اللقاء التوديعي لأفراد عائلة زعيم الجماعة الإسلامية ببنجلاديش قبل إعدامه

حسب رواية أحد أبنائه..

في الحادي عشر من مايو الماضي، قامت الحكومة البنجالية بتنفيذ حكم الإعدام في الشيخ مطيع الرحمن نظامي، زعيم الجماعة الإسلامية البنجالية، وأحد الدعاة والعلماء البنجال، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة في أنحاء العالم الإسلامي.في السطور التالية يروي أحد أبناء الشهيد (نحسبه كذلك) تفاصيل اللقاء التوديعي لعائلة الشيخ له والذي تم قبيل ساعات من تنفيذ حكم الإعدام فيه:

قبل دقائق معدودة من دخول وقت صلاة المغرب تلقى الأخ ميتو، مساعد الوالد الشخصي، مكالمة على هاتفه المتحرك، هذه المكالمة لم تكن مكالمة عادية كسائر المكالمات الأخرى التي ترد على هاتفه، ليتبين له بعد استلامها أنها كانت من مسؤول في السجن المركزي يطلب منه إبلاغ عائلة الشيخ مطيع الرحمن نظامي وأقاربه باللقاء معه في السجن في غضون الساعة السابعة مساء دون أن يوضح هل هذا اللقاء هو اللقاء التوديعي الأخير من عدمه، وعلى وجه السرعة، أبلغ مساعد الوالد الشخصي النبأ للعائلة؛ حيث أخذت استعداداتها على وجه السرعة وغادروا المنزل مستقلين ثلاث سيارات متوجهين إلى السجن المركزي دون أن يعلموا أن هذا اللقاء هو لقاء توديعي أخير لهم.

بعد تجاوز نقاط التفتيش الأمنية والسياج الأمني المشدد وحشود الصحفيين دخل 26 فرداً من عائلة الشيخ مطيع الرحمن نظامي السجن المركزي، وفور دخولنا استلمنا خطاباً خطياً صادراً من مصلحة السجون وهو ما كان كافياً لمعرفة سبب طلب إدارة السجن للقاء مع الوالد، حيث أدركنا وقتها أن هذا اللقاء هو اللقاء التوديعي الأخير لنا مع والدنا في السجن، وبعد انتهاء إجراءات التفتيش توجه بنا مسؤولو السجن إلى الزنزانة الانفرادية الخاصة بوالدي في عنبر الإعدام؛ حيث كان والدي يقيم في العنبر الأخير من الزنزانة الانفرادية المعتمة التي كانت تحمل الرقم (8)، والتي كانت تشبه القبر تماماً، إذ إن غرفته كانت عديمة التهوية، لا نوافذ، ولا مصابيح إضاءة، ولا مروحة، وتبلغ مساحة الزنزانة الانفرادية 8 أمتار، ومحاطة بسياج حديدي وأمام ذلك بلكونة صغيرة جداً مظلمة.

إذاً هو اللقاء التوديعي

كان الوالد جالساً على سجادته الخضراء في زنزانته متوجهاً نحو القبلة رافعاً يديه يدعو الله سبحانه وتعالى، وقد سمعنا الأدعية التي كان يدعو بها الوالد بصوت واضح كما كنا تعودنا على سماعها منه بصوته المعتدل المنخفض، فلم يكن الدعاء بصوت عالٍ ولا بصوت منخفض، وكان بين الأدعية استراحة قصيرة كما كنا نراه منذ نعومة أظفارنا، وقد لاحظنا وجود قط بني فاتح اللون جالساً بجانب الوالد وكأنه يشارك الوالد في الدعاء، معاذ (حفيده البالغ من العمر ثلاث سنوات) صعد السلم وأمسك بالمقبض الحديدي للزنزانة الانفرادية منادياً جده قائلاً: «جدي جدي نحن وصلنا افتح الباب»! ليلتفت الوالد بعد الانتهاء من الدعاء ويقف بهدوء ويترجل نحو السياج الحديدي قائلاً: أنتم أتيتم؟ إذاً هذا هو اللقاء التوديعي الأخير! 

