تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً

الإسلام دين الوحدة والتضامن، دين الأخوة والمساواة، دين يتساوى فيه جميع أفراد البشر، دين يتفاضل فيه الإنسان على أساس التقوى، فلا لون فيه ولا دم، ولا حسب ولا نسب، ولا زهو ولا نخوة، ولا فخفخة ولا استعلاء، كلكم من آدم وآدم خلق من تراب.

الوحدة قوة وحياة، والتفرق ضعف وموت، كلما توحدت الأمة في أمر أحرزت نجاحاً باهراً، وكلما ابتليت بانتكاس وتفرق ماتت في عقر دارها، ولم يبق لها عين ولا أثر، وقد أوصى الله تعلى بالوحدة والتضامن على اختلاف الأجناس والألوان، وتباين الديار والأمصار، فقال: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) (آل عمران:103).

شهد العالم الإنساني في مختلف الدول أنواعاً من التفرق، ولا شك أن الاختلاف فطرة إنسانية، وقد شهد بذلك القرآن الكريم: (وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ {22}) (الروم)، هذا الاختلاف للتعارف لا للتناكر، للتنوع لا للتناقض، لكن حينما جعل أداةً للتفرق والتشتت توزعت الأمة بين خلايا متنوعة كثيرة، كفى الهند ذكراً أنه قد انقسم سكان الهند منذ القدم إلى أربعة أقسام: طبقة رجال الدين (وهم البراهمة)، ورجال الحرب، ورجال الفلاحة، ورجال الخدمة، وقد كان هذا التقسيم محموداً لديهم، إذ أشرقت شمس الإسلام على أرضها فأتحفت بوحدة الرب ووحدة الأب، فانكمشت تلك الفوارق، وزالت تلك الحواجز التي أقامها الناس للتقديس والاحترام.

جاء الإسلام فجمع بين القاصي والداني، وألَّف بين القلوب المتناكرة، والقلوب المتحابة، وملأها رحمةً ومودةً، وحباً وألفةً، فهذا بلال الحبشي، وهذا سلمان الفارسي، وهذا صهيب الرومي رضي الله عنهم، كلهم غير العرب، لكن الإسلام ربطهم في خيط واحد، وأقامهم على رصيف واحد، فلا يحبون إلا لله تعالى، ولا يبغضون أحداً إلا لله، ولا يجتمعون ولا يتفرقون إلا لله وفي الله، فامتلأ الجو إيماناً وإخلاصاً، وقد بذل الصحابة رضي الله عنهم لإبقاء أواصر الحب والوحدة جهوداً مضنيةً، فهذا الحسن بن علي رضي الله خليفة المسلمين، حينما شعر بأن هناك طائفة من الناس تريد أن تحدث الشقاق في المجتمعات الإنسانية، وتسلب روحها وجوهرها، وكاد أن يستتب الجو لهذه الطبقة، ضرب مثالاً رائعاً إلى يوم القيامة بعمله التاريخي العملاق، بحيث تنازل عن منصب الخلافة دحراً لهذه الفتنة العمياء، وصدق ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن ابني هذا سيد، لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين” (صحيح البخاري).

العالم كله من شرقه إلى غربه متألم بالتفرق والتمزق، ومثخن بجراحات الاختلاف والنزاع، وهو يئن من وطأة الأثقال، وكلوم الأجساد، ويطلب الغوث والنجدة من أولي الغيرة والإيمان، ولا يمكن جمع الأمة على رصيف واحد إلا بتزكية القلوب، وجمعها على كلمة واحدة، وعلى أساسيات الدين الحنيف، هنالك يسود العالم جو من الأمن والسلام، والأخوة الدينية، قال شاعر:

رص الصفوف عقــيدة                أوصى الإله بها نبيه

وقيل: ويد الإله مع الجماعة والتفـرق جاهلية.

ولا شك أن أخوة الإسلام هي العروة الوثقى، التي لا انفصام لها، فقد انخرط المسلمون في سلك واحد، وإن كانوا من شتى البلدان، لا يكسر هذه العلاقة حدثان الدهر، ولا نكبات الزمان، فإذا كان المسلم في أقصى الأرض، وهو يتعرض للظلم والاضطهاد، ويستهدف للتشريد والتقتيل، فلا يكون أخوه مسلماً حقيقياً إلا بتقديم النصر إليه، وعلى أقل تقدير الدعاء له، وقد كان المسلمون السابقون غيارى للإسلام، قاموا لنجدة إخوانهم في جنح الليل، وفي حر الظهيرة، وقد دل على ذلك صراخ: وا معتصماه، فالعالم الإسلامي يحتاج إلى مثل هذا المستغيث الضعيف والمغيث العبقري العصامي، فأنّى لنا ذلك؟ ومن يعيد هذا التاريخ المشرق اليوم؟

قال معن بن زائدة:

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا            وإذا افترقن تكسرت أفراداً

كونوا جـــميعـاً يا بني إذا اعترى           خـــــطـــب ولا تــتــفرقوا آحاداً

Exit mobile version