ادخلوا في السلم كافة

الإسلام دين الفرد والمجتمع، دين الخاصة والعامة، دين الرجال والنساء، دين المسجد والسوق، دين الدنيا والآخرة، دين يشمل قضايا الدنيا، فيقدم لها حلاً ناجعاً، ورداً مقنعاً، ولا شك أن الدنيا دار العمل، والآخرة هي دار الجزاء، فكل ما عمل الإنسان في الدنيا من عمل يرى نتيجته في الآخرة، قال تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ {8}‏) ( الزلزال).

كان الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل، لكن شريعتهم كانت مختصةً بأزمنتهم، فإذا جاء زمن آخر تبدلت الشريعة، وتغير القانون وفقاً لقوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) (المائدة:48)، لكن الدين ما زال واحداً نظراً إلى قوله صلى الله عليه وسلم: “الأَنْبِيَاءِ إِخْوَةُ مِن عَلاَّتٍ، وَأُمَّهَاتُهُم شَتَّى، وَدِيْنُهُم وَاحِدٌ” (صحيح مسلم:6281)، حَتّى بُعِثَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان على الملة الحنيفية البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وكانت سمة هذه الملة الجمع بين الدين والدنيا، وبين الروح والمادة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وحَّد رجال الدين ورجال الدنيا في صف واحد، وعلَّم العالم بأسره هذا الدعاء: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {201}) ( البقرة).

قد مرت في التاريخ عهود كان الخليج بين الدين والدنيا واسعاً، والفجوة بين عالم الروح وعالم المادة متسعةً، وكان الناس بين معسكرين منفصلين، وكان شعار هذه العهود “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وأعطوا ما لله لله”، وجرت بهذا التقسيم الجائر مناوشات وحروب بين رجال الدين ورجال الدين، وإن قضية محاكم التفتيش ليست بسرٍّ لدى أهل العلم، وقد روى التاريخ أن فصل الدين عن الدنيا أتى بعجائب، وصدرت منه مضحكات ومبكيات، بحيث إن رجل الدنيا كلما صدر منه ذنب كان يأتي إلى رجل الدين، ويعترف أمامه بخطئه، ويقدم إليه نقوداً، فيكتب له صك المغفرة، فترتاح نفس رجل الدنيا أن ذنبه قد غفر، فكان رجال الدنيا أحراراً في شؤونهم الدنيوية، وأمورهم الشخصية، وكل ذلك جراء فصل الدين عن الدنيا، يقول د. محمد إقبال: فلما انفصل الدين عن الدولة، جاءت الشهوة، وشاع الهوى، وساد قانون الغاب. (روائع إقبال للعلامة الندوي).

جاء الإسلام، وملأ هذه الفجوة بين الدين والدنيا، وأنشأ في قلوب الناس أنه ليس هناك فرق بين أعمال الدين وأعمال الدنيا، فكل عمل ابتُغي به رضا الله تعالى اعتُبر عمل الدين، حتى المعاملات والشؤون العائلية التي تشف منها روح المادة الخالصة، تتحول إلى أعمال الدين، وذلك بنية صادقة، وقلب منيب إلى الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات” (رواه البخاري).

جمع الصحابة الكرام رضي الله عنهم بين الدين والدنيا، فكانوا قادة العالم وسادة الأمم، وحينما انحصر الدين في بعض العبادات تخلَّى المسلمون عن القيادة، وصاروا في مؤخر الركب، وابتلوا بالخزي والندامة في الدنيا، ولكن ماذا سيكون مصيرهم في الآخرة يتحدث عنه القرآن الكريم: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) (البقرة:85).

إذا قارنا بين الدين الإسلامي وحياتنا اليومية وجدناها توافق الدين الإسلامي فقط في العبادات: في الولادة والنكاح والطلاق والصلاة على الميت، وتخالفه في الوظائف والعقود والبيوع ومحافل القران، فكم من أموال تُنفق هدراً! وكم من أعراض تُنتهك! وكم من حقوق تُضاع! وكم من قوانين تُخرق! وكم من نظم حديثه تُوضع! فُقد الأمن والسلامة من الفرد والمجتمع، ولن ينال الإنسان الطمأنينة والأمن إلا بتطبيق شريعة الإسلام على نفسه – على أقل تقدير – وبإيصالها إلى الناس كافة.

الحديث عن تطبيق الإسلام يوحي إلى ذهن الإنسان أن تكون هناك حكومة، تؤيد هذه الفكرة وتنفذ هذه النظرة، ولا شك في ذلك، لكن السبيل الميسور الذي سلكه بعض الدعاة والمصلحين في بعض الدول الإسلامية، ووجدوا ثمار الدعوة مائة في المائة هو أنهم يبلِّغون الإسلام إلى أصحاب الحكومات، فيتأثرون به، وينصهرون في بوتقته، ويشرعون نظاماً يوافق تماماً الشريعة الإسلامية، وقد جاءت الحكومة منقادة إلى علماء الدين تجرّر أذيالها، وكانت تحفة ربانية إلى الدعاة المخلصين، فهذا هو أقوم طريق للخروج من الأزمات وتطبيق الإسلام على الفرد والمجتمع، بذلك يتحقق معنى الجمع بين الدنيا والآخرة، وذلك ما قال الله تعالى في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {208}) ( البقرة).

Exit mobile version