أختي الكبيرة لم تستطع أن تتحكم بعاطفتها وقالت: لا يا والدي العزيز بإذن الله سبحانه وتعالى لن يكون هذا هو اللقاء الأخير، ليتحول المشهد إلى مشهد عاطفي حزين ومؤثر يدمع القلب والعين معاً، وبعد ذلك طلب الوالد من الجميع التزام الهدوء والتحلي بالصبر، ومن خلف القضبان صافح جميع أفراد العائلة الوالد الذي كان يرتدي إزاراً قطنياً أبيض اللون وثوباً قطنياً أبيض، كان الوالد يتعرق بغزارة بسبب انعدام التهوية في الزنزانة التي كانت بلا نوافذ ولا مصابيح إضاءة ولا مروحة في هذا الموسم الصيفي الساخن الحار، ورغم ذلك لم تفارق الابتسامة الخفيفة التي تعودنا عليها محياه؛ فلا شيء كان يكدر صفوه، وكان من الصعب التصديق بأن هذا الشخص سينفذ فيه حكم الإعدام في غضون ساعات.

لم نكن نستطيع مشاهدة الوالد وهو داخل زنزانته المعتمة، ولم يكن هو أيضاً يستطيع أن يشاهدنا جميعاً بوضوح، ولهذا طلبنا من مسؤولي السجن الذين كانوا في الموقع فتح باب العنبر ليتسنى لنا رؤيته، وقد قاموا مشكورين بفتح باب العنبر ليخرج الوالد من زنزانته ويجلس على كرسي بلاستيكي أبيض اللون في ساحة العنبر.

لن أطلب العفو من أحد

بدأ الوالد وبلهجته المعتادة الاستفسار عن أحوال الجميع ثم وضح موقفه قائلاً: بعد أن تلا عليَّ السجان حكم المحكمة العليا برفض الالتماس الأخير الذي قدمته، طلب مني السجان توضيح موقفي من الاعتذار، وطلب العفو الرئاسي من عدمه، فقلت له بالحرف الواحد: إنني لم أرتكب أي جريمة، وطلب العفو الرئاسي يعني اعترافي بذنبي بارتكابي لجريمة لم أرتكبها، ولهذا فإنني لم أعتذر ولن أعتذر، ولن أطلب العفو الرئاسي؛ فالله سبحانه وتعالى هو الذي يملك الحياة والموت، وإذا طلبت العفو الرئاسي فإن هذا يعني فقداني لإيماني، وأنا لا أريد أن أفرط في إيماني في هذه اللحظة.

بعد ظهر ذلك اليوم (10 مايو) زارني نائب المفتش العام لمصلحة السجون، وطلب مني تقديم خطاب خطي بعدم طلبي العفو الرئاسي من الرئيس، فقدمت ذلك له، حيث كتبت فيه بوضوح: «لن أطلب العفو، ولن أطلب الصفح من أحد».

قدم الوالد نصائح قيمة للجميع، وطلب منهم الالتزام بالهدوء والتحلي بالصبر، ورغم صعوبة الموقف وقساوة المشهد لم نر الدموع في عينيه، لكن لم يكن مبلد الإحساس، معطل المشاعر، بل كان هادئاً تماماً، وكأنه ينتظر بفارغ الصبر وعلى أحر من الجمر لقاء ربه، ثم انصرفنا جميعاً لتستطيع والدتي قضاء وقت مع والدي.

ستجدونني في والدتكم

كانت والدتي تشجع الوالد على الثبات والاستقامة في الدين لآخر رمق من حياته، وتحفزه على نيل الشهادة لما لها من مكانة عالية ومنزلة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، وإننا سوف نستشهد بأنك كنت عبداً صادقاً تقياً، فلم ترتكب أي جريمة، ولم تؤذ أحداً، ليرد عليها الوالد بأنكِ من اليوم والدهم ووالدتهم؛ حيث إن فلذات أكبادي يمكن لهم أن يروني فيك، وأنت تبحثين عني فيهم. 

