الإعلام.. بين البناء والهدم

إن اكتشاف وسائل المواصلات والاتصالات والرقي في وسائل المعرفة والبحث والتحقيق، قد سهَّل الوصول إلى الحقائق والنتائج على أساس البحث والتحقيق، وذلك يتم بالمشاهدة واللقاء أو دراسة آراء مختلفة أو تفسيرات مختلفة للأحداث، وبسبب هذه الوسائل تيسرت طرق المعرفة، وقد كان الباحثون الذين كانوا يريدون الاختصاص في علم، يقطعون مسافات طويلة للاستفادة من شخصية ذات اختصاص في الموضوع، وكانوا يواجهون في سبيله مشاق وصعوبات، وكانوا في هذه المدة منقطعي الصلة عن مواطنهم وأسرهم، وفي تاريخ العلم والعلماء قصص لتحمل مبتغي العلم المشاق الطويلة والمخاطر والمعاناة في سبيل المعرفة حتى في الحصول على نسخة من كتاب.

ولكن وسائل الإعلام جعلت العلم في متناول كل مبتغٍ للعلم، كان الناس يسافرون إلى بلدان بعيدة للبحث عن كتاب توجد نسخة واحدة له مخطوطة في مكتبة من المكتبات أو عند شخصية عالمية كبرى معروفة، وقد تحمل المصنفون هذه الأسفار الطويلة وأشاروا إلى ذلك في مصنفاتهم.

لقد سهلت وسائل الإعلام هذا العمل، ففي متناول كل من يملك الإنترنت بل الجوال، يستطيع أن يصل إلى أي مكتبة ويطالع أي كتاب، وقد وُفِّرت وسائل إعلام جديد في الجامعات التي تدرس العلوم بهذه الوسيلة، فيتعلم الطالب بدون أن يختلف إلى صف في المدرسة أو حضور درس شخصياً، وتجاوز هذا الأمر إلى المعالجة بل إلى العمليات الجراحية التي يجريها الطبيب في مكان بعيد على مريض بعيد عنه.

وبالإضافة إلى ذلك الصحافة التي تصدر جرائدها اليومية، فقد تضاعف عدد الصحف والمجلات، والعاملون فيها والمراسلون لها منبثون في القرى والمدن، ولا يقع حادث إلا وينقل في آن واحد مصوراً إلى مكان بعيد، وتصدر هذه الجرائد تحليلات لأصحاب الفكر والرأي وكثير من المراسلين يكونون مشاهدين للواقع بل مصورين له، فيقرأ القاري ويشاهد الحادث.

هذا هو الواقع في العلم والمعرفة، ولكن الحقيقة هي أن العلم والمعرفة اليوم رغم هذه الوسائل أصعب مما كان في الماضي، والوصول إلى الحقيقة أكثر صعوبة مما كان في الماضي.

إن أكبر مأساة لهذا العصر هي التلفيق والتزوير وقلب الحقائق وعرضها برؤية خاصة، وفي منظر خاص، وقد كان هذا التلفيق في العرض سبباً في دخول أمريكا في الحرب الكونية التي كانت كارثة بشرية ومأساة إنسانية كبرى، وقد كان عرض مظهر دام مزوراً على الأمريكيين الذين كانوا بعيدين عن الحرب، حرضهم وحوَّلهم إلى خوض هذه المعركة.

إن مثل هذا التزوير بوسائل الإعلام الحديثة يجري اليوم بنطاق واسع، وتنقل وسائل الإعلام مشاهد مزورة تحدث في النفوس رد فعل، وأحياناً تجعل الظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً، وتجعل الحسنة سيئة والسيئة حسنة، وفي جانب آخر تقديمُ مناظر الشقاء والقتل والنهب والإفلاس، ومناظر غير أخلاقية تثير الفحشاء وتشوه الأذهان، وتفسد الشباب، جعل النفوس وضمائرها جامدة لا تحركها هذه المناظر السيئة بالإضافة إلى اضطراب فكري، قد يحدث زوبعة في فنجان، وبهذا الموقف أصبحت هذه الوسائل وسائل قلق واضطراب وبلبلة وفوضى.

