الإخوان.. وتسييس الدين!

من التهم القديمة الجديدة التي وجهت إلى الإخوان “سيَّسوا الدين”، أو خلطوا الدين بالسياسة، أو أدخلوا الدين في السياسة والسياسة في الدين.

وقد قال أحد الحكام يوماً: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين!

وشاعت على الألسنة والأقلام في السنوات الأخيرة هذه العبارة “الإسلام السياسي”، يريدون به الإسلام الذي يدعو إلى الحكم بما أنزل الله، وإلى تحكيم شرعه فيمن آمن به، وإلى تحرير أرض الإسلام ومقاومة كل معتد عليها، والعمل على توحيد الأمة العربية والإسلامية – أو على الأقل – التقريب بينها بدل أن يجافى بعضها بعضاً أو يضرب بعضها وجوه بعض.

وحين يشرح هؤلاء – من خصوم الإخوان – مضمون “الإسلام السياسي” لا يكتفون بما ذكرنا، بل يضمونه معنى العنف والقتل العشوائي، وإرهاب الآمنين، والتعصب ضد الآخرين والانغلاق على الماضي والانقطاع عن الحاضر وإغفال المستقبل.

فإذا اعترفت بأن السياسة جزء من الإسلام إذا استمدت منه وسارت في ضوئه؛ ألزموك بما لم تلتزم به، وحكموا عليك بأنك من أنصار العنف والإرهاب والدموية.

وأحب أن أقول هنا: إن الإخوان ليسوا هم الذين “سيسوا الدين”، بل شارع هذا الدين – وهو الله جل جلاله – هو الذي “سيَّسه” حين شرع فيه من الأحكام ما يتعلق بالسياسة.

وأخبرني بربك في أي باب نحسب هاتين الآيتين من كتاب الله إذا لم نحسبهما في السياسة: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً {58} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59}‏) (النساء).

إن الإمام ابن تيمية جعل هاتين الآيتين محوراً لكتابه “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية”.

وبعدها جاءت جملة آيات توجب الاحتكام إلى الله تعالى: ورسوله ختمت بقوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً {65}‏) (النساء).

ومثلها في سور “النور”، حيث يقول تعالى: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47}) (النور)، إلى أن يقول: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {51}) (النور).

أوليست هذه الآيات وأمثالها في صميم السياسة بل أصول السياسة لأنها تتعلق بتحديد “المرجعية” العليا للأمة والدولة!

وماذا يقول هؤلاء الذين “يلتون ويعجنون” عن تسيس الدين في هذه الآيات من سور “المائدة”: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ {44})، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {45})، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {47}) (المائدة).

سيقولون: إنها نزلت في أهل الكتاب في شأن تحكيم التوراة والإنجيل.

ونقول لهم: نعم هي كذلك ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ثم هل ما أنزل الله على المسلمين دون ما أنزل على أهل الكتاب حتى إذا تركوا الحكم بما أنزل الله كانوا كافرين أو ظالمين أو فاسقين، وإذا ترك المسلمون الحكم بما أنزل عليهم من القرآن، لم يوصفوا بكفر ولا ظلم ولا فسوق؟

أو: هل يكيل الله سبحانه بكيلين؛ فإذا ترك أهل التوراة والإنجيل كتابهم حكم عليهم بما ذكر، وإذا ترك المسلمون قرآنهم لم يحكم عليهم بما حكم على من قبلهم؟ فأين عدل الله على الناس؟!

وقد رددنا على ذلك في كتبنا الأخرى بما يقطع كل شك.

من قرأ القرآن وجد فيه كثيراً من الآيات التي تتعلق بالسياسة الداخلية والسياسة الخارجية، والعلاقة بالآخرين في حالة الحرب، وفي حالة السلم، وهذا لا يخفى على من له أدنى إلمام بالقرآن الكريم.

وقد رأينا القرآن المكي يربط المسلمين – وهم قلة مستضعفة في مكة – بالصراع السياسة والعسكري العالمي من حولهم، وصارع الدولتين الكبريين اللتين تتنازعان السيادة على العالم: دولة الفرس في الشرق، ودولة الروم البيزنطية في الغرب، ويتدخل في الجدل الذي دار بين المشركين والمسلمين حول المستقبل ولمن يكون النصر في النهاية.

فقد كان المسلمون ينتصرون للروم، ويؤمنون بأن الغلبة لهم باعتبارهم نصارى أهل كتاب، فهم أقرب إليهم، وكان المشركون ينتصرون للفرس؛ لأنهم مجوس يعبدون النار فهم أقرب إلى عبدة الأوثان.

ونزل القرآن يؤيد المسلمين في الآيات الأولى من سورة الروم (الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ) (الروم).

ومن قرأ السُّنة النبوية وجد فيها ذلك بتفصيل أكثر، كما وجد ذلك واضحاً في سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام العملية، فقد كان هو الإمام الأعظم، كما كان القاضي الحكم والمفتي الأعلم، على حد تعبير الإمام القرافي رحمه الله.

