لماذا نخاف من العولمة الثقافية؟

إن عولمة الشيء تعني جعله عالمياً، ولذلك فيجب عدم الوقوع في فخ المصطلحات، فالعولمة ليست طمساً للهوية فقط كما نعتقد، فهي في جانب آخر تعني الانفتاح على العالم والتفاعل معه.

دخلت العولمة كمفهوم عند كثير من المفكرين المسلمين كعملية يقصد بها جعل العالم كله بشرقه وغربه عالماً واحداً موجهاً نحو هدف واحد في إطار حضارة عالمية واحدة هدفها تقويض الإسلام نظاماً وفكراً، وهو أمر خيالي إلى أبعد الحدود؛ لأنه يخالف النواميس التي فطر الله الناس عليها؛ (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود).

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات).

والعولمة الثقافية تشمل التغيرات في المعتقدات والعادات والسلوك الاجتماعي وما إلى ذلك يجب التعامل معها بحذر وعقلانية كظاهرة تفرض نفسها بواقع دولي جديد لم يمر على الإنسانية من قبل وليس كظاهرة عدائية فقط يجب محاربتها.

ونحن لا ننكر أن نشر الثقافة الغربية والمعتقدات المسيحية قد صاحب الموجات الاستعمارية نحو الشرق، وأن البعثات التبشيرية قد قامت بدور كبير في هذا المجال، وأن هذا الهدف مازال قائماً ولكن بصورة مختلفة وكنتيجة حتمية لتغير تكنولوجيا الاتصالات وسهولة التنقل بين أرجاء العالم، وتغير أشكال وأنماط الاستعمار وظهور قوى جديدة واختفاء أخرى، فهذا الجانب يتعلق بربط التراث الثقافي للأمم المغلوبة بتراث الأمم الغالبة لأسباب اقتصادية واستعمارية بحتة لها مقام آخر، ولم تحظ بالنجاح داخل المجتمعات الإسلامية، وذلك لعمق الجذر الإسلامي الثقافي والتجربة التركية مثال واضح على ذلك.

ورغم هذه الحقيقة، فإن تغير أحوال العالم تجبرنا على ألا نبقى أسرى الماضي بشرط ألا ننساه، وألا نتخذه أساساً لكل حركاتنا وتفكيرنا، فهذا هو الموت الفكري بحد ذاته، فالتطلع نحو المستقبل والتغيير يدعونا لعملية توازن بين الماضي والحاضر والمستقبل، وأن العولمة الثقافية ليست تغريباً كما يعتقد البعض، فحضارات الشرق الصينية والهندية والإسلامية بدأت تأخذ مكانها في العالم الثقافي ولو ليس بقوة الحضارة الغربية والأمريكية خصوصاً والتي تفرض نفسها بأنماط جديدة على التاريخ البشري من خلال ربط الثقافة بالعلم والتكنولوجيا المتسارعة بالتقدم بشكل لم يسبقها إليه حضارة أخرى.

هذه الحقائق تجبرنا على الوقوف والتأمل عن سبب طغيان الحضارة الأمريكية، فهذه الحضارة ورغم عدم توافقها مع موروثها الديني والأخلاقي فإنها حضارة ديناميكية سريعة، تأخذ وتعطي وتتفاعل مع الحضارات وتفكر في الأمور المستقبلية بشكل لم تسبقها حضارة أخرى عليه، ويجب الوقوف عند هذه الظاهرة وغيرها ودراستها بموضوعية وحكمة، وليس بإعلان الحرب عليها فقط.

ورغم هذه الحقيقة، ورغم الهيمنة الأمريكية السياسية والعسكرية، فإن العالم ليس أمريكياً بالمطلق من الناحية الثقافية، ولن يكون كذلك، وأن السيطرة الثقافية المطلقة مجرد خرافة، وكتاب “صدام الحضارات” لهينتجتون ذائع الصيت يعتبر دليلاً دافعاً على هذه الحقيقة، ففي هذا الكتاب توجسات حضارية واضحة، خصوصاً بما يتعلق بالحضارة الإسلامية ذات الجذور الضاربة، بالقدم وهذا ما يعيد الثقة بحضارتنا وثقافتنا وبعدها الأخلاقي المتميز إن أحسنا تقديمها بصورة عصرية لا تمس الجذور بسوء.

لقد وقع بعض مفكرينا في فخ السطحية المفرطة عندما تخيلوا بأن مفهوم العولمة ينحصر بانتشار الكوكا كولا وتناول همبرجر وماكدونالد، علما أننا نستطيع تناولهما قبل الدخول إلى أي مسجد وتلاوة القرآن الكريم، وأن شخصيتنا لن تمحى لو تناولنا هذه المشروبات والمأكولات! حتى في موسم الحج وهو أحد مظاهر العولمة الثقافية التي لا يمكن تجاهلها.

