علماء ودعاة يرسمون خارطة طريق للمسلم بعد رمضان

ـ حرص المسلم على قبول أعماله في رمضان يقتضي الحرص على سلوكياته والثبات على الطاعات التي كان يؤديها فيه 

ـ أروع جنْي المسلم لثمار رمضان هو إيمانه المطلق بآخر آية نزلت في القرآن الكريم «اليوم أكملت لكم دينكم»
ـ رمضان مدرسة الحرية الكبرى التي تعد أحد مناطات التكليف وهي القيمة العظمى التي يكون بها الإنسان إنساناً

 

تحقيق: مجاهد بهجت – مراد عقل – علي عليوة – عبدالباقي خليفة – عبدالعالي زواغي – محمد ولد شينا – عبدالغني بلوط

يأتي شهر رمضان كل عام ليفتح الله سبحانه وتعالى فيه أبواب الجنة للصائمين؛ ليجددوا توبتهم، ويصوموا صومهم، وينالوا الثواب العظيم، ويقبضوا جوائزهم يوم عيد الفطر السعيد.
فشهر رمضان يمثل فرصة تجتمع فيها العوامل المساعدة على رفع منسوب الإيمان؛ مثل: تصفيد الشياطين، وتقوى الصيام، ونور القيام، وطهارة الزكاة، والوجهة الجماعية إلى الخير؛ وهو ما يوفر إشاعة للخير وعوناً عليه، وانحساراً للشر وإدباراً عنه.
ولكن تظل الأسئلة التي تطرح نفسها في نهاية رمضان من كل عام: وماذا بعد رمضان؟ كيف يمكن للمسلم جني ثمار حصاده في رمضان بعد العيد؟ ثم.. أليس رب رمضان هو رب باقي السنة؟ فالناس يقبلون على الطاعة في رمضان ثم ينصرفون عنها بعد رمضان، فما أبرز التحديات والعوائق التي تحول بينهم وبين الاستمرار على نفس المعدل من العبادات والطاعات؟
كل هذه التساؤلات وغيرها توجهت بها مجلة «المجتمع» إلى عدد من العلماء والدعاة في أنحاء مختلفة من العالم، وفي السطور التالية نعرض لإجاباتهم ورؤاهم حولها:
رمضان والتغيير المنشود
في البداية، يقول الداعية المغربي د. رشيد الحمداوي: كثيراً ما نصف رمضان بأنه فرصة لإحداث تغيير إيجابي في سلوك المسلم، ولكننا لا نرى أثر ذلك على الواقع إلا قليلاً.
ويضيف الحمداوي: من علامات قبول الصيام والقيام في رمضان أن يكون بعد رمضان أحسن حالاً مما قبله، وحرصه على قبول أعماله يقتضي أن يحرص على الاستفادة السلوكية من رمضان والثبات على الطاعات التي كان يؤديها فيه.
ومن أجل تحقيق ذلك يؤكد أنه لا بد أن نستحضر عند صيامنا عدة أمور:
أولاً: إن التغيير الإيجابي لا يحصل إلا إذا كان مقصوداً، وتزكية النفس وإصلاح العمل في رمضان لا تحصل للمسلم إلا إذا كانت هدفاً حاضراً في ذهنه، يسعى إلى تحقيقه ليوافق المقصد الشرعي الذي أراده الله تعالى من تشريع الصيام، وهو اكتساب التقوى كما بينه تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} (البقرة).
والتقوى هو امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ظاهراً وباطناً، ولهذا لا بد للصائم من أن يصحح قصده في أيام رمضان ويجعل التقوى غايته، وأن يستحضر أن كل يوم منه اختبار لصبره وطاعته، ونتيجةُ نجاحه في الاختبار هو تهذيب سلوكه وترقيته في مدارج الإحسان.
ثانياً: التغيير الفعال هو التغيير الواعي الذي يحدثه المرء باختياره، لا التغيير الذي يكون قسراً أو لسبب خارجي، فمن صام وصلى التراويح لكونها عادةً درج عليها الناس لن يستفيد أي فائدة رمضان، ولن يحصل له أي تغيير بعد مضيه، وإنما يَنتفع المسلم بالصيام والقيام إذا أخلص النية فيها لله وحده، واحتسب ثوابها عند الله، وتجرّد من دوافع التقليد وتأثير العادة وبواعث الحياء من الناس، وهذا ما رتب الله عليه نيل المغفرة، وقد نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه الشيخان).