ثم دخلنا على الوالد مرة أخرى مع إخواننا وأخواتنا، حيث وصانا الوالد بالعيش معاً، واتباع سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه وخدمة الوالدة والبر بها، قائلاً: فإنكم ستجدونني فيها، وسوف تجدني والدتكم فيكم، عليكم إيصال ما تعرفونه عن والدكم للشعب من غير زيادة ولا نقصان ولا مبالغة؛ فأنا الآن أبلغ من العمر 75 عاماً، وكثير من زملائي لم يهبه الله العمر المديد مثلما وهبه لوالدكم؛ فالحياة والموت بيد الخالق لا بيد المخلوق، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، فإذا كتب الله أجلي في هذه الليلة فإن ذلك كان من الممكن أن يكون في بيتي، وعلى كل الأحوال والظروف أحسنوا الظن بالله – سبحانه وتعالى – وأبشروا بالخير واشكروه على نعمه. 

بعد ذلك اصطحبنا فلذات أكبادنا إلى جدهم؛ حيث أبلغناه بأن أسماء أحفاده الثلاث تتوافق مع اسمك، فالرجاء منك الدعاء لهم بأن يكونوا عباداً صالحين مصلحين، وأن يكونوا مثلك، ليرد الوالد قائلاً: أتمنى أن يكونوا أكبر مني، وأن يصلوا إلى مراتب ومكانة لم أصلها.

ثم سرد علينا قصة قال فيها: في ذات يوم سأل عالم كبير ابنه: ماذا تريد أن تكون؟ فقال الابن: أريد أن أكون عالماً كبيراً مثلك، عندها أجهش العالم في البكاء، وعندما سئل: لماذا كنت تبكي؟ فأجاب: أنا كنت أريد أن أكون مثل الإمام علي رضي الله عنه، وأنت تريد أن تكون مثلي؛ فشتان بيني وبين الإمام علي؛ فعليك أن تفكر إلى أي مدى تستطيع أن تذهب.

قلنا للوالد: إننا لم نستطع أن نفعل لك شيئاً، فرد علينا بقوله: إن الله سبحانه وتعالى هو صاحب القرار الأول والأخير، ويمكنكم المحاولة والسعي فقط، فالكثير من زملائي الذين هم أصغر مني قد انتقلوا إلى جوار ربهم وكان بإمكانه أن يأخذني عنده في أي وقت، وإذا يشرفني ويكرمني الله سبحانه وتعالى بالشهادة بدون أن أخوض الحروب والمعارك، فهذا شرف لي بما فيه الكفاية.

كم أنا محظوظ وسعيد!

ثم تطرق الوالد لموضوع مختلف، حيث تناول موضوع التضحيات الجسام العظام التي قدمها المواطنون في البلاد له ولقادة الحركة الإسلامية، وقدم لهم الشكر والتحية من أعماق قلبه، وقدم الشكر لجميع الآباء والأمهات الذين أنجبوا هؤلاء الأبطال، وحث الجميع على الدعاء له بأن يتقبل الله شهادته لترد عليه الوالدة قائلة: لقد كرمك الله في الدنيا، وسيكرمك الله في الآخرة إن شاء الله، ثم قال الوالد: أنا إنسان أنحدر من قرية ريفية نائية، وما شاهدته ولامسته من مشاعر إنسانية فياضة وجياشة للعلماء الكبار تجاهي وإعرابهم عن قلقهم على مصيري، وعدم ذهاب رئيسة الوزراء الشيخة حسينة لقمة المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في تركيا قبل أيام خوفاً من مناقشة قضية إطلاق سراحي من قبل القادة الإسلاميين جعلتني محظوظاً؛ فأحس الآن كم أنا محظوظ، وكم أنا سعيد بذلك!

وقد طلبنا من الوالد بأن يشفع لنا عند رب العالمين يوم لا ينفع مال ولا بنون بالفوز بالجنة، فرد علينا قائلاً: «اعملوا ما يجعلكم تفوزون بالجنة، وإن شاء الله سوف تدخلونها».

بعد ذلك طلبنا منه أن يرفع يديه إلى رب السماوات والأرض ليدعو لنا وللأمة الإسلامية، حيث دعا قرابة الساعة، استهلها بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا بالأدعية المسنونة، واختتم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

بعد انتهاء الدعاء أخبرني ابني بأنه شاهد مسؤولي وموظفي السجن المركزي وهم ينهمرون في البكاء.