حرب الداعية

في غضون الحرب في أفغانستان نشرت مجلة “إكنومست” على غلافها عنوان “حرب الدعاية” وفي الواقع كانت حرب أفغانستان ودخول أمريكا فيها نتيجة لدعاية إعلامية مكثفة، فأدت هذه الحرب إلى خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات في الجانبين، ولا تزال الحرب تدمر المنطقة، وتستمر عمليات القصف رغم مرور مدة طويلة، ولا يستغرب أن تتكرر قصة انسحاب القوات الأمريكية من فيتنام.

إن الوضع في الشرق الأوسط يتجه إلى حرب طاحنة، قد تتصادم فيها القوتان العالميتان، وتصبح منطقة الشام مسرح حرب بشعة عالمية كما كانت في الماضي خلال الحرب بين الروم والفرس، وتنقل وسائل الإعلام كل يوم أخبار تنقلات وسائل الحرب والصراعات المسلحة بين مختلف الفرقاء المعنيين، وتكون أذهان القراء، ولا يتضح من هو المعتدي ومن هو المعتدى عليه، وتتضخم كل يوم أعداد النازحين والقتلى، وفي الحقيقة تتحول وسائل كل هذه البلدان للإعمار والتطوير والتقدم إلى وسائل التدمير، فيخرب المسؤولون عن تقدم البلاد كأنهم يخربون بيوتهم بأيديهم، وقد دمرت معظم مدن سورية كلياً بالإضافة إلى سكانها أو قتلهم حتى المستشفيات للأطفال لم تنج من هذه الأحداث.

ولم يقتصر هذا الوضع في الشرق الأوسط، بل تتعدى هذه الأحداث إلى الناشطين للإسلام، وتحول وسائل الإعلام مسؤولية كل حادث في العالم إلى المسلمين وبخاصة الشباب المسلم في كل مكان موضع شك، ولم تنج الهند وباكستان من هذه الدعاية ضد المنتمين للإسلام، بل تعدَّت إلى مراقبة كل متحفظ ومتبع لتعاليم الإسلام، وتُفرَض قيود على مراكز التعليم والتربية.

وبلغ هذا الخوف مما يسمى بالإسلاميين حداً يطارد كل شخص في أوروبا وأمريكا، وأدت هذه النفسية في المواطنين إلى اتخاذ الحكومات لإجراءات تعسفية وقمعية ضد المسلمين عامة، وأكبر دليل على هذا الخوف بيان المرشح للرياسة في أمريكا دونالد ترامب الذي طالب بمنع دخول المسلمين في أمريكا.

وبسبب هذه النفسية للخوف تكثر حوادث الهجوم على المساجد، وتغلق المدارس، وتفرض قيود على أئمة المساجد، وهو أمر يتعارض مع تصور حرية الفكر والعمل التي تتزعمها أوروبا، ويتعدى ذلك إلى التمييز على أساس الدين، وهو أسوأ من التمييز العنصري والتفرقة العنصرية، وقد تأثرت بذلك حالة الأمن أو تأثرت الصلات بين المسلمين وغيرهم.

وبعد حادثة 9/ 11 شن القادة الأمريكيون الهجوم على ما سموه بالإرهاب الإسلامي، فوضعت على أوامرهم قيود على العمل الإسلامي، وتقديم معونات مالية إلى ما وصفوه بوسائل تنمي الشعور الإسلامي، ووصف جورج بوش الابن هذا الحادث بالحرب الصليبية بعد أن القادة كانوا يقولون: إنهم لا يحاربون الإسلام، بل يحاربون الإرهاب أو التطرف أو الإسلام الإرهابي.