ثالثاً: التغيير السلوكي لا يكون راسخاً إلا إذا نبع من الداخل، أما التغيير السطحي فسرعان ما يزول، وإنما يغير الصائم سلوكه إذا أصلح باطنه وزكى نفسه، ولا يكون كذلك إلا إذا استحضر أن الصيام الحق ليس هو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج فحسب، وإنما هو الامتناع عن سائر المحرمات كما أشار إليه النبي عليه السلام بقوله: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (رواه البخاري)، فإذا صان الصائمُ لسانه وسمعه وبصره وسائر أعضائه عما حرمه الله عليه، وجاهد هواه، وبقي على هذه الحال ثلاثين يوماً؛ فسيصير ذلك عادةً له، ويسهل عليه ضبط نفسه في باقي الأيام والشهور.
رابعاً: التغيير الفعال هو الذي يغرس سلوكاً معيناً حتى يصير راسخاً في النفس، وهذا يلزمه التدرج، ولكي يترسخ الإقبال على الطاعات في النفس حتى تثبت عليها بعد رمضان لا بد من التركيز فيها على الكيف لا على الكم، وعلى حضور القلب لا على حركات الجوارح.
إن أكثر ما ينصرف إليه المسلم الصادق في رمضان هو الاستكثار من تلاوة القرآن وختمه أكثر من مرة، والحرص على صلاة التراويح كاملةً بركعاتها العشر أو العشرين.. ولكنه بعد رمضان ربما لا ينشط لإكمال ختمة واحدة في الشهر، ولا يحمل نفسه على قيام شيء من الليل ولو بركعتين، ولو أنه اهتم بتدبر القرآن لذاق فيه حلاوة تبعثه على مداومة تلاوته، ولو حرص على الخشوع في الصلاة أكثر من حرصه على الاستكثار من ركعاتها لوجد في مناجاة الله لذة تحمله على المواظبة على نوافل الصلوات.
خامساً: لا يستطيع المرء أن يجني ثمار رمضان ويثبت على الأخلاق التي تعلمها منه إلا بتوفيق الله تعالى؛ إذ لا حول لنا ولا قوة إلا بالله، وما توفيقنا إلا به سبحانه، ولذلك لا محيد لنا عن الإكثار من الدعاء.
ويختم د. رشيد بالتأكيد على أن الذي يرجو أن يتحول حاله في رمضان إلى حال أحسن لا بد أن يستحضر في كل يوم منه أنه في دورة تدريبية ناجحة، كل يوم منها إن قضاه بضوابطه وآدابه سيقربه من هدفه، ويغير من سلوكه، ويرفعه إلى مصاف المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وربما يكون ممن بلغ درجة يستحق فيها أخذ براءة نهائية من النار، فلا يدخلها أبداً.
وفي هذا السياق، يرى د. داتو عبد المنير يعقوب، نائب رئيس الجامعة الإسلامية الماليزية، والأستاذ بقسم القانون المقارن بالجامعة، أنه يجب أن يستفيد جميع المسلمين – وخاصة المكلفين – بتحسين أعمالهم منتفعين من مدرسة رمضان، ليس فقط لأنفسهم ولكن أيضاً للبشرية عامة، ويجب على المسلمين الحد من الصراعات بينهم مهما بلغ الخلاف والشجار؛ لأن القرآن يعلمنا أن نلجأ إلى السلام والتفاوض وحسن الخطاب والمعاملة الحسنة للآخرين.
ويضيف: كلما تكرر شهر رمضان الكريم، ومع عودة زيارته في كل عام، يجب على المسلمين أخذ الدروس منه بقوة التمسك بالقيم والمبادئ الإسلامية العالية لتحسين حياتهم الروحية والاجتماعية، وكذلك لتقديم صورة الإسلام الحقيقية، وتحسين تصور الآخرين له بإثبات أن الإسلام هو دين السلام، ويمكن أن يتعايش المسلم مع غير المسلين في وئام، ولا ينبغي للمسلم أن يسمح بالإساءة في فهم الإسلام وترويج الشائعات والتضليل عنه.