سأل الوالد ابنه الثاني نجيب مؤمن (أخي) عن رأيه: هل الأفضل أن يذهب لحبل المشنقة بالإزار أم بالسروال والقميص؟ فأجابه أخي بأنه يفضل الذهب إليه بالسروال والقميص.

ضيف من ضيوف الجنة

بحكم عملي طبيباً، فقد شاهدت العديد من مشاهد الموت أمام عيني، لقد رأيت الكثير يحتضرون ويعدون العد التنازلي للموت، رأيت الموت على وجوههم، والرغبة الجامحة في البقاء على قيد الحياة ليوم إضافي، ولكن هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها ضيفاً من ضيوف الجنة، يتوق للقاء ربه، ليضع قدميه على باب الجنة، وقد كانت لديه فرصة التقدم بطلب عفو رئاسي، إلا أنه فضل الشهادة في سبيله، وهو ما يدل على قوة وصلابة إيمانه، وهذه هي المرة الأولى التي أرى فيها شخصاً يحتضن الموت بهذه الأريحية.

إن كل من تعاملوا أو تعايشوا مع الوالد سيشهدون أنه كان شخصاً خلوقاً ليناً متواضعاً، كان يتتبع أحوال القريب والبعيد دون كلل أو ملل، وإذا تعرض أحد لأذى كان يعايده مراراً وتكراراً، وهذا دليل على محبته للناس ومدى ارتباطهم بهم. وفي معظم اللقاءات العائلية كان دائماً يقول عن نفسه خوفاً: بما أنني لين الطبع هل سأستطيع أن أبقى حازماً حتى النهاية؟

إن من الصعب أن تتمسك بعواطفك، وتترفع عن جميع أنواع المحبة، وتتكلم بهدوء وأريحية تامة وأنت واقف أمام الإنسان الذي يرى الموت المحقق بعينيه.

في نهاية الاجتماع، سأل الوالد من منكم سيذهب إلى مدينة «فابنا» لحضور مراسم الدفن؟ فقلت له: أنا والأخ مؤمن، فقال لنا: اذهبوا بحذر، وطلب منا اصطحاب الأخ ميتو مساعده الشخصي، ومنعت الوالدة من الذهاب إلى فابنا، وطلب من الأخ مؤمن إمامة المصلين في صلاة الجنازة ونصحه بلبس القميص والسروال بدلاً من البدلة التي كان يرتديها.

الوصية الأخيرة لوالدي:

عليكم بالامتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى، واجتناب ما نهاكم عنه، واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والسير على نهجه مهما كانت الظروف، ومهما كانت الأحوال والظروف، عليكم بالصبر، وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، والمواظبة على الصلوات الخمس مع الجماعة في أول وقتها، وإنكم ستجدون وصيتي لكم في الكتاب الذي قمت بتأليفه وأنا في السجن بعنوان «الرسول صلى الله عليه وسلم على ضوء القرآن والسُّنة وحياة المؤمن على ضوء القرآن والسُّنة». 

وأخيراً التفت إلى الوالدة وقال لها: فلذات أكبادي الستة تركتهم عندك أمانة في عنقك، ثم قال لنا: اذهبوا؛ فأنا أريد أن أشاهد مغادرتكم، بعد ذلك في مشهد وداعي مهيب صافح جميع أفراد العائلة الوالد الذي لم تفارق الابتسامة محياه، وغادرنا زنزانته الانفرادية المعتمة لتلحق معنا القطة التي كانت جالسة أيضاً معه في العنبر.

بعد خروجنا من السجن استقللت السيارة متوجهاً إلى منطقة «شاتهيا» في مدينة فابنا للوقوف على استعدادات الدفن لوالدنا الذي تركناه حياً قبل قليل، وعلى طول الطريق كانت صورته حاضرة أمام عيني بوجهه البشوش الممتلئ بالحيوية، وما زال صوته يتردد في أذني بكلماته الرقيقة، وهو يودع فلذات أكباده للمرة الأخيرة قبل أن يكون بجوار ربه.

Exit mobile version