رمضان.. والتربية الاستهلاكية الإسلامية

المنطق الرياضي يشير إلى أن رمضان شهر الاقتصاد فنسبة الاستهلاك فيه ينبغي أن تنخفض بمقدار الثلث باعتبار تخفيض عدد الوجبات من ثلاث وجبات إلى وجبتين

حسب الإحصاءات فإن الاستهلاك في «شهر الصوم» يرتفع بنسبة تتراوح بين 10 و40% عنه على مدار السنة و45% من الوجبات التي يتم إعدادها تلقى في القمامة

التبعية الغذائية التي تشهدها بلاد المسلمين تعد من أخطر التحديات أمام الدول الإسلامية فتلك الدول تخضع لتحكمات المتبوع الذي يمتلك الغذاء

يستقبل المسلمون شهر رمضان، وهو ضيف طيب مبارك، جمع الله فيه جوامع الخير، فيه ارتبطت السماء بالأرض فنزل أفضل منهج ممثلاً في القرآن الكريم لأفضل أمة كتب الله لها السيادة والريادة ما التزمت بذلك المنهج الرباني المشهود بالعقول السليمة والفطر المستقيمة، والذي يجمع بين الدنيا والآخرة في إطار قويم يسعد به الفرد والأسرة والمجتمع بل والبشرية جمعاء.

وفي هذا الشهر الكريم تتعدد الجوانب التربوية والإيمانية التي تسمو بالمسلمين إلى أعلى عليين، ومن هذه الجوانب الجانب الاقتصادي الذي لا ينفصم في الإسلام عن الجانب الإيماني والأخلاقي، فالإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، وفي رمضان العديد من الدروس الاقتصادية؛ منها التربية الاستهلاكية الإسلامية، فرغم ما يتميز به شهر رمضان من بركات، فإن هذه البركات تتحول إلى الاستهلاك،  فنحن أمة – للأسف الشديد – أصبح الاستهلاك ديدنها.

إن الاستهلاك المفرط لدى الكثير من الأسر المسلمة في رمضان أصبح يهدد حياتها الاقتصادية، حيث تشير بعض الدراسات التي أجريت على دول الخليج أن 45% من الوجبات التي يتم إعدادها تذهب إلى صناديق القمامة، كما كشفت دراسة ميدانية عن الإسراف والتبذير في المأكولات الملقاة في صناديق القمامة في مدينة واحدة في إحدى الدول العربية، فكانت النتيجة أن الإسراف بلغ نحو 365 مليون ليرة سنوياً.

وتشير الإحصاءات إلى أن الاستهلاك في «شهر الصوم» يرتفع بنسبة تتراوح بين 10 و40% عنه على مدار السنة، فعلى سبيل المثال يمثل الإنفاق الاستهلاكي في مصر نسبة 20% من النفقات السنوية على الغذاء، بينما ترتفع تلك النسبة في السعودية لنحو 40%، وفي المغرب لنحو 30%، هذا في الوقت الذي تتنامى فيه الفجوة الغذائية في العالم العربي، ومن المعلوم أن هذه الفجوة الغذائية تعني المزيد من الاعتماد على الخارج؛ ذلك لأننا أمة مستهلكة أكثر منها منتجة، ولم نصل بعد إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، رغم أن أرض السودان وحدها يمكن أن تفي بحاجات المسلمين جميعاً من الغذاء باعتبارها سلة غذاء العالم الإسلامي إذا تم توجيه الاستثمارات نحوها.

إن التبعية الغذائية التي تشهدها بلاد المسلمين تعد من أخطر التحديات أمام الدول الإسلامية، فتلك الدول تخضع لتحكمات المتبوع الذي يمتلك الغذاء ويستطيع أن يتحكم في نوعيته وجودته ووقت إرسالها إلينا، ومن ثم كان للاستهلاك أبعاد خطيرة كثيرة تهدد حياتنا الاقتصادية وتهدد أيضاً أمننا الوطني.

لقد جعل المسلمون من شهر رمضان – للأسف الشديد – موسماً سنوياً للإسراف، فتراهم يتهافتون إلى الأسواق؛ لشراء ما لذّ وطاب من الطعام والشراب الذي لا عهدَ لهم به في غير رمضان، وهذا منافٍ لحكمة الصوم، مناقضٌ لحفظ الصحة، معاكسٌ لقواعد الاقتصاد.

إن المنطق الرياضي يشير إلى أن رمضان شهر الاقتصاد فنسبة الاستهلاك في شهر رمضان ينبغي أن تنخفض بمقدار الثلث، باعتبار تخفيض عدد الوجبات من ثلاث وجبات في الأيام العادية إلى وجبتين في ذلك الشهر الكريم، فرمضان فرصة ومجال لامتلاك إرادة التصدي لحالة الاستهلاك الشرهة التي تنتابنا في هذا الشهر الكريم وتحقيق التربية الاستهلاكية من خلال القاعدة القرآنية الإرشادية المعروفة: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ) (الأعراف:31)، وهذه القاعدة لا شك هي ميدان الترشيد على المستوى الفردي والمستوى العام.

إن رمضان محاولة لصياغة نمط استهلاكي رشيد، وعملية تدريب مكثّف تستغرق شهراً واحداً تفهم الإنسان أن بإمكانه أن يعيش بإلغاء الاستهلاك.

إن الإسراف في كل شيء ممقوت حتى مع السعة، فقد جاء التوجيه النبوي لمن أراد الوضوء بعدم الإسراف في الماء ولو كان على نهر جارٍ، إنها حكمة اقتصادية خالدة وقاعدة استهلاكية رشيدة، ومن وصايا الرسول الكريم في مجال الإنفاق الاعتدال: «ما عال من اقتصد» (رواه أحمد)، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يفطر على رطبات إن وجدها، فإن لم يجدها فعلى تمرات، فإن لم يجد فعلى حسواتٍ من ماءٍ، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذ شهر رمضان ترويضاً وتربية للنفس، لا كما نفعل نحن من تخمة أنفسنا بالملذات من مآكل ومشارب، تحرك الجوارحَ إلى المعاصي، وتثقلُها عن الطاعات، وتستهلك الأموال، وتضيع الأوقات في الأسواق.

إن المسلم يجب أن يؤمن أن له وِقْفَة مع الله سبحانه وتعالى يحاسبه عن هذا المال من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟! ولو قدر لهذه الأمة جمع ما تنفقه من أموال على الأمور التافهة في صندوق موحد ثم أنفق هذا على إزالة أسباب الفقر والبؤس من حياة الناس؛ لصلحت الأرض وطاب العيش فيها وأصبح كل امرئ راضياً مرضياً.

Exit mobile version