جني الثمار
ويؤكد الشيخ عكرمة صبري، رئيس هيئة العلماء والدعاة في فلسطين, رئيس الهيئة الإسلامية العليا, خطيب المسجد الأقصى المبارك؛ أن أروع جني المسلم لثمار رمضان هو إيمانه المطلق بآخر آية نزلت في القرآن الكريم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة:3).
ويضع الشيخ خارطة طريق للمسلم حتى يستطيع جني ثمار رمضان والاستفادة من التغيير الإيجابي الذي اكتسبه خلال هذا الشهر الكريم، وتتمثل هذه الخريطة في النقاط الآتية:
1- ترسيخ الصبر في النفس البشرية والابتعاد عن الغضب.
2- هجر المعاصي والامتناع عن فعل المنكرات.
3- الابتعاد عن الألفاظ المذمومة.
4- المحافظة على مشاعر الناس وتجنب كل ما يجرح شعورهم.
5- تعويد النفس على قيام الليل ﻻ سيما بعد انتظام على أداء صلاة التراويح في رمضان.
6- أداء الصدقات وتقديم العون للآخرين في كل الشهور خاصة بعد دفع الزكاة وصدقة الفطر في رمضان.
7- يستحيي المسلم من الله؛ وبالتالي فهو ﻻ يرتكب المحرمات في السر والعلن وسواء بينه وبين نفسه أو بين الناس.
8- تعزيز صفة التسامح وحب الخير للآخرين ونبذ التباغض والخصومة، حيث إن انتشار العداوة بين الناس يؤدي إلى تفكك المجتمع.
9- تعزيز صلة الرحم والتواصل وزيارة اﻷقارب في كل شهور السنة وتحريم التدابر والقطيعة وهجران المحارم.
10- الحرص على أداء الصلاة جماعة في المسجد.
11- اﻹكثار من الدعاء والالتجاء إلى الله في السراء والضراء.
12- متابعة تلاوة القرآن الكريم بعد شهر رمضان، والحرص على فهم معاني كلماته وتفسير آياته والعمل بما جاء فيه من أوامر في مختلف مجاﻻت حياة المسلم.
ويؤكد الشيخ أن تلاوة المسلم للقرآن الكريم خلال شهر رمضان تجعله قريباً من الله تعالى، بحيث يستفيد من معاني وتفسير الآيات كي يأخذ العظة والعبرة في مواقف حياته طوال العالم.
أما د. نور الدين الخادمي العالم، أستاذ التعليم العالي بالمعهد الأعلى لأصول الدين بتونس، فذكر أن رمضان كان له حضور دائم ومستمر على مدار السنة في نفوس سلف هذه الأمة وعلمائها؛ وهو ما جعلهم على مستوى من التذكر والاعتبار والعمل بآداب وأحكام وقيم الدين الإلهية من أجل إنسانية خيرة متوازنة ومتكاملة وفاعلة.
وأكد الخادمي أن رمضان محطة مهمة بالنسبة للمسلمين، وهي تتويج لسنة كاملة من العمل والإنتاج والعبادة، وهو مدرسة للتضحية والفداء بأقرب شيء لحاسة الإنسان؛ وهو طعامه وشرابه لحين من أجل الأسمى والأرقى في عاقبته، ورمضان انطلاق متجدد لمرحلة زمنية ترد بعد هذا الشهر من كل سنة.
«كما أن شهر رمضان مدرسة التغيير الإيجابي؛ فهو مدرسة الحرية الكبرى».. هذا ما ذهب إليه د. حمدي عبيد، الأمين العام للهيئة العالمية للسُّنة النبوية، حيث يقول: عبودية الصيام الحق تمثل وسيلة فعالة في استعادة التوازن النفسي والجسدي بل والاجتماعي للفرد المسلم إن قام بحقها، وفيها يرتقي بروحه ويتخلى عن العادات السيئة والأخلاق الرديئة في الوقت الذي يستعيد فيه صحته وعافيته الجسدية مع ما يحققه فيه من توازنه الاجتماعي مع أرحامه وجيرانه والفقراء والمساكين، وبه تقوى أواصر المحبة والترابط بين أفراد المجتمع وفقاً للقاعدة التي تقول: «إذا صلح الفرد صلح المجتمع».
