكشف عن طبيعتها، ويقدم مسحاً عاماً للمراجعات الإسلامية في سياقاتها المختلفة من الخط الجهادي إلى الخط السلمي، ومن العمل الثوري إلى النضال الدستوري.

طبيعة مراجعات الإسلاميين

الناظر إلى طبيعة المراجعات التي تقوم بها الحركات الإسلامية وما يميزها، وفقاً لما رصده المؤلف يجد أنها تجمع بين البعد السياسي والبعد المعرفي؛ أي بين مراجعة الموقف السياسي من السلطة القائمة، أو من مكونات الطيف السياسي والمدني أو من المجتمع بشكل عام، وبين عملية التأصيل المستمدة من الأفهام المقدمة للنص الشرعي، أو من التعاطي مع التراث الإسلامي الأصولي والفقهي منه على الخصوص.

فمراجعة الموقف السياسي لا تنفك عن عملية التأصيل، إذ يتلازمان تلازم الحكم الشرعي مع آليات استنباطه؛ مما يجعل المراجعة في الأخير مراجعتين؛ مراجعة في الفكر (المواقف الفكرية والسياسية)، ومراجعة في أدوات إنتاجه (البناء الأصولي للموقف).

دواعي المراجعات

يشير المؤلف إلى أن تفسير هذه المراجعات الجريئة التي قامت بها الجماعات الجهادية والتي حدثت من داخل السجن، إنما يوعز وبدرجة أساسية إلى التقييم الذي حصل، والحوارات التي انطلقت بين قيادات هذه الجماعات على مستوى مجموعة من المفاهيم التي كانت مؤسسة للعمل الجهادي ولذلك، فلا عجب أن نجد من داخل هذه المراجعات تأصيلاً كثيفاً لشرعية مراجعة الأقوال والمذاهب الفقهية، وأن التراجع عن قول إلى قول إذا ظهر ما يبرره أمر محمود شرعاً، بل إنه المطلوب شرعاً، وهو جواب استباقي لكل عملية انتقاد تحاول أن تصور المراجعات، بما هي اختيار فكري مبني على تأصيل شرعي وواقعي يراعي المصلحة الشرعية ومصلحة الدعوة، على أساس كونها عملية تراجع سياسي، مصدرها جبن أو خضوع، أو حتى تسوية سياسية على حساب الدعوة.

التحولات الفكرية والسياسية

بحث المؤلف مراجعات الإسلاميين؛ الجهاديين منهم، وغير الجهاديين، سواء منهم من اختار المشاركة السياسية، أو من فضل تبني الخيار السياسي السلمي من خارج العملية السياسية، وقسم الدراسة إلى ثلاثة فصول، خصص الأول لتحديد المفاهيم، بما يمكن من حصر مجال الدراسة وتدقيق مفرداتها، حيث تناول في الفصل الأول مفهوم المراجعات بما يتسع لاستيعاب أشكال كثيرة من التحولات التي عرفتها الحركات الإسلامية؛جهادية كانت أم غير جهادية، وخصص المبحث الثاني منه لرصد ثلاث حالات مراجعات قدر أنها تمثل التوجهات الثلاثة المستوعبة لكافة التحولات التي عرفتها الحركات الإسلامية بمختلف أطيافها، وقدم توصيفاً دقيقاً لمفاصل هذه المراجعات وخطواتها العامة.

الأنساق المعرفية الثلاثة

تناول المؤلف في الفصل الثاني الأنساق المعرفية الثلاثة التي تنظم خطاطات الإسلاميين السياسية، وقدم تفسيراً عميقاً للمناهج الأصولية لاكتشاف الخطوط العامة لنظرية المعرفة السياسية التي تجمع تفاصيل هذه الحالات الثلاث، المندرجة تحت مسمى الظاهرية السياسية، مع بسط الدوافع المنهجية والمفهومية التي بررت اختيار الظاهرية كمفهوم مؤطر، وتبرير العلاقة بينها وبين الظاهرية كما ارتسمت في التراث المعرفي الإسلامي.

تفسير ظاهرة المراجعات

في الفصل الثالث، قدم المؤلف نموذجاً تفسيرياً لمراجعات الإسلاميين، معللاً ظاهرة تحولات الإسلاميين وانعطافهم نحو المراجعات لعدة مداخل، هي:

– مدخل الاندماج في العملية السياسية: فدخول الإسلاميين في العملية السياسية هو الذي يدفعهم بشكل متدرج إلى إجراء تحولات عميقة في الرهانات والخطاب ونظريات العمل، وتقوم هذه العملية السياسية على قواعد اللعب، وهي التي تضطر الإسلاميين إلى تكييف معتقداتهم وصياغتها في شكل سياسات عمومية، ومحاولة التدافع السياسي لتمريرها وفق الآليات الديمقراطية.

– مدخل الخطاب الفكري للتنظيم: فالحركات الإسلامية التي تبنت في الأصل أسساً فكرية رافضة للعنف لم تجد أي عائق يمنعها نحو التحول في فكرها وسلوكها السياسي، بخلاف الحركات التي تبنت العنف، فإنها لم تستطع أن تطور أطروحتها السياسية حتى لو اضطرت لاعتبارات تكتيكية – مرتبطة بتعذر توافر الشروط – لإيقاف العنف.

– مدخل الديمقراطية الداخلية: فالتنظيمات الإسلامية التي تتمتع بديمقراطية داخلية تستطيع أن تراجع مواقفها وتُحدث تحولات في خطابها وسلوكها السياسي من غير خشية على وحدة التنظيم، ذلك أن هذه الديمقراطية الداخلية تمثل حصانة حقيقية للتنظيم، وأداة لتصريف الخلافات داخل القيادة وبين الأجيال داخل التنظيم الواحد.