و”الإمام الأعظم” يعني الرئيس الأعلى للدولة، وقد كان هو ذلك بلا نزاع، فلم يكن بجواره ملك أو أمير يدير أمور السياسة، على حين يتفرغ هو لشؤون الدين والدعوة، بل كانت الدعوة والدولة في يديه، كان هو الذي يؤم الناس في الصلاة ويقودهم في الحرب وفي السلم، ويعقد المعاهدات ويلقى الوفود ويعين الولاة والقضاء والمعلمين ويبعثهم إلى البلاد التي دخلت في الإسلام.

ومن المعروف في فقه السياسة الشرعية أن هناك نوعاً من التصرفات النبوية يطلق عليها الفقهاء أنها “تصرف بمقتضى الإمامة”؛ أي بمقتضى الرئاسة العليا للدولة.

وهذه ليست مثل التصرفات التي تكون بمقتضى التبليغ عن الله تعالى، وهذه كما قالوا في حديث: “من أحيا أرضاً ميتة فهي له”؛ إذ قال أبو حنيفة ومن وافقه: هذا قاله بمقتضى إمامته، فلا يملك أحد أرضاً أحياها إلا بإذن الإمام.

وقرر الفقهاء من جميع المذاهب أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين لا يخرج فعل منها – في أي مجال كان – عن دائرة الشريعة إذ لابد أن تعطيه حكماً من الأحكام الشرعية الخمسة المعروفة.

والقرآن يؤكد هذه الشمولية حين يقول خطاباً للرسول: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ {89}) (النحل).

ويقول في ختام سورة يوسف: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {111}) (يوسف).

حتى قال ابن عباس ترجمان القرآن: لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله!

فإذا كان الإنجيل يقول: “دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، فإن القرآن يجعل قيصراً وما لقيصر لله الواحد الأحد (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (آل عمران:154).

فلله ما في السموات وما في الأرض ومن في السماوات ومن في الأرض، وهو الحاكم عليهم، ومن واجبهم أن يطيعوه طاعة مطلقة تمثل عبوديتهم له وانقيادهم لأمره.

ولقد قرر الأصوليون أن “الدين” هو إحدى الضروريات الخمس أو الست التي قام عليها بنيان التكاليف الشرعية وهي: الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وزاد بعضهم: العرض.

فالذين يريدون أن يحصروا الإسلام في “الدين” وحده ينسون هذه الحقيقة التي أجمع عليها الأصوليون.

إن “شمولية الإسلام” ليست من ابتداع الإخوان، بل هي ما قرره القرآن والسُّنة وأجمعت عليه الأمة، وتأسست عليها ثقافة وحضارة وامتد به تاريخ وتراث.

وكل المصلحين الكبار الذين سطعت نجومهم في آفاق الأمة، حاولوا النهوض بها في العصر الحديث، كلهم أدخلوا السياسة في الدين والدين في السياسة: محمد عبدالوهاب، والسنوسي، والمهدي، والأمير عبدالقادر، والأفغاني، والكواكبي، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وابن باديس، وغيرهم كلهم نظروا إلى الإسلام تلك النظرة الشاملة التي لا تفرق بين دين وسياسة، فهم جميعاً مشتركون في “تسييس الدين”.

فليس حسن البنا بدعاً في المصلحين، ولا دعوته في دعوات الإصلاح والتجديد.

والحاكم الذي أعلن أن لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، كثيراً رأيناه وسمعناه، يتحدث باسم الدين تأييداً لسياسته، ويطلب من علماء الدين إصدار الفتاوى تبريراً لموقفه.

والملتزمون بالإسلام شأنهم شأن سائر المواطنين، من حقهم أن يمارسوا السياسة وفق معتقداتهم ومفاهيمهم، ولا يجوز أن يُحرموا منها لمجرد أنهم متدينون.

إن المسلم يستطيع أن يدخل في أعماق السياسة وهو مستغرق في عبادته لربه، وهذا ما نشاهده فيما يسمى “قنوت النوازل”، فيجوز للمسلم أن يدعو في صلاته على الصهاينة المعتدين على فلسطين، وعلى الصرب المعتدين على البوسنة والهرسك وكوسوفا، أو على غيرهم ممن يعتدي على حرمات المسلمين.

كما أن المسلم يمكنه أن يقرأ من القرآن ما يشتمل على آيات في ميادين الحياة المختلفة كالجهاد وإقامة العدل، والحكم بما أنزل الله وغيرها، ولا يستطيع أحد أن يعترض عليه في قليل أو كثير.

وبهذا تسقط تهمة “تسييس الدين” عن الإخوان كما تسقط غيرها من التهم (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً {81}) (الإسراء).

 

المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

Exit mobile version