وتابع عبيد: فكما أن شهر رمضان مدرسة التغيير الإيجابي؛ لأنه ثورة على انحرافات النفس، وثورة على العادات الضارة في الفرد والمجتمع، وثورة للقضاء على الأعراف الفاسدة.. ثورة عمادها الصبر والمجاهدة، فهو أيضاً مدرسة الحرية الكبرى التي تعد بعد العقل أحد مناطات التكليف وهي – أي الحرية – القيمة العظمى التي بها يكون الإنسان إنساناً؛ ولذلك يخرج المسلم من رمضان وقد تحرر من قيود الشهوة وضواغطها، وتعلم كيف يخلص قلبه لله جل وعلا، وأن يدرك قيمة الوقت وواجباته، ودقة الالتزام والطاعة في المعروف، وبما يغرسه من روح الدقة والنظام والانضباط.

رمضان واستعادة الريادة
وبالانتقال من الأثر الفردي لشهر رمضان إلى الأثر الجماعي، ودوره في إرساء القيم الحضارية في المجتمعات؛ يقول د. نور الدين الخادمي: النفس في القرآن هي نفس الفرد ونفس الجماعة ونفس الأمة، وقد جاء الخطاب القرآني في المستويين، جاء بمستوى نفس الفرد أو الإنسان المكلف الفرد، كما جاء بخطاب نفس الجماعة؛ {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24‏)} (الصافات)، وجاء: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128)} (التوبة)، والمجتمع نفس عامة تتركب من الأفراد والأمة نفس واحدة، وما يعرض على النفس الفردية يعرض على الجماعية، وما يعتري النفس الفردية من صراعات ونزاعات وعتاب ومصالحة يعتري الجماعية.
ويضيف: يمكننا أن نتحدث عن نفس المجتمع الأمارة، والمسولة واللوامة والمطمئنة، وما يحدث في المجتمع على مستوى بعض القوى، أو الأحزاب السياسية والمنظمات والهيئات، والمحاكم، والمجالس تعبيرات عن أنفس تجري بينها تدافعات.
ويؤكد الخادمي أن ما نشاهده في البرلمانات هو شكل من أشكال اللوم، وما نشاهده من مظالم هو شكل من أشكال التسويل والأمر بالخطايا، ورمضان هو الدواء لكل ذلك لمن فقه بحكم أنه مولد للتقوى؛ {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)} (المائدة).
ويضيف: حتى المحاسبة تكون جماعية كما نفهمها من قوله صلى الله عليه وسلم: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»، فكثير من مصالح الأمة ستقع فيها محاسبة جماعية أمام الله؛ إذ إن كل فئة، وكل اختصاص، وكل وظيفة تخضع لتنظيم هيكلي، تمثل نفساً جماعية، معنية ضرورة بقيم رمضان، وبتنزيلها في واقعها حتى تصلح وتصلح الحياة بصلاحها، وحتى نصل إلى المجتمع المطمئن المنتصر على شرور التسويل والأمر بالجرم المشهود، من خلال اللوم والمحاسبة والإصلاح.
أما د. حمدي عبيد، فيؤكد أن الأمة عندما تتربى على القيم الرمضانية تصبح قادرة على العمل في مشروعها الحضاري الذي أساسه توحيد الله تعالى وحده لا شريك له وعمارة الأرض وتحسينها والدعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة، والحرية أساس ذلك ولبه، فالروح الخانعة والنفس الذليلة واليد المرتعشة لا تقيم حضارة ولا تحقق مدنية.
وذكر أن فريضة وعبادة الصيام مدرسة تربوية جماعية يجني ثمارها الفرد والمجتمع بأثره حيث يتشارك فيها كل أفراد المجتمع الإسلامي بمعناه الواسع (الأمة) لتدريب النفوس على التحرر من عبودية الأهواء والشهوات وإعلان العبودية الخالصة لرب الأرض والسماوات.
وشدد د. حمدي عبيد على أنه في الوقت الذي يعمق فيه شهر رمضان واجتماع المسلمين في شرق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها على صيامه والتقيد بآدابه، يعمق ذلك كله روح ومفهوم الأمة الواحدة الكبيرة يقول الله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} (المؤمنون)؛ فتنمي تلك الوحدة العقدية للأمة الإسلامية الوحدة الشعورية بين أفرادها ليصبحوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، في عصر يتميز بظهور الكيانات الكبرى على أسس اقتصادية وعرقية وجغرافية، فالمسلمون أولى بأن يعودوا أمة واحدة كما أراد الله تعالى لهم ذلك.
