قراءة قرآنية متجددة لمصير «بني إسرائيل»

لا نريد أن نعطي من خلال هذه الدراسة تخيلات سياسية، قد تبدو معقولة الآن وخرافية غداً، وهو ما تعودنا عليه خلال تاريخنا الحديث المفعم بالنكبات والآلام، وبالنسبة لمصير «إسرائيل»، فإنه ليس من المحتم أن تكون نهايتها على أسس دينية بحتة، كما أن النهاية قد لا تعني مسحها من الخارطة مدناً وسكاناً! فنحن نحتاج إلى التفكير التحليلي كشرط رئيس من شروط تفسير بعض آيات القرآن الكريم.

تدفعنا هذه التطلعات إلى النظر بما يسمى بـ «تاريخ المستقبل» أو الرؤى المستقبلية للتاريخ، وهو محاولة التنبؤ بما ستكون عليه بعض الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الدول والمجتمعات على أسس دراسات علمية ومنطقية، وبالاستناد لوقائع تاريخية موثقة وواقع الحاضر الذي نعيشه، فالمسألة لا تتعلق بما نريد والتركيز على الجانب الديني وتناسي كل المعطيات التي قد تؤدي إلى اضمحلال «إسرائيل» ككيان له كما فعل «فوكو ياما» عندما أطلق مصطلح نهاية التاريخ حال انتهاء الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفييتي عام 1991م، لتطل علينا الآن بثوب جديد ربما أخطر من الماضي، فقد كان ما أطلقه ليس إلا أحلاماً غير محسوبة بدقة على المستوى التاريخي الطويل.

محوران للانطلاق

وفي قضية قيام «إسرائيل» ومسألة زوالها فسننطلق من محورين؛ الأول هو ما جاء به القرآن الكريم بشأن الموضوع، والثاني يتعلق بإلقاء نظرة سريعة على النكبات التي حلت بالإسرائيليين طوال التاريخ، ومحاولة الربط بينهما بالاستناد لحقائق التاريخ، وبيان أن معظم التفاسير المتعلقة بشأن الموضوع كانت مجانبة للصواب بسبب الجهل بالتاريخ القديم من قبل المفسرين آنذاك كنتيجة لعدم حل ألغاز الكتابات المسمارية والهيروغليفية إلى أواسط القرن التاسع عشر.

يقول القرآن الكريم: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ( 4 ) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( 5 ) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( 6 ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ( 7 ) عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ( 8 ) ) } (الإسراء).

فالتفسير الظاهري لهذه الآيات يعطي الانطباع بأن فساد وعلو بني إسرائيل قد عاقبهم الله عليه باستباحة ديارهم وتدميرها، والثانية وبعد إظهار بني إسرائيل على أعدائهم ولم يحسنوا لأنفسهم فدخل أعداؤهم دار عبادتهم (الهيكل) والذي سماه القرآن «المسجد»؛ لأن سليمان عليه السلام بنى مسجداً ولم يبنِ هيكلاً وثنياً كما تصفه التوراة، وهذا حال الأنبياء كلهم منذ زمن إبراهيم عليه السلام، ثم يتوعدهم القرآن الكريم بقوله بأنها ليست العقوبة الأخيرة بقوله: { وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ( 8 ) )}، في حالة تكرار اعتداءاتهم وعدوانهم.

والحقيقة أن التفاسير القديمة تذهب إلى حدوث النكبتين وتخلط خلطاً عجيباً بين أحداثهما نتيجة الإسرائيليات التي دخلت للفكر الإسلامي عن عمد، وغير عمد، بينما تميل التفسيرات الحديثة بعد قيام «إسرائيل» عام 1948م إلى نفس الخلط مع اقتران زوال «إسرائيل» الحالية بأحداث يوم القيامة، علماً أن «إسرائيل» لا تمثل امتداداً تاريخياً لدولة «إسرائيل» القديمة، خصوصاً من ناحية علاقتها مع الاستعمار الغربي.

كذلك فإن حسابات التواريخ المستقبلية على طريقة «القبالة» اليهودية في ضرب الأرقام وجمعها وإعطاء الحروف قيماً عددية ثم الاستنتاج بأن العام الفلاني هو عام نهاية «إسرائيل» مسألة مرفوضة تماماً، فهذه ليست إلا أحلاماً وأماني لا معنى لها.

تاريخ من النكبات

لقد مرت على بني إسرائيل نكبات عديدة؛ لذلك وجب على الباحثين في هذا المجال الإلمام بالتاريخ الإسرائيلي قبل الإقرار بتفاسير سورة «الإسراء» والتنبؤ بنهاية «إسرائيل» لمجرد الانتباه لجملة { وإن عدتم عدنا }، والتي تعني تكرار العقوبة الإلهية بعد النكبتين، وهنا لنا وقفة سريعة مع تاريخ بني إسرائيل حسب ما توافر من مصادر عديدة.. فالإسرائيليون أولاد يعقوب عليه السلام وأحفاده من نسل إبراهيم عليه السلام، والذي تشير معظم المصادر التاريخية أن زمنه هو نهاية القرن التاسع عشر قبل الميلاد، في أور الكلدانية جنوبي العراق الحالي، وهو من القبائل الأمورية التي هاجرت من شبه الجزيرة العربية واستوطنت هناك.

وبعد هجرته لفلسطين ثم ذهابه لمكة مع ابنه إسماعيل عليه السلام وبنائه للكعبة رجع إلى فلسطين (أرض كنعان) وتوفي هناك.