إن العولمة في بعض مفاصلها العلمية والتكنولوجية تعد أمراً حتمياً للتقدم، وجزءاً منها هي العولمة الثقافية الشاملة، واللحاق بالركب العالمي، خصوصاً إذا كانت طريقاً نحو الإبداع الفني والتكنولوجي والفكري، فيجب قبوله وتشجيعه بما يحفظ كياننا، وهي مسألة تاريخية محسومة لصالح المسلمين عندما أدى أجدادنا دور الرواد في عولمة المعارف قبل أكثر من ألف عام، من خلال هذه الحقائق وبمعرفة أن حوالي 65% من مجمل المواد الإعلامية والثقافية والترفيهية هي إنتاج أمريكي، وأن الإنتاج الفكري العلمي والتكنولوجي الأمريكي يقارب هذا الرقم، فإننا يجب أن نحدد موقعنا ضمن هذا الإطار لا بالخوف ونشر الرعب الفكري وكأننا أسرى الماضي لا نستطيع التفاعل مع الحاضر والمستقبل العالمي وأخذ ما يفيدنا وترك ما يضرنا، فحجة الحفاظ على الأنا والتقوقع الفكري التعصبي أمران يسحقهما التطور الفكري والحضاري الحالي، وخير وسيلة للحفاظ على الأنا هي تقديم فكرنا وديننا بوجهه الأصلي الحضاري المتسامح، والرد على كل من يحاول الإساءة لثقافتنا وديننا بالحجج الدامغة والدراسات التاريخية المعمقة والابتعاد عن ثقافة السباب والشتائم والتهديد والوعيد واستخدام الوسائل العنفية، فكل ذلك لا يفيدنا بشيء، وينقلب علينا حيث سنوضع في خانة السطحية والإرهاب ولا غير، وهذا ما يحصل مع الأسف الشديد في أيامنا هذه.

وفي خضم الإنتاج والتفاعل، نستطيع أن ندخل الساحة العالمية بثقة بالغة، كما دخلت الصين اقتصادياً وفكرياً للحظيرة العالمية، عندها فإن قيادة أمريكا للعالم ثقافياً ستتضاءل، ولن تستمر، وقد ذكر ذلك كثير من المفكرين كإدواد سعيد، وروجيه جارودي، وعلي عزت بيجوفيتش، في كتابه الشهير “الإسلام بين الشرق والغرب” عندما قارن الحضارة الإسلامية بكل الفلسفات وأثبت تهافتها أما الإسلام المتسامح.

إن عصرنا هذا هو عصر الطغيان الإعلامي، وكما استغلت أمريكا ووسائلها الإعلامية التسهيلات التي أحدثتها ثورة الاتصالات، فإن نفس الأبواب مشرعة أمامنا لطرح أفكارنا وثقافتنا، ولا يوجد ما يمنع ذلك سوى ذلك السيل من الخصام والشتائم والاتهامات والتكفير بين فرقاء هذه الأمة الذين لا يجيد معظمهم إلا نبش الماضي وتغييره حسب أهوائهم، حتى إن الإمبريالية الثقافية إن جاز لنا التعبير بها كمصطلح لن تجد خيراً من هؤلاء الذين يشوهون ثقافتنا ويوصلونها للحضيض وهم محسوبون علينا بطريقة لباسهم ومشيتهم وأمور تافهة أخرى لا تقدم ولا تؤخر شيئاً.

إن ثقافتنا الإسلامية الأصيلة تقدم فكراً متكاملاً عن معنى الحياة وما بعدها وعن عظمة الخالق ورحمته، وهي ليست ثقافة هدم القبور والآثار، ولا هي ثقافة المادة واللذة فقط، إنها ثقافة التفاعل بين الروح والمادة، ولكي تكون ثقافتنا عالمية يجب أن نكون واقعيين وليس حالمين بأمجاد الأزمان الغابرة عند ذلك تزداد مصداقيتنا ونحظى باحترام العالم، ونستطيع التفاعل معه، فإن استطعنا ذلك وتقديم ثقافتنا بشكل واقعي متجدد، فلا يوجد شيء اسمه الخوف من العولمة الثقافية أبداً، فالحضارة نتاج عالمي متداخل لا يقتصر على أحد، ونستطيع الوقوف في أوسطها إن سلكنا الطريق الصحيح. 

Exit mobile version