وحول كيفية الاستفادة من حالة التغيير الإيجابية التي اكتسبها الفرد المسلم للخروج من حالة التمزق والتراجع الحضاري التي يعاني منها المسلمون حالياً، أكد أن الأمة الإسلامية لن تستعيد دورها وريادتها الحضارية إلا باستعادة الإنسان المسلم أولاً الملتزم بدينه بعد أن تم تغريبه عن عمد، فالحضارة هي حضارة الإنسان، والإنسان هو عماد أي حضارة، والوجود الحضاري يقوم بعد عون الله تعالى على الإنسان ذاته، فالإنسان حامل الأمانة هو المستخلف في الأرض، يقول الله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود:61).
وتابع قائلاً: ومن هنا، فإن الأمة الإسلامية لن تستعيد دورها وريادتها الحضارية إلا باستعادة الإنسان المسلم لذاته وتمسكه بعقيدته وتطبيق الشريعة على أرض الواقع؛ لأن حضارته الإسلامية قوامها العقيدة والشريعة، وذلك على عكس باقي الحضارات التي لم تنسب لجنس ولا لعرق ولا للون ولا لرقعة جغرافية أو دولة، وإنما نسبت دون باقي الحضارات إلى دين الإسلام؛ فسميت بالحضارة الإسلامية.
ويرى د. عبيد أن الصيام الحقيقي بما يمتلكه من منهج إسلامي متكامل يفي بالحاجات التربوية والمطالب التكوينية للإنسان، والمجتمع إحدى الوسائل الناجعة لاستعادة ذلك الإنسان المسلم وانتشاله من تأثير المناهج الجاهلية ورواسبها، وبذلك يتم إصلاح المجتمع ليتمكن من القيام بدوره، ويستعيد دوره الحضاري العالمي الذي افتقده بسبب الابتعاد عن تعاليم الإسلام.
وحول هذا المعنى، يقول د. عبدالرزاق قسوم: إذا كان الصوم كعبادة، وكقيمة إنسانية عليا، يسمو بنا عن أنواع الشّهوات الآدمية الحيوانية، كالأكل وأنواع المتع المختلفة، فهو يبوئنا المكانة الإنسانية العليا، بحيث نغدو كالملائكة البشر، في سلوكنا، وتفكيرنا، وثقافتنا العامّة.
هذا هو ما يفعله الصوم فينا، إذ يغسل قلوبنا، وعقولنا من كلّ أنواع الآفات المقيتة، كالغيبة والنميمة، والحقد والضغينة، ويطهّر سلوكنا من داء الغشّ، والخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.

عقبات وتحديات
أما بعض العقبات والتحديات التي قد تحول دون جني الفوائد المرجوة من مدرسة رمضان، في رمضان وبعده، فيلخصها د. نور الدين الخادمي في إشكالية تفهم فلسفة رمضان، ومقاصد رمضان، وحكمة رمضان، وقيم رمضان، وتنزيلها في الواقع.
فـالبعض – حسب الخادمي – يؤدي أحكام الصيام وآدابه، ولا يلتفت إلى قيمه وأسراره؛ فالذين لم يستوعبوا رسالة رمضان في جوانبها الثقافية والحضارية يساهمون في تعطيل الروح التي يمكنها أن تسري في جسد الأمة فتشفيها وتوقظها وتفعلها وتداوي جراحها وتجمع شتاتها وتؤوي مشرديها وتطعم جائعيها، وتعلم جاهليها، وتبني مجدها، لذلك لا ننفك ندعو لتمثل قيم ومقاصد رمضان في رمضان وبعده، فرمضان إن لم يجعل من الإنسان ربانياً، فلن يكون حتى رمضانياً.
أما د. عبدالرزاق قسوم، فيرى أن ما بعد رمضان يمثّل المرحلة الأصعب، فبعد رمضان تُزال كلّ القيود التي رسمناها عن طواعية لأنفسنا، فكلّ المتعِ والملّذات التي كانت ممنوعة تصبح مباحة في كلّ آنٍ وحين، ومن هنا تبدأ مسؤولية الإنسان المسلم في إعادة ضبط جوارحه، وتنظيم علاقاته، والتحكّم في غرائزه.
ويعدد الشيخ محفوظ ولد إبراهيم فال بعض الأخطاء الشائعة التي لا يكاد ينجو منها أحد، داعياً إلى ضرورة التخلص منها حتى خلال رمضان حتى يتمكن المسلم من جني ثمار رمضان، وهي:
1- إضاعة الوقت والتسويف بالأعمال.
