مبهمات “الحبر الأعظم”.. وعقوبة الإعدام!

يعد البابا (الحبر الأعظم) رأس سلم الكهنوت الكاثوليكي في الديانة المسيحية، وكلامه له وقْع شديد على الكاثوليك، وهم أكبر الطوائف في هذه الديانة، ومقره هو الفاتيكان الذي يعتبر دولة ذات سيادة.

والبابا الحالي فرانسيس الأول يأتي بتسلسل 265 في سلسة البابوات، وهو شخصية مثيرة للجدل.

وبعيداً عن تعقيدات المؤسسة الكهنوتية الكاثوليكية وطبقاتها, وتاريخها المثير للجدل, إلا أنه من المفروض أن تكون هذه المؤسسة ورأسها (الحبر الأعظم) عالمة بأصول الديانة المسيحية، وما يحتويه كتابها المقدس الذي تحرص على نشره بشقيه العهد القديم (أسفار التوراة) والعهد الجديد (الأناجيل والرسائل) في مجلد واحد تطبع منه ملايين النسخ سنوياً وبمختلف اللغات، مع اختلافات بين طبعة وأخرى، حسبما يراه مجمع خاص من الكرادلة يقوم بالإشراف على العملية، وحسبما تقتضيه بعض التغييرات من مكان لآخر، ومن زمان لآخر، رغم أنها تعاليم ربانية!

دم المسيح

ورغم أن العهد الجديد (الإنجيل) يقر بأن اليهود هم الذين أرادوا صلب المسيح، وألحّوا على الحاكم الروماني بيلاطس لصلبه مع اثنين من اللصوص، وعندما تردد في تنفيذ عقوبة الصلب لشكه في التهمة الموجهة إليه ازدادوا إلحاحاً؛ “وأخذوا يلحون صارخين بأصوات عالية طالبين أن يصلب” (23, لوقا)، وفضلوا إطلاق سراح لص اسمه باراباس كان من المفروض أن يصلب معه, وقالوا لبيلاطس الذي قال: “أنا بريء من دم هذا البار فانظروا أنتم في الأمر فأجاب الشعب بأجمعه: ليكن دمه علينا وعلى أولادنا” (24 – 25, 27 متى).

ورغم هذه الحقائق الدامغة؛ فإن الفاتيكان في الستينيات من القرن الماضي أصدر فتوى يبرئ فيها اليهود من دم المسيح, في واحدة من أغرب الفتاوى في تاريخ الفاتيكان المليء بالدعاوى الغريبة، والتي كان منها نداء البابا أوربان الثاني ببدء الحروب الصليبية عام 1094م ضد الكفرة المحمديين، وتحرير قبر المسيح (الفارغ!) وإصدار صكوك الغفران في القرون الوسطى.. إلخ.

إلغاء عقوبة الإعدام

وقبل أيام أبدى الحبر الأعظم معارضته لأحكام الإعدام جملة وتفصيلاً، وهذا النداء من خليفة القديس بطرس (صخرة المسيحية)، ونائب المسيح على الأرض، والذي حسب إنجيل متى: “فإن كل ما يحله على الأرض يكون محلولاً في السماء، وكل ما يحله على الأرض يكون مربوطاً في السماء”؛ أي إنه بتعبير آخر رجل معصوم.

ورغم بشاعة الإعدام بكل طرقه, فهل المسالة وطرحها بهذا الشكل هي مسالة إنسانية بحتة أم ضد الإنسانية يتم طرحها من شخصية مقدسة عالمة ببواطن الأمور؟ وإن هناك دوافع وراء المؤسسة الكهنوتية الكاثوليكية تحاول نسج المسيحية على منوال جديد بالتمهيد لإلغاء عقوبة الإعدام، وخصوصاً ونحن نعيش في عالم تموج فيه الجريمة والجريمة المنظمة بدوافع شتى، وأقسى الجرائم قتل الناس واغتصاب أموالهم وأملاكهم، وانتهاك حرماتهم من قبل مجرمين لا يمتون للبشرية شيء إلا بالاسم والجسم، وأن معاقبتهم يمثل انتصاراً للإنسانية ليس إلا.

ونحن نميل إلى الرأي القائل – بالاستناد إلى مسألة تبرئة اليهود من دم المسيح كما ذكرنا – بأن العملية مرتبة، وأن مؤلفات جديدة وبرامج وقنوات تصب في إهانة المسيح والمسيحية، وبعضها يصدر عن الفاتيكان نفسه!