في حدود عام 1720 ق. م هاجر الإسرائيليون إلى مصر في قصة يوسف عليه السلام المعروفة، وكان الهكسوس يحكمون مصر ثم عادوا إلى فلسطين، وكانت آهلة بالكنعانيين في حدود عام 1290 ق. م بقيادة موسى عليه السلام وفتاه يوشع، في كل هذه الفترة لم يتمدن الإسرائيليون، وكانوا بدواً رحلاً يحكمهم أنبياء صغار يسمون بالقضاة، حتى مجيء صموئيل الأول الذي نصب شاؤول (طالوت) ملكاً (1025 – 1010 ق. م)، وكان عهده صداماً مستمراً مع الفلسطينيين، حيث استولوا في آخر معركة على تابوت العهد وقتلوا أكثر من ثلاثين ألفاً من الإسرائيليين، بالإضافة لأبناء شاؤول الثلاثة الذي لم يتحمل الهزيمة فألقى نفسه على سيفه ومات منتحراً، وهذه أول نكبة رئيسة حلت بالإسرائيليين بعد خروجهم من مصر كما تقول التوراة.

استطاع داود عليه السلام أن ينشئ دولة «إسرائيل» بعد دخوله أورشليم عام 1010 ق. م، ثم انتهت الدولة عام 971 ق. م بموت سليمان عليه السلام، ولم تكن إمبراطورية بالمعنى المتعارف عليه، ثم انقسمت إلى دولتين هزيلتين؛ «إسرائيل» في الشمال وعاصمتها «السامرة»، و«يهوذا» في الجنوب وعاصمتها «أورشليم»، وفيها ما يسمى بالهيكل.

كانت الدولتان تحت وصاية الآشوريين وتدفعان الجزية لهم، حتى جاء عام 721 ق. م، حيث أزيلت «إسرائيل» وعاصمتها السامرة من الوجود على يد سرجون الثاني، الملك الآشوري العظيم، وتم أسر وسبي الإسرائيليين إلى نينوى شمالي العراق، وهذا يسمى بالسبي الأول في الأدبيات التوراتية.

بقيت يهوذا تنتظر دورها حتى جاء عام 596 ق. م في زمن نبوخذ نصر، ملك بابل، الذي أزال دولة يهوذا وعين عليها ملكاً منتدباً، وبعد أن تمرد عليه جرد حملة شعواء عام 586 ق. م الذي أزال فيهما الهيكل، وقتل الملك وأبناءه العشرة، وأسر وسبي الإسرائيليين إلى بابل، وهذا هو السبي الثاني، وهو من النكبات العظمى في التاريخ اليهودي.

بعد انتصار الفرس على البابليين عام 539 ق. م سمحوا للإسرائيليين بالعودة إلى أورشليم وبناء هيكل بدل الهيكل المدمر، وكان صغيراً مقارنة بالهيكل الأول، ولم يسمحوا لهم بإقامة كيان سياسي مستقل، تعرض هذا الهيكل لعدة نكبات على يد الرومان، حتى عام 135م عندما قام اليهود بثورة بقيادة باركوخبا في زمن الإمبراطور الروماني هادريان الذي دخل أورشليم ودمر الهيكل وحرث موضعه وأقام مستعمرة رومانية بدل أورشليم سماها إيلياء، ولم يسمح ببقاء يهودي واحد فيها، ويُرجع بعض الباحثين أصول يهود شبه الجزيرة العربية إلى هذا السبي.

ولقد اطلعنا على عدد كبير من التفاسير القرآنية بهذا الشأن فوجدناها تخلط خلطاً عجيباً في هذه التواريخ؛ مما أدى إلى استنتاجات غير منطقية تماماً ولا تستند فيها إلى هذه الحقائق في التفسير، وأول نموذج صارخ لهذا الخلط ما ذكره الطبري (ت 310 هـ) في تفسيره المسمى «جامع البيان في تفسير القرآن»، فيقول: إن أول الفسادين كان قتل زكريا عليه السلام الذي كان سابقاً للمسيح بوقت قصير جداً، وممالك النبط ممالك عربية نشأت في شمال الجزيرة وشرق الأردن بعد المسيح بثلاثة قرون أو أربعة، وأن بختنصر (نبوخذ نصر) هاجم أورشليم ودمر الهيكل عام 586 ق.م وكان ملكاً على بابل.

ومع الأسف الشديد فإن معظم التفاسير كالقرطبي، وابن كثير، والبغوي، والشوكاني تسير على نفس الخطى، ولكن بتفاصيل مختلفة مع تأثر واضح بالإسرائيليات.

حقائق وليس تنبؤات تاريخ

إن القراءة القرآنية لبدايات سورة «الإسراء» وما يتعلق ببني إسرائيل يجب إعادتها على ضوء الحقائق التاريخية المثبتة بدون تأثير عاطفي، فالقرآن الكريم ليس كتاب تاريخ ولا كتاب تنبؤات عاطفية، إنه كتاب حقائق ربانية بدون تفاصيل لا تقدم ولا تؤخر، فالعبرة منه بالنتيجة، وإذا كنا نضع السيناريو بمسألة زوال «إسرائيل» نتيجة الصدام الديني فقط، فإننا نقع في خطأ شائك ومعقد، ويجب ألا نسقط من أيدينا التعامل مع هذه المشكلة بكل جوانبها فالأماني لا تصنع المعجزات.

Exit mobile version