2- ضعف الإحسان في العبادة وإغفال جوهرها وحقيقتها مع الإتيان بشكلها وصورتها.
3- عدم غض البصر عن الحرام، وفوات الخير المترتب على ذلك واستنارة البصيرة وزكاة النفس وطهارة القلب، وغير ذلك من الخير المشمول بقول الله تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)} (النور).
4- الخوض فيما لا يعني والاستطالة في أعراض الناس وخاص أمرهم وعامه؛ مما يسيء الإسلام ويشوّه إحسانه، وفي الحديث: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
5- ضعف المنافسة في الخير، والمبادرة إلى الطاعة، والاعتناء بأعمال البر الميسورة الموفورة بفضل الله ومنه، ومن أمثلتها:
– التأخر عن تكبيرة الإحرام.
– ضعف المحافظة على الرواتب والنوافل عموماً مع قول الله تعالى في الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه».
– عدم العناية بالسمت الحسن، وكثرة الترخص وقلة الأخذ بعزائم الأمور، مما يرقق الدين ويوهن التربية.
– تضييع نفع الناس بالميسور من فضل الزاد والظهر وكل خير.
6- ضعف ضبط النفس واكتساب خلق الحلم العفو والصفح، رغم ما جاء في الحديث: «الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم».
7- الإسراف والتبذير في المطعم والمشرب وسائر حاجات البدن، رغم أن رمضان يعلمنا أن نضبط شهواتنا ونقيدها بحاجاتنا.

توصيات عامة
وختم العلماء والدعاة بمجموعة من النصائح والتوصيات العامة المعينة على الاستفادة من شهر رمضان، واستمرار مقاصده وقيمه بقية العام، حيث يقول د. نور الدين الخادمي: عظمة رمضان ودوره الحضاري يتطلب إحياء دوره الأخلاقي والمقاصدي من خلال التوعية الفكرية وتدريب الناس على الصيام بهذا المعنى، وكذلك وسائل الإعلام الرسالية سواء كانت تلفازية، أو غيرها، إلى جانب سياسات الدول والحكومات والجمعيات والأحزاب والمنظمات والأوعية المختلفة من أجل تربية الشباب ومختلف شرائح الشعب على قيم رمضان وبعده الثقافي والحضاري فهو شهر الحياة والبناء.
ويضيف د. عبدالرزاق قسوم أنّ مدرسة الصوم المتعدّدة التعاليم، هي بمثابة مصحة متعدّدة الاختصاصات، تُعالِج فينا آفات اللّسان، وآفات الجنان، فتكفّ أذى أيدينا، وأعيننا، وآذاننا، وكلّها نوافذ، إنْ لم نُحصّنها بالقيم توشِك أن تتحوّل إلى وسائل تسريب للبشر والفتن.
نريد – إذن – أن نبقى رمضانيين بعد رمضان، فنبقى مؤمنين بأدّق وأعمق معاني الإيمان، فتُباهي بنا الملائكة، ونحمل القابلية لبناء المجتمع الإسلامي الأفضل، الذي يجعل منّا – بحق – خير أمّة أُخرِجت للنّاس، وتلك هي رسالة الصوم.
أما الشيخ عكرمة صبري، فلم يفته التذكير بصوم الأيام الست من شهر شوال، ووصى أيضاً بصيام أيام الإثنين والخميس والأيام البيض, من أشهر السنة كلها؛ حتى يعيش المسلم في عبادة مستمرة وأجواء رمضانية طوال العام.
وذكر الشيخ محفوظ ولد إبراهيم فال بعض الأمور العملية المفيدة في هذا السياق، وتتمثل في:
1- الحرص الصادق ثم الاستعانة بالله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز».
2- تحديد مجالات التغيير والتطوير، ووضع برنامج مناسب لذلك، يتضمن الوقاية والعلاج.
3- صحبة أهل الخير، وملازمة البيئات الصالحة.
4- التقليل من خلطة الناس في غير نافع، والمحافظة على المرابطة في المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة.
5- قصر الأمل وإدراك أن الفرصة قد لا تتكرر؛ فما يدري الإنسان هل يدركه رمضان القادم أم يكون تحت الأرض قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34‏)} (لقمان).

Exit mobile version