المسيح ليس مسيحياً!

بين أيدينا كتاب اسمه “قراءة جديدة للكتاب المقدس” لأحد رجال الدين الكبار في السلم الكهنوتي الفرنسي اسمه إسطفان شربنتية، أقل ما فيه بأن مريم أم الرب هي بنت صهيون, وأن اليهود هم أبناء الرب المختارون.. إلى آخر تلك القائمة التي لا مجال لذكرها، وأن الخلاص لا يكون إلا بخلاص أمة الرب من الإسرائيليين لأنهم شعب الله المختار!

ونؤكد أن هذه الدعوة ومثيلاتها تناقض المسيرة الطبيعية للإنسانية ولكل الأديان والشرائع، فالعقوبة ضد المجرمين هي من صلب العدالة وقلبها الذي تنادي بها كل الأديان، وأن ما دعا إليه البابا يناقض هذه الدعوة وأساسها في الديانة اليهودية حتى صاروا يسمون هذه التناقضات داخل المسيرة المسيحية تطوراً، كما يقول بيرناردشو في كتابه الشهير “المسيح ليس مسيحياً”، ولكنه تطور غير مفهوم متعلق بالمعجزات في علم متناقض اسمه “اللاهوت”.

فهل الدين وتعاليم الرب مجرد ثقافة – كما قال أحد رجال الدين الكاثوليك – لم تعد تجدي نفعاً؟ فالكنائس فارغة، والبيروقراطية الكنسية تنمو وتستغل الثوابت الإيمانية لملء الكنائس على حساب المبادئ, حتى انحطت الكنائس لمناقشة زواج مثليي الجنس، رغم صرامة التعاليم الجنسية التي تمنع الزواج حتى بالمطلقات “فالذي يتزوج بمطلقة يرتكب الزنا” (9، 19 متى)، وهذا هو عين التناقض في المثالية الفارغة لتعاليم الأناجيل, والجنوح نحو رذيلة باسم الإنسانية، هذا مع العلم بأن المسيح قد أوصى بعدم التلاعب بالشريعة قائلاً: “ولكن زوال السماء والأرض أسهل من أن تسقط نقطة واحدة من الشريعة” (16، 17 لوقا)، فإذا وضعنا التغاضي عن عقوبة الإعدام بحق عتاة المجرمين والقتلة والذين لا يأبهون للقيم الإنسانية، ألا نكون قد سهلنا المهمة أمامهم إلى حد كبير؟ ولن نناقش المسائل الاعتقادية والسياسية والتي يحكم فيها على الناس بالموت، فتلك مهمة شاقة وليست ضمن دائرة الطرح, ولكن طرح الموضوع بالعموم وبدون التخصيص يضع المسألة في دائرة الشك والارتباك!

من قتل يُقتل

إن البشرية كلها تنتظر من كل رجال الدين دعوات للفضيلة ومحاربة الشر أياً كان انتماؤهم, وهذه المحاربة لا تكون بشراء الأتباع على حساب المبادئ, فالحبر الأعظم عالم بشريعة التوراة التي تقول: “من قتل إنساناً يقتل, حكم واحد, يطبق عليكم, الغريب كالإسرائيلي, إني أنا الرب إلهكم” (21 – 22, 4 اللاويين).

فرغم عنصرية كثير من نصوص التوراة فإنها لم تدع مجالاً للتفرقة بين الغرباء والإسرائيليين في مسألة القصاص من القتلة والمجرمين, لا بل وحتى تصنف المصلوبين ضمن الملعونين من الله، حيث يرد: “إن ارتكب إنسان جريمة عقوبتها الإعدام ونفذ فيه القضاء وعلقتموه على خشبة فلا تبِت جثته على الخشبة بل ادفنوه في نفس ذلك اليوم لأن المعلق ملعون من الله” (22 – 21، 23 التثنية).

فماذا يقول الحبر الأعظم بشأن هذه النصوص المقدسة؟ أليست إقراراً بوجهة نظر بيرناردشو التي صنف فيها معتقدات الحبر الأعظم وأتباعه بأنها مجموعة من المتناقضات تلفها المبهمات كما أسلفنا؟!

إنها دعوة للتأمل والتفكير لدوافع الحبر الأعظم من هذه الدعاوى وغيرها.

Exit mobile version