وكانت “قاعدة” المزعومة ذريعةً للهجوم، وبعد أفغانستان استهدفوا العراق بتبرير أن حاكم العراق يملك وسائل التدمير الشامل، وبعد ما أدت حرب العراق إلى تدمير البلاد وخسائر في الأرواح وتفكك البلاد ووقوع حرب أهلية بعد سقوط النظام السابق، قد ظهر هدف وعدو جديد، وركز الإعلام العالمي اهتمامه على وجود هذا العدو بدعاية مكثفة ضد هذا النظام وكونه خطراً للعالم كله ووقوع أوروبا كلها عرضة لهذا الخطر، وظهر رد فعل له في أمريكا خاصة، واستغله المرشحون للرئاسة، وتجري الآن تحركات عسكرية واسعة تشمل قوى العالم المختلفة لمحاربة هذا العدو المشترك في المنطقة الواسعة التي تشمل العراق وسورية وتركيا بعملية مشتركة.

لقد تغيرت الأسماء ولكن الهدف الحقيقي واحد، وهو القضاء على اليقظة الإسلامية وتحويل الانتباه عما ترتكبه “إسرائيل” من جرائم، ومن الغريب أن القادة السياسيين يقولون: إنهم لا يحاربون الإسلام بل يحاربون الإرهاب، كما صرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما خلال زيارته الأخيرة لمسجد خارج مدينة بلتيمور بولاية ميريلاند الأمريكية، فقال: إن الهجوم على الإسلام هجوم على كل الأديان، وأكد رفضه محاولات عزل المسلمين في الولايات المتحدة والعالم بناءً على أفعال القلّة التي ترتكب أعمالاً إرهابية باسم الإسلام منوهاً بـمساهمات المسلمين الأمريكيين في مختلف مفاصل المجتمع.

وقال أوباما في كلمته عن سبب قيامه بالزيارة: إنني أريد أن أقول كلمتين لا يسمعهما المسلمون الأمريكيون كثيراً وبالشكل الكافي، وهما: شكراً لكم، شكراً لخدمتكم مجتمعنا (الأمريكي)، شكراً للنهوض بحياة جيرانكم ومساعدتكم لنبقى أقوياء ومتحدين كعائلة أمريكية واحدة.

وتابع أن السبب الثاني للزيارة هو أعلم أنه بالنسبة للمجتمعات الإسلامية في مختلف أنحاء البلاد، فإن هذا هو وقت القلق، وبصراحة وقت لبعض الخوف، فمثل كل الأمريكيين، فإنكم قلقون من تهديد لإرهاب، لكن فوق كل هذا، فإنكم كمسلمين أمريكيين فإن لديكم قلقاً آخر، وهو أن مجتمعكم بأكمله كثيراً ما يصبح هدفاً أو ملاماً للعنف الذي تمارسه القلة القليلة.

وعزا أوباما تعرض المسلمين للاتهامات بالعنف إلى صغر مجتمعهم مقارنة بعدد سكان الولايات المتحدة، ولعدم معرفة الكثير من الأمريكيين عن حياة المسلمين الشخصية، مبيناً أن الطريقة الوحيدة التي يسمع بها العديد من الناس عن المسلمين والإسلام، هي عبر الأخبار بعد وقوع حادث إرهابي، أو الصورة المشوهة التي تستخدمها بعض وسائل الإعلام في التلفزيون والأفلام، ما يعطي هذا الانطباع المشوه بشكل كبير، وفقاً لتعبيره.

فمن نصدق: بيان رئيس يستعد للتقاعد، أو بيان رئيس يُحتمل أن يتولى الرئاسة؟!

ولكن تجري في العالم حركة موسعة علمية وإعلامية ضد خطر الإسلام بصراحة، بل العالم الإسلامي وخاصة الشرق الأوسط الذي يعتبر مهد الإسلام ومركز المسلمين.

كان جورج بوش الأب قد صرح بعد أزمة العراق والكويت أنه سيغير خريطة العالم ويشكل كيانات صغيرة، ويبدو من هذه التطورات في المنطقة الإسلامية أنه يجري العمل حسب خطة بوش الأب، فهل يجري تمهيد السبيل إلى تحقيق هذا الهدف؟ وقد قال الشاعر العربي لبيد بن ربيعة:

وما الناس إلا عاملان فعامل       يـــتـــبــر مــا يــبـنى وآخر رافع

Exit mobile version