– مدخل الشرعية القانونية: فالحركات الإسلامية المعترف بها قانونياً، عرفت تحولات في خطابها الفكري والسياسي، في حين ظلت الحركات الإسلامية المحظورة خارج هذه الدينامية.

– مدخل السقف الزجاجي: ذلك أن شكل النظام السياسي يعتبر محدداً رئيساً في تفسير مراجعات الإسلاميين والتحولات الفكرية والسياسية؛ وتبعاً لذلك، تم ترشيح حزب العدالة والتنمية بتركيا والإخوان المسلمين بالأردن كحركات معتدلة، ويتم تصنيف حركة الإخوان المسلمين المصرية كحركة متطرفة عصية على المراجعات.

– مدخل الحرية والليبرالية الاقتصادية: حيث يرى أن تحولات الحركات الإسلامية في اتجاه الاعتدال مرتبط بمؤشرات الانفتاح الاقتصادي والقدرة على الاستجابة لمتطلبات الاندماج في الأسواق العالمية، وتعويض الفئات الاجتماعية التي لم تستفد من هذا الانفتاح الاقتصادي.

– مدخل التثاقف: وتقوم المقاربة التي تتبناه على الفرص التي تتاح للحركات الإسلامية وقياداتها للإفادة من التجارب الأخرى، وأنه بقدر الاحتكاك بهذه التجارب يحصل قدر من التأثر بإجاباتها وأشكال تعاطيها مع القضايا، مثال إفادة التجربة التونسية من التجربة السودانية وكيف اعتبرتها تجربة ملهمة.

خلاصات الدراسة

سجل المؤلف في ختام دراسته لمراجعات الإسلاميين جملة من الخلاصات التي يمكن أن تحدد بعض الاستشرافات المرتبطة بمآل ظاهرة المراجعات، منها:

1- أن المراجعات لم تكن أمراً لصيقاً بالحركات الجهادية فقط، ولا حتى بالحركات الإسلامية التي تجاوزت النسق القطبي أو المودودي، وإنما ارتبطت بتحولات النسق السياسي والمعرفي الذي تعرفه الحركات الإسلامية.

2- أن قضية المراجعات ليست مرتبطة فقط بالإسلاميين، وإنما ظاهرة تعرفها كل التيارات السياسية في الوطن العربي، فالحركات اليسارية خاضت نفس المخاض الذي عرفته الحركات الإسلامية، وفارقت تجربة العنف وتخلت عن الخيار الثوري والانقلابي، وأنتجت العديد من المقولات التي أسستها بناءً على أرضيتها النظرية والأيديولوجية لتبرر بها الانتقال مما كانت تنعته في السابق بالخيار «الإصلاحي» إلى ما صارت تسميه اليوم بالخيار «الديمقراطي».

3- أثبتت الدراسة في مستوياتها الثلاثة أنها لا تتجاوز الموقف السياسي، ففي حالة الجماعات الجهادية تدور كل محاور المراجعات على إبطال المسوغات الشرعية والواقعية للخيار الجهادي، وفي الوقت نفسه تصحيح القناعات بهذا الشأن، وفي حالة باقي المكونات الإسلامية، تطال المراجعات قضية الموقف من السلطة على النحو الذي يظهر مرونتها واعتدالها وواقعيتها وقبولها الاندماج في اللعبة السياسية وتبنيها للديمقراطية والتداول على السلطة.

وفي المستوى الثالث للمراجعات، تركزت التحولات على فكرة الانتقال من العمل السياسي المؤطر بمنطق الدعوة إلى العمل السياسي المؤطر بمنطق السياسات العمومية، كما تركزت على فكرة التخفيف من المدخل القيمي والهوياتي لصالح مدخل الدمقرطة والحكامة، ففي جميع هذه المستويات الثلاثة، تتسم توجهات المراجعات بكونها تركز على البعد السياسي أكثر من تركيزها على شيء آخر.

4- أن النسق المعرفي المقاصدي الذي أثبت قدرته على مواكبة تحولات الإسلاميين وتسويغها، وأثبت أيضاً قدرته على مواجهة التحديات التي تواجهها الحركات الإسلامية ليس فقط على المستوى المنهجي والفقهي، وإنما على المستوى السياسي، وأثبتت الدراسة قدرة هذا النسق المعرفي على تدبير التوترات الداخلية؛ فحيثما حضرت المقاصد، استمر التنظيم وتطورت أطروحته السياسية والفكرية وتعززت آلته التنظيمية، واستطاع الفاعل الإسلامي أن يمر من مرحلة التفاعلات من غير خسائر، بل استطاع أن يشغل «التغذية الراجعة» بفعالية أكبر.

مفاد هذه الخلاصة؛ أن كل الأعطاب والاختلالات الوظيفية التي كان الإسلاميون يواجهونها في نسق التفاعلات الملموس، وجدت حلولها مع النسق المعرفي المقاصدي.

بلال التليدي في سطور

– كاتب وباحث مغربي.

– متخصص في شؤون الحركات الإسلامية.

– حاصل على دبلوم الدراسات المعمقة في الفكر الإسلامي من جامعة محمد الخامس بالمغرب.

– عضو اللجنة العلمية بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي.

– كاتب وصحفي بجريدة «التجديد» المغربية.

– له الكثير من الإسهامات البحثية، منها: ذاكرة الحركة الإسلامية المغربية، الإسلاميون والربيع العربي، الإسلاميون ومراكز البحث الأمريكية، حوار مع النخبة العلمانية في المغرب.

Exit mobile version